مقالات في صحيفة المشرق

قراءة في كتاب

…………………………

(1)

كتاب/ ابتسم أنت في بغداد – المؤلف/ د. طه جزاع

مقالات تخلق من الهموم طرفة

 

مع أولى قطرات الغيث
في أروقة (المشرق العراقية) الغراء
والشكر موصول
للزملاء الأعزاء أعضاء أسرة التحرير

(( مع وافر الامتنان للفاضل الأستاذ الدكتور طه جزاع في سعيه الكريم وإتاحة هذه الفرصة الكريمة ))

همى الغيث

 

 

كتاب يدعو عنوانه القارئ للابتسام، فما يلبث أن تخنقه مقالاته بالعبرات .. جاءت بقلم ابن الأرض الذي عاصر وقائعها كشاهد من أهلها .. وليس الخبر كالعيان!. إنه أ. د. طه جزاع، الأستاذ المحاضر في علوم الفلسفة، وكاتب الأعمدة الصحفية في الجرائد والمجلات والمواقع الإلكترونية، والذي شغل منصب (رئيس التحرير) لعدد منها، وله عدد من الإصدارات الفكرية وقد فاز بالجائزة الأولى لمسابقة (ناجي جواد الساعاتي) في دورتها التاسعة عن عام 2018، عن كتابه الأخير في أدب الرحلات. يصدر هذا الكتاب عن (دار دجلة للنشر والتوزيع)، ويضم عدد من المقالات التي نشرها الكاتب في جريدة المشرق العراقية بعد انقطاع لردح من الزمان، وبعد مناورات لحوحة من أقرانه الصحفيين. وقد شبّه فترة انقطاعه تلك كحالة خرس روحاني لصوفي مخضرم، بين ما كان في حقبة من قرن مضى، وما استجد في حقبة من قرن جديد. وعلى الرغم من أن المقالات في مجملها تمسّ الواقع العراقي وفي الصميم، إلا أنه لن يضيرها استبدال (بغداد) بأي مدينة عربية على امتدادها من المحيط إلى الخليج، على طريقة أمير شعرائها أحمد شوقي في قوله: (كلنا في الهم شرق).

لقد أصبح الفرد العربي في معاشه اليومي بحاجة إلى تحويل واقعه المرّ في بعض أوجهه إلى طرفة، ليس على سبيل السخط أو السلبية أو السخرية، بل لأنها قد تكون (الأخف) تعبيراً فيما يحوطه من قسوة وبؤس وشقاء، كما كان يفعل الكوميدي العالمي شارلي شابلن، وكما كان يقول: (أنا أصنع من ألمي ما يضحك الناس، لكنني لا أضحك من ألم الناس).

يأمل الكاتب من خلال نشر مقالاته هذه أن يصل بمعاناة شعب العراق -الذي ما برح يقاسي ويلات الاحتلال الأمريكي الممنهج منذ ابريل 2003- إلى أخوته في الوطن العربي الفسيح، مؤكداً أن هذا الشعب في عراقته وشموخه وعزيمته -وقد فُقد منه الملايين بين مهاجر ونازح وقتيل- قادر على أن ينهض من جديد ليعمل ويبني وينتج، ويكون كما كان دائماً البدر المنير في الليلة الظلماء، وكما تغنّى شاعره العظيم مصطفى جمال الدين في رائعته الخالدة: (مرت بك الدنيا وصبحك مشمس .. ودجت عليك ووجه ليلك مقمر).

يعرض فهرس الكتاب تسعة عناوين رئيسية لعدد من المقالات في الأدب الساخر تتفرّع عنها، جادت من رشاقة الكلمة وغزارة المعنى ما يُعين على طيّ الجلدة الأخيرة للكتاب خلال سويعات. هي: 1. ابتسم أنت في بغداد / 2. مقبرة الشرف الرفيع / 3. بلاد العرب أوطاني / 4. لعنة الفراعنة / 5. صناعة التاريخ على سطح المريخ / 6. دع القلق وأبدأ الحياة / 7. لائحة حقوق الحمار / 8. (فيسبوكيات) وفضائيات راقصة / 9. باشوات الصحافة وثيرانها.

ومن المقالات المضحكة المبكية التي جاءت تترجم المأثور العربي الضاحك من شر البلية، اختار ما علق في ذاكرتي منها ما يلي:

  • تتخذ عملية تفتيش المركبات ذهاباً وإياباً صباحاً ومساءاً شكل من أشكال إثارة الغثيان، والإمعان في نكد المواطن الغلبان، إذ بين كل سيطرة بوليسية وأختها تتناسل سيطرات وتتوالد وتتكاثر، مضافاً إليها الوقت المهدر في استخدام أجهزة السونار لفحص المركبات، رغم ثبوت عدم جدواها في الكشف عما هو أدهى وأمر من حشوات الأسنان وطلاء الأظافر.
  • في مذكراتها عن بغداد الستينات، لا بد وأن يضحك القارئ على الجدة الهولندية (يوديت) وهي تمتلئ رعباً من أرطال اللحم في السوق الشعبي والذي كان لا يُرى أساساً وقد التف حوله سرب من الذباب. ويستمر في ضحكه وهي تصوّر عملية بيع اللبن الصباحية طازجاً على الطريقة البغدادية، إذ يحظى الزبون بزيارة البقرة الحلوب مع صاحبتها لتقف عند عتبة بابه برسم الخدمة على طريقة (التوصيل للمنازل) .. فيحلب ويشرب، في التو واللحظة.
  • الشقاوات العراقية .. أخوة الفتوات المصرية (في الكار)، قد شوّه التراث المنقول سيرتهم، إلا أنهم في حقيقة الأمر على مذهب الإنجليزي روبن هود .. أشداء على الطغاة رحماء على المستضعفين، يتتبعون الظالم حتى ينتزعوا منه حق المظلوم عنوة .. وبلطجة أحياناً. وقد كان (عبد المجيد كنه) أشهر الشقاوات البغدادية، إذ قاوم ورفاقه الاحتلال البريطاني، وساهم في الحركة الوطنية من خلال التهديد العلني بالقتل ضد كل من يتواطأ مع جيش الاحتلال، وقد نال شرف (شقاوته) بالإعدام شنقاً عام 1920، إذ شيّعته الجماهير ونصّبت له سرادق العزاء .. رحمه الله.
  • وبينما يفخر الكاتب بعلم بلاده المرفوع بيد العدّاءة البطلة (دانا حسين)، ومن خلفها الوفد الرياضي العراقي على أرض ملعب جزر العجائب بلندن عام 2012، تحت صيحات الحماس الجماهيري المنقطع النظير، ينتقد افتقار العراق نشيد قومي موّحد. ويسترجع في هذا التصنيف الذي جاءت به صحيفة التلغراف البريطانية عن النشيد الوطني العراقي كواحد من بين أسوأ عشرة أناشيد في تلك الدورة الأولمبية، والتي ضمّت 200 نشيد وطني للدول المشاركة. ومن جانب آخر، لا ينسى الكاتب ذلك المواطن الأصيل الذي اتصل بالإذاعة فرحاً مهنئاً بنتائج إحدى المباريات، رغم أنه شهد صباح ذلك اليوم تفجيرين في منطقته ببغداد، وردّ المذيع العراقي الأكثر أصالة ووطنية بـ: “عفية”.
  • وفي مقالته (العراق الأفريقي)، يقترح الكاتب نقل العراق إلى دول خط الاستواء الأفريقي بعد ثبوت تورّط عدد من الدول الكبرى في التلاعب بمناخه، إذ من المتوقع أن ترتفع درجة الحرارة فيه لتصل إلى 70 درجة مئوية خلال الثلاث سنوات القادمة، وما سيترتب عليها بالضرورة من تغييرات ديمغرافية في الشكل واللون والسحنة، إضافة إلى التغيرات الطبيعية الأخرى.
  • وعلى غرار سخرية القدر، يتهكم الكاتب على الخبر الذي أورده مدير الزراعة لإحدى المحافظات وهو يُنبئ عن وصول أفواج من طيور الأروي الملونة والهاربة من صقيع سيبيريا، لافتاً الانتباه إلى ما تحمله (الهجرة) من رمزية البحث عن الدفء والرزق والأمن وسائر متطلبات الحياة .. المتطلبات ذاتها التي يهجر فيها العراقي أرضه إلى أرض الله الواسعة، بحثاً عنها!.
  • يسترجع الكاتب بعض القفشات التي وقعت حينما تم استقطاب عدد من الممرضات الهنديات في فترة من القرن الماضي، وما صاحب ذلك من صعوبة في التخاطب على الرغم من رواج الأفلام الهندية بين العراقيين آنذاك. إذ حرص البعض على تعلّم عدد من الجمل الهندية البسيطة لاستخدامها في بعض المواقف، مثل (ما اسمك) عند التعارف، و (أنت جميلة) كنوع من الكياسة، و (لن أنساك) وقت الوداع. إلا أنه يذكر تورّط أحدهم عندما لقّنه صاحبه مقولة: “موست شادي كارونجي” على أنها مرادفة لعبارات الشكر عند الوداع، وهو لا يعلم عندما قالها لأحدى الممرضات وقت خروجه من المستشفى بأنه يعرض عليها (الزواج).
  • ولا تزال جورجيا الاقتراح الأول عند العراقيين لقضاء إجازة صيف ممتعة واقتصادية، بعد أن دمّر الربيع العربي صيف وشتاء المنتجعات السياحية في معظم البلاد العربية وساكنيها من عرب عاربة ومستعربة.
  • وعن ظاهرة تفشي حبوب الهلوسة وأخواتها بين أفراد المجتمع العراقي، تشير القاضية العراقية أن الأمر تطور إلى درجة توفيرها كخدمة علاجية على هيئة حقن دوائية من خلال عيادات وعلى أيدي معاونين طبيين، في حين أن معظم بلاد العالم تقننّ عملية صرف الأدوية من خلال وصفات طبية، وإن كانت بسيطة كالبنادول والأسبرين.
  • وفي محاولة لاستنباط درس تاريخي يتقاطع بين الهند والعراق رغم البون الشاسع بينهما، يترحّم الكاتب على المناضل (غاندي) وقد اعتصر قلبه الألم لحظة ما أعلن رفيق دربه (محمد علي) استقلال الباكستان عن الهند عام 1947، وعلى أساس ديني محض، رغم تعدد الطوائف العقائدية والمذهبية بين أبناء الهند أجمعين. فكيف اجتمع الشامي بالمغربي؟ وما أشبه العراقي بالهندي!.
  • بينما لا تشجّع الأمم المتحدة عودة اللاجئين العراقيين إلى أرضهم في الوقت الراهن، يعتّصر قلب الكاتب ألماً وقهراً على ما آلت إليه أوضاع شعب كان عزيزاً فذل، فاصطف في طوابير طويلة مهينة أمام شبابيك سفارات بعض الدول يستجدي لجوء إنساني، في حين تصدّ أبواب السفارة العراقية عنهم -وبوجوه مكفهرة- أوسع أبوابها، وتصبح تصريحات -بل قل تطبيلات- الأمم المتحدة أصلح للنقع والعبّ.
  • تستوقف القارئ سيرة (شارل ديغول) الزعيم التاريخي لفرنسا .. مصلحها وواضع دستورها، وسياسته في التعامل مع معارضيه، إذ لم يذكر التاريخ أنه كمم أفواه أو صادر آراء أو اعتقل أو سجن أو سحل أو شنق أو حرق أو اغتصب أو سرق …، معتبراً أنه من الصعوبة بمكان إرضاء الناس جميعاً وعلى الدوام، مبرراً ذلك بمقولته الشهيرة: (كيف يمكنك أن تحكم بلداً فيه 246 نوعاً من الجبنة)؟
  • وفي تشبيه مبطّن، عقد الكاتب مقارنة ذكية بين سكان بلاد الواق الواق ونظرائهم في بعض بلاد الجوار! فالثروة الفائضة من الذهب جعلت لكلابهم وقرودهم أطواقاً من ذهب كما ذكر العالم (محمد بن زكريا الرازي) في مؤلفاته عن تاريخها، ولديهم من القواسم المشتركة الأصيلة في الدين واللغة والأعراف ما تكفل وحدتهم. غير أن السلطة الحالية تقبض على تلك الثروة بالدم والنار والحديد ومن يتنازع عليها من المتملقين، في حين أن القواسم المشتركة لبقية أفراد الشعب هي التشرذم والكذب والغدر والسرقة، والانغماس في شهوة الأكل والجماع والنوم والغناء والرقص وجمع المال، والنزوع إلى الثرثرة والخلاف والصراخ لأتفه الأسباب في كل حين. فلا غرابة أن يعاني سكان هذه الجزر الواقعة في بحر الهند والذين (تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى) من الفقر المدقع في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والتكنولوجيا …الخ. رغم هذا، فهم يتميزون بعدم وجود هيئات ومفوضيات ومجالس ولجان ومداهمات واعتقالات ومظاهرات واغتيالات وإعلام …. تشنّها السلطة عليهم، خلاف ما يتميز به أهل سكان الجوار أولئك!.
  • في نقده لرضوخ المواطن العربي لبرمجة عقله وطلسمة فكره تجاه ما يُملى عليه من أعلى، وبما هو مدعاة للاستسلام والتسليم والخضوع والخشوع، يأتي مصطلح (الاستحمار) الذي استحدثه المفكّر (علي شريعتي) كتشبيه حرفي بليغ لا يحيد.
  • وبشيء من التعجب، يستعرض الكاتب رأي صاحبه الحماسي في الحاجة لتدريس مهارات الفساد الإداري والمالي كظاهرة عالمية، والتي تم تلخيصها في قصيدة (احترامي للحرامي) التي أذيعت على لسان شاعرها الأمير السعودي (عبدالرحمن بن مساعد)، ومُنعت عندما أنشدتها المطربة المصرية (آمال طاهر) في مدينة الدوحة!. تأتي هذه الحاجة الملحاحة لحماية المبتدئين وصغار الفاسدين الذين لا يزال يعتور ضمائرهم شيء من النزاهة وحسن النوايا، وللاستفادة أيضاً من خبرات سرّاق الأوطان وكبار المحترفين في الفساد والإفساد، لا سيما في الدول التي تتصدر تقرير المؤشر الدولي السنوي للفساد، كالصومال وأفغانستان وتشاد … والعراق.
  • يتحدث الكاتب بنبرة صادقة عن تفشي ظاهرة العنوسة بين النساء في الوطن العربي ككل، والتي جاءت كاختيار حرّ للمرأة العربية في سبيل علمها وعملها وكفاحها ونجاحها .. المجالات التي أبدعت فيها وأبهرت، مضحيّة بالفطرة البشرية في الارتباط والاستقرار. أشاطر الكاتب الرأي في أن هذه العنوسة “وردية” طالما أن الوعود قبالتها زائفة، وارفض معه كلية تشبيه المرأة الحرة الأبية بالرجل، سواء كان فرداً أو يشكّل من العدد عشرة .. فليس الرجل مضرب مثل عنتري ولا نموذج يُحتذى به في البطولة!.
  • يقرأ الكاتب على (الرجال) السلام، في أمة تنتحر فيه الفتاة اليافعة والمرأة الناضجة على حد سواء، كرد فعل أوحد أمام جبروت وطغيان وقهر الرجال -بل أشباه الرجال ولا رجال- المتفنن في كافة صنوف العنف والتمييز، كالزواج القسري، الحرمان من التعليم، الضرب، القذف، التهديد، الخطف، الاغتصاب … وغيرها من الكبائر المحصّنة بالقانون أو بالعرف العشائري.
  • على الرغم من اقتضاب المقال، فإن جرائم الشرف ضد المرأة التي لا تزال في اضطراد والتي لا تشمل تلك التي تم اقترافها تحت جنح الظلام، كفيلة بأن تجعل الحليم -وهو في الألفية الثالثة- حيران .. وكأنه مواطن جاء على غفلة من أمره متأخراً إلى عصور الظلام.

علاوة على ما ذُكر، يطيب لي أن اقتبس بعض ما ورد في الكتاب من جميل القول (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):

  • في مقالة (يا طويل العمر) يعرض الكاتب من خلال إحدى الميثولوجيا الشعبية مدى جهل الإنسان المجبول على الطمع حين اختار أن يطيل الله في عمره خلافاً للحيوانات التي طالبت بتقليص أعمارها بعد أن وعت حجم الشقاء الذي ينتظرها، فينصح قائلاً: “الأعمار بيد الله لكن حذار من أن تسمح لأحد أن يدعو لك بطول العمر، فإنه إنما يدعو لك بطول المعاناة في حياة كلها منغصات ومخاوف ووساوس وهلوسات وفوضى ومفخخات وعبوات ولاصقات وكاتمات واغتيالات .. يا طويل العمر”.
  • يعرّي الكاتب في مقالة (زوجة صينية) سوأة العقلية الذكورية التي مسّها من نقصان العقل والدين ما جعلها تستميت في الحصول على زوجة آلية تطيعه إذا أمر بكبسة زر على جهاز الريموت كنترول، فيقول بعد أن انتشر مقطع فيديو طريف عن إعلان لها: “وانتشر هذا المقطع مثلما يقال انتشار النار في الهشيم في هواتف الرجال النقالة من العزاب والمتزوجين، وتداولوه بين هواتفهم نكاية بالزواج والزوجات، وانتصار للفكرة الأزلية التي تعشش في أذهان الذكور ولا أقول الرجال، عن زوجة مطيعة لا حول لها ولا قوة، ولا رأي لها ولا فكرة، تستطيع أن تطويها وتحتفظ بها في دولاب الملابس متى شئت، أو أن تبرمجها على كلمات محددة ….”. وأعقّب بدوري: لا حرج على رجولة عرجاء أرادت تجبير عاهتها بين الأمم فربضت فوق حق النساء!.
  • يختم الكاتب مقالة (ولم يغرق الحب) التي تطرّق فيها لقصة نجاح (سيلين ديون)، صاحبة الصوت الملائكي الذي ظل يتردد صداه رغم غرق التيتانيك واستقرارها في قاع المحيط، بكلمات من لؤلؤ: “الحب الصادق يبقى ويستمر إلى الأبد. هو سباح خرافي لا يغرق ولا يموت، حتى وإن غرقت جميع السفن والزوارق، وغرق كل من على متنها من عشاق مجانين وسباحين ماهرين”.

ختاماً .. لطالما شغفني العراق العظيم منذ صغري .. أرض الحضارات ومهد الأنبياء وموطن الأولياء .. سمائه وتربته، أنهاره وأشعاره، أطياف شعبه الممتزجة ألواناً وأسماءً وأعراقاً واعتقاداً ولهجة ولحناً وثقافة. شاء الله أن تصبح أحلك أحقاب أرض السواد نصيب أعمارنا التي كلما تقدمت بنا، تقدم الشر المحدق بها، ليحيلها من أرض سواد في تراصّ نخلاتها الباسقات، إلى أرض سواد في هرجها ومرجها، مدلهم نهارها كليلها. “وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس” .. ولأن (دوام الحال من المحال)، أرجو للكاتب الفاضل د. طه جزاع أن يمنّ الله عليه بمديد العمر، فيتحفنا بمقالات (مضحكة مبكية) جديدة .. تبكينا فرحاً ونضحك معها زهواً، وتدعونا لنبتسم من جديد أمام واقع أكثر جمالاً وسلاماً وتحديداً في بغداد .. مدينة السلام، كما خصّها الكاتب في عنوان كتابه.

سيبقى هذا الكتاب يحمل وجدانياً ذكرى مختلفة، فقد جمع بين كاتبه وكاتبة هذه السطور في صداقة توطدت بإهدائها مجموعة إصداراته الثرية التي نشرها بعد هذا الكتاب بسنوات طوال .. وهو الكتاب الأول الذي حظيت بنشره من خلال صحيفة المشرق العراقية الموقرة .. وأول الغيث قطرة.

يسعدني تواصلكم معي على: hma-algaith.com

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 9 مارس 2022 – جزء (1) صفحة (10):

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/03/5070.pdf

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 10 مارس 2022 – جزء (2) صفحة (10):

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/03/5071.pdf

 

……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..

(2)

كتاب/ أديان العالم – المؤلف/ د. هوستن سميث – المترجم / سعد رستم

الإيمان بالله وبتعدد كتبه ورسله .. مما قصّ علينا ومما لم يقصصّ

 

 

كتاب يُبحر بقارئه في رحلة روحانية متعمقة نحو أديان العالم الكبرى، ليكشف عن روح كل دين وجوهر الحكمة وراء فلسفته وطقوسه وتعاليمه، في لغة تخالف التقليد العلمي السائد القائم في الأساس على عرض كل دين في قالب أكاديمي صرف، بكتبه المقدسة ومعلميه ومعتنقيه ومذاهبه وتعاليمه الرئيسية ومدى انتشاره … الخ، والذي يكون في العادة معززاً بالبيانات والجداول والإحصائيات.

لا تأتي هذه اللغة المختلفة عن هوى أو من فراغ، إنما هي عصارة ممارسات إيمانية حيّة وعميقة لتعاليم تلك الأديان، انهمك فيها المؤلف نحو خمسين عاماً، وأخلص لها إخلاص المؤمن الحقّ. بهذا النهج المتفرّد، لا يعرض المؤلف شيء من آرائه أو انطباعاته الشخصية كباحث في هذا المجال على الرغم من اعتناقه لكل هذه الأديان وممارسة شعائرها طويلاً فوق أراضي معتنقيها، بل جاء عرضه حيادياً بالكلية. أيضاً، لا يعمد المؤلف إلى التجريح أو التهكم مهما حمل أي دين من معتقدات أو ممارسات غير مألوفة قد تدعو لذلك، بل يظهر متصديّاً في بعض الأحيان أمام ما يحوم حول كل دين من أقاويل وشبهات، فيعمد إلى تصحيحها منطقياً وفلسفياً. عليه، يتحلّى الكتاب بالصدق والمصداقية معاً، فالمؤلف تلقّى علوم كل دين من مصدره المباشر، وألّف مؤلَّفه بعد أن اعتنقه ومارسه!

يخصّ الكتاب في ختامه صفحتين لتسطير شيء من سيرة مؤلفه الذاتية. إنه الناسك الروحي البروفيسور د. هوستن سميث (1919-2016). وُلد ونشأ في الصين لأبوين أمريكيين نصرانيين يعتنقان البروتستانتية ويعملان في التبشير، البيئة التي تفتّحت عليها مدارك العالِم الصغير نحو تنوع الأديان وفلسفاتها، وهو الأمر الذي دعاه للالتحاق ببرامج الفلسفة في الجامعات الأمريكية بعد عودته لوطنه وهو في الخامسة عشر من عمره، ليتوّج مسيرته الفكرية بالحصول على درجة الدكتوراة في الفلسفة من جامعة شيكاغو عام 1945، ومن ثم الانخراط في سلك التدريس في عدد من جامعات بلاده العريقة. استمر في اعتناق المسيحية رغم إعجابه الشديد بالحكمة الشرقية، وقد تتلمذ على أيدي رهبان الهندوسية، ومارس الزن من خلال معلمي البوذية، وقد صرّح في إحدى المقابلات بأنه يُديم الصلاة خمس مرات يومياً باللغة العربية منذ ست وعشرون عاماً. عمل على إنتاج سلسلة من الوثائقيات المتلفزة خلال الستينات من القرن الماضي، وله العديد من المؤلَفات في نفس المجال، أشهرها الكتاب الذي بين أيدينا والذي لا يزال يُصنّف عالمياً بالمرجع العلمي الأول في الأديان، وقد وصلت مبيعاته إلى المليون والنصف نسخة كما تشير هذه الطبعة!.

تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الثالثة للكتاب الصادرة عام 2007 عن (دار الجسور الثقافية)، في ترجمة مباشرة للكتاب عن لغته الأصلية (The World’s Religions – By: Huston Smith) والتي عنيّ بها المترجم د. سعد رستم، وهو أكاديمي وباحث سوري حاصل على درجة الدكتوراة في الدراسات الإسلامية بعد أن تحوّل في مرحلته الجامعية عن دراسة الطب البشري إلى هذا الفرع من العلوم. يعيش حالياً في تركيا، وله إسهام كبير في ترجمة الدراسات العلمية الإسلامية، العقائدية والمذهبية.

يعرض فهرس الكتاب عشرة مواضيع رئيسية، بالإضافة إلى مقدمتي المؤلف والمترجم، تبدو أهمها على الإطلاق: (الهندوسية، البوذية، الكونفوشية، الطاوية، اليهودية، المسيحية، الإسلام، الأديان البدائية) ويتفرّع عن كل منها عدد لا بأس به من المسائل التي لا تقل شأناً في الأهمية. من ناحية أخرى، تترافق أوجه الشبه بين مشروع المؤلف وبين أحد علماء التشريح الذي اعتاد أن ينبّه طلاب كلية الطب في اول محاضرة لهم قائلاً في بصيرة: “في هذه المادة سوف نتعامل مع اللحم والعظام والخلايا والأعصاب، وستأتيكم أوقات تبدو لكم فيها كل هذه الأشياء باردة لا حقيقة لها. ولكن لا تنسوا! إنها حيّة تتحرك”.

ومن عبق الروحانيات، أبثّ نفحات مما علق في روحي كما يلي:

  • في إسقاطات لمعنى تمثال ذو أذرع متعددة تعكس رمزياً براعة الإله الواسعة عند الديانة الهندوسية، يرى د. سميث أن فعّالية القصص والأساطير أقوى في أثرها على الإنسان من قوة القوانين والأحكام الرسمية، إذ تنطوي على قيم تنقل بقدرتها اهتمامه من العالم المادي المحيط إلى التفكر في الله وتمجيده والتضرع إليه والنظر في إبداعه .. ومحبته آخراً. من ناحية أخرى، لا يتردد المستشرق ماكس موللر في الإشارة إلى (الهند) كإجابة عن سؤال وُجه إليه حول الأرض التي شهدت أعمق التأملات العقلية وأتت بجملة من الحلول في مسائل الحياة تعني بالإنسان، وتثير كذلك اهتمام من درس فلسفتي كانت وأفلاطون! ولا يتردد من الإشارة إلى (أدب الهند) للإجابة عن سؤال آخر حول الأدب الذي صحّح مفاهيم تشرّبها الإنسان من الفكر اليوناني والروماني ومن ثم عمل على تغذية روحانيته، في سبيل حياة أكثر شمولية وعالمية وإنسانية، ليس في الحياة الآنية فقط بل في الحياة الأبدية كذلك.
  • وعن قوة الاعتناق، ينافس الهندوسي (سوامي) نظيريه البوذيين (دائي) و (لائي). ففي حين سيواصل الأخيران المقرفصان تأملهما اليوم ساعة استيقاظهما في الثالثة فجراً حتى الحادية عشرة ليلاً بغية سبر أغوار بوذا داخلهما، سيواصل الأول تأمله الذي ابتدأه منذ خمس سنوات مقرفصاً صامتاً في قعر داره الواقع فوق قمة جبل الهملايا، مستثنياً ثلاثة أيام في العام يتحدث فيها. وفي نفس هالة النور وعن أولئك الذين ترقوا روحياً في مراتب من الإدراك والوعي والتجلي، تأتي سيرتهم لتعكس نموذجاً أسمى في النوع الإنساني، فهم حكماء، متحررون، أقوياء الشخصية، فائقو السعادة، ما من شيء في الحياة كفيل بأن يعكّر صفوهم العقلي، أو يُقلق طُمأنينتهم، أو يقودهم للصراع، أو يأسرهم، أو يُرعبهم، أو يُحزنهم .. إنهم مبتهجون على الدوام، يجودون على من اختلط بهم بأنوار من قوة وطُهر وانبساط. لذا، ومن طرف آخر، يتصدى أحد اللا أدريين ليناكف أحد الهنود المتنورين، بأنه كان سيجعل للصحة عدوى بدل المرض .. لو كان ربا! فيفحمه الأخير بأن الشكّاك لا يمكنه استيعاب أن الفضيلة هي فعلاً معدية للرذيلة، والسعادة معدية للتعاسة .. كما العدوى بين الصحة والمرض.
  • تتجلى معاني الصيام الإسلامي في الانضباط الذاتي وكبح الشهوات، وفي تذكير الإنسان بضعفه وحاجته الدائمة إلى الله. كما يولّد عنده الشعور بالشفقة والإحساس بالآخرين، إذ لا يشعر بالجوع إلا من جاع فقط، ومن راض نفسه على الصيام تسع وعشرون يوماً يكون أكثر تسامحاً وتفاعلاً مع من يقصده من الجائعين. وفي استنباط لافت للنظر، يشير د. سميث إلى كلمة (القراءة) كمعنى مشتق لكلمة (القرآن)، وبأنه الكتاب الأكثر تلاوة وحفظاً وتأثيراً على مستوى العالم. فلا عجب أن يكون (معجزاً) كما سمّاه نبيه وأتباعه من بعده.

ومن عبق الروحانيات كذلك اقتبس شذرات تثري الروح (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):

  • يحفل الأدب الهندي بالاستعارات والتشبيهات والصور البيانية التي توجّه أنظار الإنسان نحو “الوجود المطلق اللانهائي” في الكون الفسيح، والكامن عميقاً بين ثنايا وجدانه. تقول إحداها: “إننا مثل شبل أسد فقد أمه بعد ولادته، فعاش صدفة بين مجموعة من الخرفان، فصار يرعى ويأكل العشب معهم ويثغو مثلهم، ظاناً نفسه خروفاً كأقرانه! إننا مثل العاشق النائم الذي يحلم في منامه أنه يجوب الدنيا بحثاً عن حبيبته دون أن يجدها، غافلاً عن كونها مستلقية على الفراش إلى جانبه”. وهو لا يزال في هذه الأجواء، ينتقد د. سميث ربط التماثيل الهندوسية بمعاني الوثنية أو الشرك أو تعدد الآلهة، بل يعتقد بإنها مسارات تتنقل خلالها الحواس البشرية نحو “الأحد” أو “تطير من الأحد نحو الأحد”. ويضرب في هذا مثلاً بكاهن القرية الذي يعتقد بأن حدود إمكانياته البشرية تسببت له بثلاث خطايا يرجو غفرانها، فيفتتح صلواته بدعاء: “يا رب! اغفر ثلاثة خطايا ناجمة عن حدودي البشرية .. أنك في كل مكان لكني أعبدك هنا .. إنك من غير شكل ولا جسم، ولكني أعبدك في هذه الأشكال .. أنك لا تحتاج إلى الثناء والمديح ولكني أقدم لك هذه الصلوات والتحيات .. رب! اغفر ثلاثة خطايا ناجمة عن حدودي البشرية”.
  • تتجلى معاني الوحدانية الإلهية في ترانيم الطاوية، فـ: “هناك كائن رائع وكامل .. وُجد قبل السماء والأرض .. كم هو هادئ .. وكم هو روحي .. يبقى وحيداً لا يتغير .. يوجد قريباً وبعيداً .. هنا وهناك .. ومع ذلك فهو لا يعاني من هذا التواجد .. يلف كل شيء بحبه كثوب يغطي كل شيء .. ومع ذلك فلا يدّعي شرفاً أو مقاماً ولا يطلب أن يكون سيداً .. أنا لا أعرف اسمه ولذلك اسميه (طاو) الطريق .. وأبتهج بقوته”. وفي لغة صوفية تحلّق بعيداً عن رحب ميدان رياضة اليوغا وتتقاطع مع العشق الرومي، تنساب الوصية عذبة بأن: “كل ما يجب علينا فعله في هذه اليوغا أن نحب الله حباً جما، لا مجرد أن نقول بلساننا أننا نحب الله، بل نحبه حقاً، ونحبه وحده، ولا نحب شيئاً غيره إلا لأجله، ونحبه لذاته لا لغرض آخر أو هدف أبعد، حتى ولا انطلاقاً من الرغبة بالخلاص والتحرر، بل نحبه للحب فقط. نجاحنا في ذلك يمنحنا بهجة وسعادة، لأنه ما من تجربة يمكن أن تقارن بتجربة من يعيش حباً تاماً صادقاً. علاوة على ذلك، كلما قوي تعلقنا بالله واشتد حبنا له، كلما ضعفت سيطرة العالم علينا. نعم قد يحب القديس العالم، بل هو يحبه فعلاً أكثر من محبة المدمن له، لكن حبه للعالم يختلف تماماً عن حب الآخرين له. إنه يحبه لأنه يرى فيه انعكاساً لمجد الله الذي يعبده”.
  • وفي إنصاف وحيادية معهودة، يؤكد د. سميث على الحرية الدينية التي تمتع بها اليهود والنصارى والهندوس إبان الحكم الإسلامي شرقاً وغرباً. وفي مقارنة بين سماحة المسلمين الأتراك مع النصارى عند فتح القسطنطينية، وبين جرائم محاكم التفتيش التي نصّبها الصليبيون الأسبان لتعذيب المسلمين بعد سقوط الأندلس، يعتقد المسلمين أن “سجل المسيحية هو السجل الأكثر سواداً في هذا الصدد”، بينما يتفق المؤرخون المنصفون بأن “سجل الإسلام في استخدام القوة لم يكن أبداً أظلم من سجل المسيحية”. وأختم في مسك بقول د. سميث عن لغة القرآن، حيث يقول مقتبساً بدوره: “لا يوجد شعب في العالم تحركه الكلمات، سواء المقولة شفهياً أو المكتوبة، كالعرب. من النادر أن يكون لأي لغة في العالم تلك القدرة على التأثير على عقول مستخدميها كالتأثير الذي لا يُقاوم للغة العربية” ثم يُعقب قائلاً: “يمكن للجماهير في القاهرة أو دمشق أو بغداد أن تُلهب مشاعرها وتُثار إلى أعلى درجات الإثارة العاطفية ببيانات، إذا ما تمت ترجمتها تبدو عادية”.

عجباً كيف تختلف الأديان برمتها، لكنها تصبّ انتهاءً في عبادة الله وحده التي تحقق السكينة الروحية كمطمح أزلي. إن هذا الكتاب يدفع بالفضول نحو المزيد من البحث حول كل دين، لا سيما أن الطرح يكتنفه قدر من الصعوبة قد يعود إلى النظرة التحليلية الفلسفية التي يتأسس عليها الكتاب في تناوله للأديان، أو الصعوبة المتعلقة بجوهر كل منها، أو للترجمة في أحايين قليلة. ومن جانب شخصي، لا يغفل المؤلف عن إسداء جزيل الشكر والعرفان لزوجه التي لم تدّخر جهداً في تنقيح ومراجعة كتاب زوجها بكل سعادة، الذي لم يكن متوقعاً له تحقيق أعلى نسبة في المبيعات قبل طرحه .. في لفتة شاعرية منه بل وروحانية.

إنه ليس كتاب ترويجي ولا تبشيري ولا مقارن ولا نقدي، بل روحاني بالدرجة الأولى، يقدّم للقارئ خلاصة ما اكتسبه مؤلفه من معرفة وجدانية وتجارب روحانية عاش بها ولها ومعها، يجود فيه على القارئ بأنوار من فكر وأبعاد من إدراك، ووعي وحكمة وبصيرة، وأفق أكثر رحابة، نحو تصور جديد للحياة وجوهر وجود الإنسان فيها، بما يحيطه من مصاعب وآلام وتحديات، وطرق مواجهتها من زوايا دينية أكثر اتساعاً من ذي قبل .. لتصبّ جميعها في نهاية المطاف في فضاء الحقيقة المطلقة: (الله الأحد).

ومسك الختام .. (لا إله إلا الله) بها نحيا وبها نموت وبها نلقى الله.

 

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 16 مارس 2022 – جزء (1) صفحة (10):

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/03/5076.pdf

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 17 مارس 2022 – جزء (2) صفحة (10):

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/03/5077.pdf

 

……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..

(3)

كتاب/ العرب: وجهة نظر يابانية – المؤلف/ نوبواكي نوتوهارا

صورة العرب من خلال مرآة يابانية

 

 

كتاب على قدر وافر من الحيادية بل والمصداقية يدور محوره حول أمة العرب، سُطّر بقلم وعين وقلب مستعرب ياباني أمضى ما يقارب الأربعين عاماً من عمره بين أبنائها وعشائرها، ويرى أن (عشرته) الطويلة تلك تعطيه نصيب من الحق في التحدث وبصدق عن قوم ألفهم وألفوه.

لذا، لا بد أولاً من التعريف بالكاتب كـ (مستعرب) لا كـ (مستشرق)، إذ أن (المستشرق) يكون عادة غربياً تناول الثقافة الشرقية كمادة للبحث والدراسة وهو قطعاً لا ينتمي للشرق لا عرقياً ولا جغرافياً ولا ثقافياً، كالإنجليزي آرثر جون آربري الذي عنيّ بترجمة معاني القرآن الكريم، والمؤرخ الفرنسي إرنست رينان الذي درس سيرة الفيلسوف المسلم ابن رشد. بينما يكون (المستعرب) هو من تناول الثقافة العربية وتأثر بها وهو لا ينتمي لبني العرب لكنه جاورهم وساكنهم، مثل الأمازيغ والموريسكيين الأسبان في المغرب العربي والأكراد في مشرقه.

لا يتحدث المستعرب نوبوأكي نوتوهارا (1940) في مقدمة كتابه عن نفسه كثيراً، فيكتفي بعرض مسيرته مع اللغة العربية، حيث ابتدأها عام 1961 حين افتتحت جامعة طوكيو للدراسات الأجنبية قسماً للدراسات العربية فيها، فالتحق وتخرج فيه بعد أربع سنوات. عمل بعد تخرجه كأستاذ مساعد في جامعة طوكاي، ثم معيداً في جامعته الأولى عام 1969، ليحصل عام 1974 على منحة خاصة من الحكومة المصرية للالتحاق بجامعة القاهرة كطالب مستمع، حيث استهل ابداعه الحقيقي من خلال الانكباب على القراءة والكتابة والترجمة، بالإضافة إلى الانخراط مع الفلاحيين في الدلتا. يتوّج مسيرته بعد ذلك في الارتحال إلى بادية الشام ومعاشرة البدو ردحاً من الزمان، في تجربة غنية لم يعايشها من ذي قبل كياباني تخلو أرض آبائه من بادية. يسترجع نوتوهارا في خاتمة كتابه وبحميمية ذكرياته مع أصدقاء مسيرته العرب الذين يكنّ لهم الكثير من الإعزاز والامتنان في مصر واليمن وسوريا والمغرب، وتجمعه بهم روابط مشتركة وذكريات دافئة رغم بون ثقافة مختلفة لا تشبهه في شيء!.

ينتقد المستعرب في الكتاب وبشكل رئيسي الأوضاع السلبية الجسيمة التي تعاني منها المجتمعات العربية في العموم، حيث القمع، الحاكم المعمّر، انعدام الديمقراطية، هدر حقوق الإنسان، السجناء السياسيين، تهميش المواطن، انعدام الشعور بالمسئولية، غياب العدالة الاجتماعية، حقوق المرأة، عدم توظيف الدين الإسلامي بشكل صحيح، تتبع النمط الأوحد، رهاب قول الحق، الطغيان وفوقية أصحاب السلطة على القانون ….. وغيرها الكثير. وما يضاعف من مرارة هذه الحقيقة الدامغة هو أن القارئ العربي (المحايد) لا يملك إلا أن يومئ برأسه -ولو على استحياء- إيماءة إقرار واعتراف لما عرضه (مستعربنا) من عار وشنار، في الوقت الذي يبرر موقفه مردداً: “رحم الله امرئ أهدى لي عيوبي”.

وفي منأى عن العاطفة التي تتملك المستعرب نحو أصدقائه العرب، فإنه يعزز قيمة الموضوعية التي حرص عليها في كتابه من خلال “تجربة صعبة ومريرة” واجهها كياباني مع قومه أجمعين! فعندما سيطر العسكر على مقاليد البلاد ورقاب العباد وزجّوا بهما في حروب طاحنة ضد دول الجوار، آلت اليابان إلى دمار شامل على يد الولايات المتحدة الأمريكية في أعقاب الحرب العالمية الثانية. لقد دفع الشعب الياباني الثمن باهضاً الأمر الذي دفعه لأن يكون أكثر وعياً وأن يعترف بالخطأ ويستفيد من الدرس، فأبعد العسكر عن السلطة، وبنى ما دمّره القمع السياسي، واستغرق الإصلاح أكثر من عشرين عاماً عانى فيها اليابانيون الأمرّين. فمن الدروس التي لا ينساها الشعب الياباني كما يقرّ المستعرب هي “إن القمع يؤدي إلى تدمير الثروة الوطنية وقتل الأبرياء ويؤدي إلى انحراف السلطة عن الطريق الصحيح والدخول في الممارسات الخاطئة باستمرار. لقد ضحى اليابانيون جميعاً بأشياء كثيرة تحت سلطة القمع العسكرية، ولكن كان هناك فئة تربح دائماً ولا تخسر شيئاً هي فئة التابعين للسلطة العسكرية، أعنى حاشية السلطة وأعوانها ومخبريها”. وإن اللبيب من الإشارة يفهم.

تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الأولى للكتاب والصادرة عام 2003 من منشورات الجمل، والتي يتطرق فيها الكاتب إلى سبعة مواضيع رئيسية في بلاد العرب. فيُثني على جمال الأدب العربي الذي تعلّمه وعلّمه ويطري عدد من الأدباء العرب، ويتحدث بإسهاب عن ثقافة البدو الذين عاش معهم فترة لا بأس بها من الزمن حيث يرى أن البادية العربية هي الموطن الأصلي للعرب، وهي الأرض الخصبة للتأمل والفلسفة ونشوء العقيدة، ويتفاعل ويتعاطف كذلك مع القضية الفلسطينية ويؤازرها بصدق حيث يرى أن الإعلام مضلل فيما يتعلق بها، كما يطري الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، ويمنحه لقب “الأديب الشهيد”. وبدوري، أتطرق في الأسطر القادمة مع شيء من التعمق إلى أبرز ما جاء في الكتاب من قول صريح موجع، وباقتباس يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) كما يلي:

  • يسود الشعب العربي حس منعدم بالمسئولية لا سيما تجاه مقدّرات الوطن، فإنما هي أملاك الحكومة لا أملاكه. ففي تلك المجتمعات التي يحرص فيها كل فرد على التميّز إما بكنية أو قبيلة أو منصب أو درجة علمية في ظل غياب العدالة وسيادة القمع وذوبان الاستقلالية الفردية، يُصبح غياب “الوعي بالمسؤولية” نتيجة حتمية وسمة بارزة. “ولذلك لا يشعر المواطن العربي بمسؤوليته عن الممتلكات العامة مثل الحدائق العامة والشوارع ومناهل المياه ووسائل النقل الحكومية والغابات، باختصار المرافق العامة كلها، ولذلك يدمرها الناس اعتقاداً منهم أنهم يدمرون ممتلكات الحكومة لا ممتلكاتهم هم”. إن غياب هكذا شعور بالمسئولية العامة يولّد مظهراً آخراً أشد خطورة، وهو غياب الشعور بالمسئولية تجاه أفراد المجتمع بعضهم ببعض. يضرب المستعرب في هذا مثلاً بالسجناء السياسيين في البلدان العربية الذين ضحّى بهم الشعب، رغم أنهم ضحّوا بمصيرهم وبشجاعة من أجله. يعقّب المستعرب مستنكراً: “فلم نسمع عن مظاهرة أو إضراب أو احتجاج عام في أي بلد عربي من أجل قضية السجناء السياسيين. إن الناس في الوطن العربي يتصرفون مع قضية السجين السياسي على أنها قضية فردية وعلى أسرة السجين وحدها أن تواجه أعباءها”. ومن ناحية أخرى، وعن التقديس الأبوي، يصف المستعرب (أبوة) الحاكم العربي (لأبنائه) من الرعية بـ “الظاهرة الغريبة”، إذ يعتبر اليابانيون كلمة “يا أبنائي ويا بناتي” التي يخاطب بها الحاكم العربي شعبه عادة “إهانة بالغة”. فيرفضها كياباني قائلاً: “نحن لا نقبل بهذه الصيغة! نحن نقول لرئيس الوزراء أنت حر في بيتك، ولكن خارج البيت نحن لا نسمح لك”. ومن جملة الاستنكار، يهزأ من ثقافة (مدح السلطان) الضاربة بجذورها في تاريخ العرب، حيث: “نحن نستغرب ظاهرة مديح الحاكم كما نستغرب رفع صوره في أوضاع مختلفة كأنه نجم سينمائي أو مطرب ذائع الصيت”.
  • يستمر المستعرب ليصرّح بأن فضيلة الحرية هي أساس الحياة الكريمة والبوابة إلى العمل والإنتاج والإبداع، ويشبّه القمع بداء عضال ينبغي قهره حتى لا تفقد البشرية الكثير من معانيها. فيقول ضمناً: “وفي سياق الكلام عن الحقيقة فأنني أضيف أن الناس في الوطن العربي يخبئون الحقائق التي يعرفونها حق المعرفة”. يستشهد في هذا بـ (سجن تدمر)، الذي وعلى الرغم من زيارته لمدينة تدمر خمس مرات وزيارة متحفها الشعبي هناك إلا أنه لم يكن يعلم بوجود سجن شهير فيها يحمل اسمها، ولم يكن بالطبع يعرف موقعه! ولهذا مبرر سيكولوجي، حيث “إن الخوف يمنع المواطن العادي من كشف حقائق حياته الملموسة، وهكذا تضيع الحقائق وتذهب إلى المقابر مع أصحابها”. ومع ذكر هذا المتحف، يُعرب الياباني عن استغرابه -ولا أستغرب- وهو يتجول في (السوق السوداء) للآثار العربية، حين يهمس له بالإنجليزية أحد موظفي متحف على حدود إحدى البوادي العربية بـ: “أن اشتري سراً بالطبع قطعاً أثرية. لم أصدق أذني في البداية ولكنه أكدّ لي بوضوح أنه يستطيع أن يؤمن لي قطعاً نادرة، ولم ينس أن يؤكد أننا لن نختلف على السعر”. يستهول المستعرب الياباني إثم خيانة الوطن والضمير والشرف، فيعقّب متعجباً: “شيء لا يصدق” .. غير أن أبناء العرب أنفسهم يصدّقون، بل وبإمكانهم تخمين في أي متحف أو (سوق) عربي كان يتجول!.
  • أما في ثقافة المجتمع العربي الذي يبدو إقطاعياً، فلا يُنكر القوم سلوك طفل ربط عنق عصفور بحبل يجرّه فوق التراب بينما العصفور يرفرف في بؤس مستنجداً، فهو مشهد طبيعي تألفه العين ويتكرر في الحياة اليومية، وإنما هو “طفل يتسلى بلعبة” أو مجرد “ضعيف تحت سيطرة قوي”. يكمل المستعرب قائلاً: “والناس يقبلون سلوك المسيطر القوي ويرضخون له، أي يسمح المجتمع أن تسيطر قوة على أخرى أضعف منها”. ومن المواقف التي شهدها المستعرب تصبّ في ثقافة الغالب والمغلوب، الفتى ذو العشر سنوات صاحب عربة الخردوات، والذي تصدمه بسيارتها إحدى معارف المستعرب وهي تقلّه بعد حضوره مؤتمر في ذكرى ميلاد الكاتب طه حسين، فيسقط وتتبعثر أشيائه الصغيرة في حين ترمقه تلك بشرارة حارقة وماطرة بوابل من شتائم كـ “الحيوان المتخلف الغبي”. يعتصر لحظتها قلب المستعرب ألماً ممزوجاً بالعجب ويقول: “أنا لم أتوقع منها هذا السلوك اللاإنساني الفظّ تجاه شاب فقير يسعى لكسب رزقه في ظروف صعبة وعلى عربة خشبية بسيطة! إني أرى سلوكها سلوكاً عنصرياً تجاه من هم أقل مرتبة في سلم الغنى لأنها تملك سيارة”. وفي خضم حديثه عن الجيل يتحدث عن التعليم، وهو حديث يجده المستعرب ذو شجن، حيث ينتهي المطاف بالفتيان والفتيات النوابغ في البادية إلى حال الأفراد العاديين في ظل غياب الاهتمام والرعاية الاجتماعية. فيتحدث عن ابن صديقه السوري، جاسم الهادئ الصامت، الذي “يشع من عينيه ذكاء خاص وشرود يشبه شرود المتأمل. كان دائماً يراقبني بهدوء ويتحدث معي بالطريقة نفسها. كل شيء في ذلك الطفل كان يوحي بأنه سيصبح كاتباً أو شاعراً لو كان طفلاً في اليابان. بعد عشر سنوات رمى جاسم موهبته كلها وأصبح راعياً نموذجياً كما يتوقع منه المجتمع”. وأتساءل بدوري في شجن أعمق: كم من عالم ومفكّر وكاتب وشاعر في وطننا الفسيح يقطن البوادي ويرتدي زي الرعاة ويرعى القطعان حتى الممات؟
  • ينتقل المستعرب بعد ذلك ليتحدث عن ظاهرة الفوضى الجماعية التي يدور رحاها يومياً عند مواقف الحافلات في المدن المصرية، حيث تكتظ الحشود ويختلط الحابل بالنابل في سعي حثيث نحو الركوب أو (الشعبطة) بأي ثمن كان، فيستنكر معقّباً: “وفي هذا الازدحام المحموم ينسى الكثير من الرجال والنساء السلوك المحتشم الذي يوجبه عليهم الإسلام كمسلمين”. وفي فطنة يابانية، يستغل المستعرب ثقافة (الحلال والحرام) ليواجه بها احتيال بعض العمّال أثناء إقامته الطويلة في مصر مقابل إصلاحات منزلية، فيتوعد هؤلاء قائلاً: “ألا تخاف الله؟ أنا سأطالبك بالنقود الزائدة التي أخذتها مني يوم القيامة”. ليخلص أن “الجميع كانوا يخافون فعلاً ويأخذون أجرهم في حدود ما كانوا يسمونه الحلال”. وهو لا يزال يتعرّض للسلوك الاجتماعي عند العرب، يفرّق المستعرب في شاعرية بين غضّ النظر وتذوق الجمال، مستشهداً بقول عنترة بن شداد: (وأغض طرفي إن بدت لي جارتي .. حتى يواري جارتي مأواها). ولا يزال يستنكر حجب المرأة بعد أن علم أن: “على المرأة أن تخبئ جسمها لأنه عورة أو لأنه فتنه. وفي الريف على المرأة الجميلة أن تختبئ هي أيضاً في البيت وكأن الجمال لعنة أو ملكية ضيقة ليست للظهور أبداً”.
  • وعن الازدواجية، وكإسقاط لشخصية (أحمد عبدالجواد) في (ثلاثية نجيب محفوظ) الثلاثي الأبعاد في البيت والحي والماخور، يتحدث المستعرب عن انطباعه حول معلماً مصرياً زار طوكيو لفترة، وقد كان رغم كونه لطيفاً واجتماعياً “لاهياً إلى أقصى الحدود ومنغمساً في الملذات انغماساً لا يعرف الارتواء”، ولم يكن يتورع عن التصريح بمذهب اللذة الذي كان يعتنقه. زاره المستعرب بعد ذلك في منزله في إحدى أحياء القاهرة الشعبية، وقد هاله “التبجيل المضخم” المقدم لـ (حضرته) من قبل زوجته وابنتيه، فيُعلق قائلاً: “ولقد بدى لي الأب الذي يمثل الاستقامة والأخلاق الصارمة والحفاظ على كل مظاهر الشرف”. وقبيل الغداء، لاحظ المستعرب صاحبه وهو يراوغ لسحبه خارج الدار خلسة نحو خمّارة، ليبدئا بشرب الخمر قبل الوجبة على عادة اليابانيين. وعودة على رواية (سي عبدالجواد)، فقد كانت مهمة تسمين البنات وظيفة الخادمة الأساسية باعتبار أن السمنة النموذج المرغوب به للزوجة الموعودة. عليه، كانت الزوجة والبنتان يرزحن تحت وطأة أرطال من الشحم واللحم، وقد اشتكت البنتان له صدمتهما الثقافية بعد انخراطهما في الجامعة وسط عالم النحيفات، وقد وجدتا النحافة بالنسبة لهما: “شبه مستحيل في ذلك البيت، لأنهم يحافظون على نظام الطعام المليء بالشحوم والدسم والمشويات ونظام القيلولة الطويل”. فيحذًر المستعرب بقوله: “وما لم يتغير النظام نفسه فإن البنات سيعانين من مشاكل السمنة اجتماعياً على الأقل”. ويكمل في صراحة مزعجة قد تثير عنصرية ذوي النزعات الذكورية، إذ يقول: “ليس صديقي وحده مزدوجاً! إن معظم الرجال العرب الذين قابلتهم لهم قيمتان، واحدة في البيت وأخرى في الحياة العامة. الرجل العربي في البيت يلحّ على تثمين قيمته ورفعها إلى السيطرة والزعامة، أما في الحياة العامة فأنه يتصرف وفق قدراته وميزاته ونوع عمله. وهذان الوجهان المتناقضان غالباً ينتج عنهما أشكال لا حصر لها من الرياء والخداع والقمع”.
  • ومن حافة بعيدة، كان البيت المتهالك على أطراف مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في دمشق يقطنه رجل خمسيني، وقد برّر تهالكه للمستعرب قائلاً: “هذا بيت مؤقت. بيتي الحقيقي هناك في فلسطين. نحن نسكن هنا بصورة مؤقتة وسنعود إلى ديارنا عاجلاً أم آجلاً، وإذا وضعنا سقفاً بشكل كامل فهذا يعني إننا نتنازل عن العودة”. استأذن العجوز ثم عاد يحمل معه مفتاح بيته في فلسطين وقد اعتبره شيئاً نفيساً، واستطرد قائلاً: “كلنا نحتفظ بمفاتيح بيوتنا. نحن هنا بصورة مؤقتة”.

وقبل الختام، لا بد لهذا الكتاب الناقد أن يحظى بشيء من النقد الأدبي لا سيما من قرّائه العرب وقد خصّهم. إنه كتاب سليم اللغة واضح المفردات، جاءت كلماته على سجيتها عكس ما تميل إليه بعض كتابات المستشرقين/المستعربين من استخدام ألفاظ ممعنة في الفصاحة استخرجوها من بطون قواميس لغة الضاد، تستعصي على فهم أبناء يعرب أنفسهم. وهو كذلك مسترسل بانسيابية في سرد الأفكار حول موضوعاته المختلفة، ومثير في أسلوبه الأدبي لعاطفة القارئ، سواء سلباً أو إيجاباً. غير أنه بالفعل جاء خصب الخيال في إيراد الكثير من الأمثلة لتوضيح فكرته وتعزيز رأيه، كما أنه مباشر وجذاب في عنوانه، حيث يُقرأ الكتاب منه، بل ويثير الفضول نحو قراءته فعلاً ولربما التحفظ بعد قراءته! بالإضافة إلى هذا، فهو كتاب موضوعي حيادي رغم العاطفة المتأصلة بين الكاتب والعرب الذين جعلهم موضوع كتابه، وكما كان يؤكد باستمرار “أنني أعطيت القضية العربية عمري كله، فمن حقي -ربما- أن أقول شيئاً”.

أخيراً، أختم في أسى وأنا أشاهد قومي العرب كما شاهدهم المستعرب من خلال مرآته اليابانية صامتون ذاك الصمت الذي يجهر مدوياً في جلّ حركاتهم وسكناتهم! وأتساءل معه تلك التساؤلات “البسيطة والصعبة” وقد طويت الكتاب لكنها رافقتني كما رافقته من ذي قبل: “لماذا لا يستفيد العرب من تجاربهم؟ لماذا لا ينتقد العرب أخطائهم؟ لماذا يكرر العرب الأخطاء نفسها؟ وكم يحتاج العرب من الوقت لكي يستفيدوا من تجاربهم ويصححوا أخطائهم ويضعوا أنفسهم على الطريق السليم؟” .. وما أشبه الليلة بالبارحة!.

كتاب يبدو أنه كان محظوراً عند إصداره، وقد وصل إلى مكتبتي من مدينة لندن حينها. وأنها لمفارقة أن يتطرق المستعرب في كتابه إلى التعسف السياسي العربي الواضح من خلال إحكام الرقابة، ومصادرة الكتب، وتكميم أفواه الكتّاب!.

قرأته .. وأعدت قراءته بعد أعوام للمرة الثانية .. وقد أقرأه للثالثة، علّ تاريخ العرب في الثالثة لن يعيد نفسه!.

 

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 23 مارس 2022 – جزء (1) صفحة (10):

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/03/5079.pdf

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 24 مارس 2022 – جزء (2) صفحة (10):

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/03/5080.pdf

 

……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..

(4)

كتاب/ الألم النفسي والعضوي – المؤلف/ د. عادل صادق

إن هنالك أبعاداً وجدانية للآلام الجسدية

 

 

هل يمكن للألم العضوي أن يُستثار فيتضاعف أو يُهمل فيخبت؟ إن هذا التفاعل المتناقض ليس سوى انفعالاً وجدانياً مصدره (العقل) وحده، يصبّ في حقيقة (الألم) كمعنى، أو بالأحرى معنىً خاص يتشكّل بصورة أو بأخرى لدى كل إنسان على حدة، حسب الشخصية أو الموقف أو التوقيت أو الاستعداد، وغيرها من عوامل في قائمة لا تنتهي. في هذا المعنى، يعرض المؤلف رأيه العلمي بلغة عذبة مستخدماً أسلوب السهل الممتنع رغم مادة الكتاب العلمية الخالصة، والتي تصل بالقارئ في نهاية المطاف إلى قدر عالٍ من التصالح النفسي والسلام الداخلي. غير أن الكتاب لا يصلح للقارئ “الموسوس” الذي قد تلحق به علّة ما من حيث لا يحتسب تعود لهواجسه وحسب، والتي تحيل كل مرض عضوي لسبب نفسي، ظاهر أو خفي!.

وعن المؤلف، فهو د. عادل صادق (1943 : 2004)، تعلّم وتخرج في كلية الطب عام 1966 نزولاً على رغبة والده، رغم ميله نحو الأدب والفن الموسيقى، ثم حصل على درجة الدكتوراة في الأمراض العصبية والنفسية عام 1973، وعمل أستاذاً للطب النفسي والأعصاب بكلية طب عين شمس. شغل مناصب أخرى منها رئيس تحرير مجلة الجديد في الطب النفسي، وأمين عام اتحاد الأطباء النفسيين العرب، وافتتح عام 2000 مستشفى يحمل اسمه لعلاج الإدمان والأمراض النفسية لا يزال تمتد شهرته على مستوى الشرق الأوسط. عُرف بالنبوغ منذ صغره وبدماثة الأخلاق وإخلاصه للعمل وسعيه الحثيث نحو رفع وعي المجتمع بالمرض النفسي وسبل علاجه، وذلك من خلال مؤلفاته وأبحاثه التي تجاوزت الثلاثين إصدار، والتي أهلّته عام 1990 للحصول على جائزة الدولة في تبسيط العلوم.

يعالج المؤلف من خلال كتابه القصير سبعة مواضيع رئيسية. فيبدأ في الفصل الأول -وبشيء من فلسفة- بالحديث إجمالاً عن الألم، كإحساس وكانفعال وكعقاب للذات وكوخز للضمير وكبديل للصراع وكتعبير عن العدوان وعن الحب أيضاً، لينتقل في الفصل الثاني إلى الحديث تفصيلاً عن الأمراض النفسية وارتباطها بالألم، كالقلق والهستيريا والفصام والاكتئاب والتوهم المرضي، في حين يعرض في الفصل الثالث أنماط الشخصيات من منظور علاقتها بالألم، كالشخصية القهرية والشخصية الهستيرية والشخصية القلقة. أما الفصل الرابع فيوّضح فيه المؤلف ماهية الأمراض النفسجسمية متطرّقاً إلى الآلام المصاحبة لها، كالصداع والروماتيزم وآلام الوجه وآلام أسفل الظهر، بينما يخصّ الفصل الخامس للمرأة وللحديث عن آلامها كأنثى وكأم، وعن آلامها المرتبطة بطفلها تحديداً وقد أسماها بـ (المحيّرة). وقبل الختام، يُفرد المؤلف الفصل السادس لطرق العلاج، ومن ثم يختم في الفصل السابع حديثه عن معنى الحياة، وكيف أن الحياة بلا ألم إنما هي حياة بلا معنى .. أو بكلمة أخرى هي (الموت).

تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الثانية للكتاب والصادرة عام 2015 عن دار الصحوة للنشر والتوزيع، وهي تستلهم من كنوز المؤلف المعرفية ما يبعث على الأمل، وتقتبس منها نزراً يسيراً بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر)، كما يلي:

  • المخ مركز الإحساس بالألم، وبدونه لا شعور للألم .. وكأنه سيد الأعضاء، على الرغم من أن المخ لو قُطع بسكين لما شعر الإنسان بشيء “ومن العجيب أن نعرف بعد ذلك أن المخ هو الذي يدرك الألم الصادر عن أي مكان في الجسم”. ومن العجيب كذلك أن يتم إدراك الألم في عضو ما دونما أي استثارة لنهاياته العصبية، فقد يسمع إنسان ما صوت جرس دون وجود جرس حقيقي، كما يستشعر مريض ما ألماً في رجله رغم بترها. إذاً إن للعقل دور حيوي، إذ يتدخل فيجعل من الألم (عملية وجدانية)، إما أن يستشعر الألم ويضخّمه، أو أن يستبدله بشيء من الرضا والمرح، وكل هذا يعتمد في الأساس على استعداد الإنسان وعلى انفعالاته وتوقّعاته وتاريخه مع الألم. عليه، لا بد وأن يتعاطف الإنسان مع ألمه، فينحاز أو يميل، إذ أن حيادية المشاعر تعني التبلد .. تعني الموت، ولا يصاب بهذه الحيادية إلا المريض العقلي.
  • إن المسار الحقيقي للألم يبدأ من العقل وينتهي في الجسد .. من الوجدان إلى العضو، إما حقيقة أو وهماً، وقد تكثر الأوهام وقد يتمسك بها المريض طالما أنها تحقق له منفعة ما .. قد نكون فعلاً نحتاج لآلامنا! ومن هذه الحقيقة يرى المؤلف أن الألم يرتبط وبقوة بالحب، فقد يحتاج إنسان ما لحظة موته إلى الحب، فيبثّ عقله ألماً إلى جسده فوراً، فينادي على من يحب ليحصل على آخر جرعة حب .. الألم هو النداء، وهو استعادة لخبرة حب أو لحظة حب أو موقف حب .. وقد يموت شريك عمره أو رفيقه العزيز، فتزوره آلام في نفس الأعضاء التي تألم منها شريكه، كنوع من التعبير عن الأسى! يستمر المؤلف وهو يكشف جانباً من الإنسان يحرص على إخفائه، فقد يكبر أحدهم ويتعلم وينضج ويوصف بالمتزن والعاقل، غير أنه في لحظة ضعف إنساني واحدة كخوف أو وحدة أو تعب أو تهديد، يفزع الطفل في داخله فيصرخ منادياً على من يحب أن: “كن بجانبي وابعث الدفء في وحدتي”.. ألم داخلي يمتزج بألم خارجي! أيهما الأصل وأيهما الصورة يا ترى؟ لكنه يبدو من ناحية أخرى ألماً ضرورياً، حيث يأتي الألم أحياناً ليحمي الإنسان بشكل ما .. إنه حقاً ضروري كالأكسجين! فعند موت إنسان عزيز لا بد وأن تكون معاناة الألم عند شريكه أقوى من معاناة الفقد، وإلا فقد عقله، فمن غير الأكسجين تموت خلاياه ومن غير الألم تموت نفسه. لكل منا عزيز، يرقى ارتباطه به ليصبح كرباط الجسد، ويصبح موته كفقد جزء من هذا الجسد. يقول د. صادق: “إنه شكل من أشكال التوحّد التي لا غنى للإنسان عنها في رحلة حياته .. وإلا مات الإنسان”.
  • يتوقع المؤلف أن حياة بعض المرضى ستضطرب لو أن عقاراً سحرياً شفاهم كلية من أمراضهم التي عانوا منها سنيناً طوالا، حيث إن هذا الألم كان في حقيقة أمره (دعامة) وعامل استقرار لهم، فلما زال، زال الأمان، وأصاب حياتهم بالارتباك! يستطيع الجسد تحمّل آلاما جمّة، لكن النفس لا تستطيع حمل صراعات الهزيمة والفشل والموت، فيأتي الجسد ليحيط بالنفس كالمظلة. يقول د. صادق: “الجسد مظلة تحيط بالنفس .. مظلة تتلقى أشعة الشمس الحارقة فتكتوي بها وتمنعها عن النفس”. وفي حديثه عن الاكتئاب، يعترف له أحد أساتذته بأن الاكتئاب يسبح في دمه، ويحيله ناراً يشعر بلسعها في جسده وفي ملابسه، تكاد أن تصيبه بالجنون. يقول د. صادق: “معظم الناس تنسى أنها ستموت” ويستطرد ليقول: “المكتئبون يرحبون بالموت”. لذا، عادة يشير المريض العضوي إلى ألمه، لكن لا يستطيع المريض النفسي فعل ذلك! إن مرضه أفدح فتراه يشير إلى السماء.
  • يشرح المؤلف حالة أم لم تجد ابنتها في نهاية يوم دراسي وهي تنتظرها كعادتها عند بوابة المدرسة، فصعدت الدماء إلى رأسها عندما نهشتها أوهاماً مخيفة كاختطاف ابنتها أو قتلها، ما أصابها بالصداع المزمن من وقتها، على الرغم من أنها وجدت ابنتها أمامها في لحظة أوهامها تلك! لا تزال تلك الأم تعتقد أنها مصابة بورم في المخ بسبب هذا الصداع المزمن. وفي حالة أخرى يصف المؤلف صاحبها قائلاً: “ينفجر رأسه بالصداع أو يشتعل بطنه بالأوجاع” .. إنه صاحب الشخصية القهرية، حيث أن القلق هو أهم حالة نفسية تصيب الإنسان بالصداع، وقد يتزامن بتزامن القلق في حياة الإنسان، وفي أسوأ الحالات يصيب حياته بالشلل .. فلا تفكير ولا تركيز ولا عمل. يقول د. صادق: “وفي حالة القلق المزمن يألف الإنسان الصداع بحكم العشرة وتمضي حياته والصداع في رأسه أو على رأسه”. وعلى الرغم من أن أصحاب الشخصية القلقة ترعبهم فكرة الموت، إلا أنهم يعيشون زمناً أطول عن أصحاب الشخصيات الأخرى، وذلك حسب آخر (مفارقات) التقارير العلمية. ومن ناحية علمية كذلك، لم يُعرف حتى الآن سبباً قاطعاً للصداع النصفي، ويُعتبر الأذكياء والطموحين والمثقفين أكثر عرضة للإصابة به، وعندما يصيب الصداع الرأس، تتأثر الأوعية الدموية والأغشية والعضلات ماعدا المخ! عجباً له، فهو كالسيد، يصدر عنه الألم لكنه لا يشعر به. واستكمالاً لأنماط أخرى من الشخصيات، فإن الشخصية الهستيرية تقيم مجزرة ضد دبوس لا يرى بالعين المجردة قد اقترب منها عن غير قصد وأحدث جرحاً بريئاً، كما أن الويل والثبور قد يطول من حضر الحادثة الشنعاء ولم يبدِ تعاطفاً. تتأثر هذه الشخصية بالإيحاء، كما أن الافتقار إلى التحليل الموضوعي هو أحد سماتها، وهي شخصية تستمر بالصراخ حتى بعد انقضاء الألم. بعد كل هذا، يؤكد المؤلف أن عذاب الإنسان في حقيقته مركب، فيبدأ بنقطة باهتة تنتهي إلى جبل شاهق، وهو يستمر يخلق لنفسه سلسة من عذاب تلو عذاب يلفها بيديه حول عنقه، في حين يتصارع مع ذاته ومع رغباته التي قد تتعارض مع الدين والعرف، فتُكبت تلقائياً في اللاشعور.
  • يزداد الألم النفسي عندما يرتبط بألم المفاصل الذي يعوق الحركة ويعيق الحياة بأكملها، فيضيف الألم النفسي حملاً آخراً على المفاصل، ويزيد من حدّة ألمها. قد ينجم مرض الروماتيزم عن فورة غضب أو فقد عزيز أو خسارة صديق، فيؤثر هذا الانفعال على جهاز المناعة والذي يؤثر بدوره على المفاصل. ويحدث أن “يتيبس” أحدهم في مشاعره كما “تيبست” مفاصله، إذ يصبح أكثر حدّة وأكثر بعداً حتى عن المقربين منه. وفي صورة أخرى، قد تؤدي آلام أسفل الظهر إلى إصابة أحدهم بالعجز الجنسي، والعكس وارد أيضاً، فقد يؤدي العجز الجنسي في التسبب بالحرج الذي يصيب بالتالي أسفل الظهر بالألم، فيصبح هذا الألم شمّاعة عجزه وليس العكس. وفي حالات أخرى، قد تتفوق الزوجة علمياً وعملياً ومادياً واجتماعياً على زوجها، فيُقصم ظهره كحيلة لمداراة عجزه الجنسي الناشئ عن نفوره من زوجته، والذي هو في حقيقته نفور بسبب فشله أمامها.
  • وعن الأمراض النفسجسمية، تشير التقارير إلى أن 50% من المرضى الذين يعانون من آلام في البطن والصدر لا يعانون فعلياً من أي مرض عضوي، فهي آلام تعود لأسباب نفسية. وتسجّل التقارير أيضا 40% من الحالات التي تضطرب فيها وظائف الجهاز الهضمي لأسباب نفسية، دون العثور على أي مرض عضوي مباشر. غير أن للنفس أفاعيل أخرى، حيث ترتسم “كلمة الحب” على وجه المحب تلقائياً .. إنها أعصاب الوجه الخاصة بالعاطفة والتي تتغذى بالإحساس والوجدان. يقول الحبيب عندما قرأ كلمة “أحبك” على وجه حبيبته قبل أن تنطقها: “وحين امتلأ وجدانك حباً استرخت عضلات وجهك بالبهجة واتسعت عيناك بالسرور واجتمع الشوق مع الفرحة ليسيطرا على شفتيك فخرجت من بينهما الكلمات راقصة بفرح”. ويعقّب د. صادق قائلاً: “وما زال العلم عاجزاً عن تفسير ذلك النور الذي يملأ الوجه حين يشعر الإنسان بالحب والسلام والطمأنينة”. لكنه يقول في موضع آخر: “سالت دموعها فرحة أنه لم يعرف أنها تتألم، وسالت دموعه فرحاً أنه جعلها تشعر أنه لم يعرف أنها تتألم” …. في تعبير مؤلم لقصة أكثر إيلاماً أوردها في كتابه.
  • إن لحظات الولادة أشبه بلحظات تتويج ملكة! الألم هناك في رحمها فقط، لكن عقلها ووجدانها يهتزان فرحاً. تبكي وقد يبكي وليدها لبكائها، لكنها تستعجل ولادته لا للخلاص من آلامها بل ليكتمل زهوها به. وهناك ثمة علاقة سادية-مازوخية .. المعتدي هو الرضيع والمعتدى عليها هي أمه!.

يختم د. عادل صادق حديثه العذب عن الإنسان وهو يقطع طريقه بين الرجاء في الحياة وبين الموت المحتّم، فما الموت إلا (رحمة) في أحيان لا يُرتجى سواه، فيقول بيقين المؤمن: “وقد يجيء الموت في لحظة يتصاعد فيها الألم إلى أقصاه .. وفي ذلك رحمة، لأنه مع هذا الألم الشديد تهون الحياة ولا يشعر بالأسف لمغادرتها فقد كانت كلها حتى لحظاتها الأخيرة معه مصدراً لكل ألم”. وما الألم سوى (نعمة) يُعطي الإنسان -بعد أن يبرأ منه- دفقة جديدة للحياة وبمفهوم آخر عنها، فهي تستحق العيش مهما كان. فيقول: “إنه الرضى الذي يملأ النفس سروراً فيجعل للألم مذاقاً مقبولاً”.

وأختم بدوري بعبارة تستخلص الحكمة من قول الحكيم عن الألم، الذي وإن كان يُفسر علمياً كإنذار لخلل بيولوجي أصاب أحد أنسجة الجسم .. فإنه ألماً يعطي للحياة المعنى .. وأي معنى؟!

 

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 30 مارس 2022 – جزء (1) صفحة (10):

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/03/5084.pdf

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 31 مارس 2022 – جزء (2) صفحة (10):

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/04/5085.pdf

 

……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..

أنشر هذه المقالات في شهر ابريل 2022 والذي يصادف شهر رمضان المبارك 1443
رمضان كريم
وكل عام والجميع بخير
همى الغيث

……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..

(5)

كتاب/ القرآن المعجز – المؤلف/ د. جاري ميللر

المنطق القرآني سبباً في اعتناق عالم رياضيات للإسلام

 

 

كتاب موجز دوّنه المبشّر السابق وأستاذ الرياضيات د. جاري ميللر، حينما أراد قراءة القرآن الكريم بغية (فضح) ما به من أخطاء وتناقضات، والتي زخر بها من قبل الإنجيل المقدس عندما وقع عليها وهو يعمل كناشط في مجال التبشير المسيحي، وقد اعتقد ابتداءً أنه سيجد في هذا الكتاب وصفاً للصحراء والجمال والخيام المنصوبة فضلاً عن سيرة محمد الذاتية، الأمر الذي حمله إلى اعتناق الدين الإسلامي في نهاية المطاف. اختار اسم (عبدالأحد عمر) بعد اسلامه وعكف على دراسة اللغة العربية من أجل فهم أدق للقرآن الكريم، وأصبح ناشطاً مرة أخرى لكن في مجال التأليف وإلقاء المحاضرات حول الدين الإسلامي، وتعرض شبكة المعلومات عدداً من المواد المسموعة والمقروءة عن المؤلف وكتابه، فضلاً عن مقابلات شخصية معه. ولقد عمل بعد اعتناقه للإسلام في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن في المملكة العربية السعودية ضمن أعضاء هيئة التدريس ولعدة سنوات.

بالإشارة إلى عنوان كتابه، لا يعتقد د. ميللر أن المسلمين هم فقط من يصف القرآن الكريم بـ “المدهش”، بل أن هناك الكثير من غير المسلمين من يعتقد فيه هذه الصفة، بل والأكثر دهشة أن بعض من أولئك هم فعلياً من الكارهين للإسلام كراهية كبرى، إلا أن الشمس لا تُحجب بغربال بطبيعة الحال!.

تعتمد هذه المراجعة على الترجمة العربية للكتاب من لغته الأصلية ( The Amazing Qur’an – By: Dr. Gary Miller ) والتي عني بها موقع (إسلام هاوس) على شبكة المعلومات عام 2005. تعرض قائمة المحتويات في صفحة الكتاب الأولى إحدى وأربعين موضوعاً، تحمل عناوين ذكية مثل: (عن البحر، أدق الأشياء: العسل، اختبار عدم الزيف، علم طبقات الأرض، الوحي وأبو لهب، مفارقة مع قس، شهادة مفكر، منشأ العالم والحياة)، والتي اختار منها ما أذهل عالم الرياضيات بعد قراءته للقرآن الكريم الذي (لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ)، وباقتباس يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):

التحدي الصريح والقائم الذي جاء به القرآن الكريم في عدد من آياته ككتاب يخلو من الأخطاء، كآية: “أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا”. فيعتقد د. ميللر أن موقف التحدي هذا ليس من طبيعة البشر في شيء، حيث يشبهّه بطالب دخل قاعة امتحان وأجاب عن أسئلته، ثم ذيّل إجابته بتحدٍ للمراجع في إيجاد خطئاً واحداً بين إجاباته! بطبيعة الحال، سيتفرغ ذلك المراجع للبحث عن خطأ حتى يجده. عليه، لن ينجح أحد في هذا النوع من التحدي، لذا استخدمه الله مع المعاندين فقط. وبنفس النهج وعلى طريقة الرياضيين، يتتبع د. ميللر موقف أبي لهب وزوجه المعاند، ويعلق بمنطقية كاشفاً جانب من جهلهما قائلاً: “إن القرآن ذكر أن عم رسول الله هو وزوجته من أهل النار، وقد عاشوا بعد هذا التقرير مدة طويلة وماتوا على الكفر والعياذ بالله. فإن لم يكن ذلك وحي من الله فماذا يكون التفسير المقنع؟ لمَ لمْ يدّعي أبو لهب وزوجته الايمان فقط من أجل تكذيب القرآن؟ وقد كان يريد وزوجته اظهار كذب رسول الله بأي طريقة، ولكن هذا لم يحدث أبداً”.

عدم تطرق القرآن الكريم لسيرة النبي محمد ﷺ الذاتية، بل ظهر وهو يعمد إلى تأصيل القواعد العامة في علاقة الإنسان بالخالق وبالخلق. إذ لا وجود -على سبيل المثال- لخبر موت بنيه أو زوجه أو ما راوده من انفعالات حال تنّزل الوحي عليه، وغيرها من أمور التي لا بد وقد شغلت حيزاً كبيراً من عقل النبي ﷺ ونفسه وآلامه وسلوكه، إلا أن عدم ورود شيء من قبيل الانطباعات الشخصية لهو دليل على المصدر الإلهي للقرآن الكريم لا بشريته كما يدعّون. وفي لغة تبدو للبعض (نسوية)، يُثني المؤلف على أم المؤمنين (السيدة خديجة بنت خويلد) بعظيم الثناء وقد اطّلع على السيرة النبوية العطرة، لا سيما أوائلها حيث الصعاب التي واجهها النبي الأكرم ﷺ وتزامنها مع وفاة أكبر معين له، فيقول في استنباط شاعري: “في الواقع، فقد كانت زوجة عظيمة لأنه في بداية الوحي لجأ إليها خائفا يرتعد، فواسته وثبتته وأيدته. وأنت لا تجد حتى في أيامنا هذه أحداً من العرب حينما يكون خائفا أن يذهب لزوجته ليعلنها بهذا الخوف، ولكن لا يتم هذا الإخبار إلا إذا كانت هناك رابطة قوية جداً بينه وبين زوجته حتى يرفع تلك الكلفة بينهما، وهذا يوضح لك مدى قوتها وثقة الرسول عليه الصلاة والسلام فيها. وبالرغم من أن هذه بعض الأمثلة فقط التي تنبئ بما كان يدور في ذهن الرسول، ولكنها كافية لتوضح وجهة نظري”. ومن المدهش أن يستشف رجل أحمر -قرأ لتوه السيرة النبوية- معنى (السكن) بين النبي وزوجه، في حين لم يضع أحد بنو العرب كبرياءه جانباً على امتداد أربعة عشر قرناً ليتأسى ويركن إلى سكنه .. في حاجة وفي غير حاجة، فضلاً عن أن يصرّح بهذا (التنازل) علناً!.

دعوة القرآن الكريم قارئيه لسؤال أهل الاختصاص في أي علم كان .. في علم الأحياء، في علم النبات، في علم الجغرافيا، وغيرها، عملاً بالآية الكريمة: “فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ”. وقد كان هذا ديدن المسلمين الأوائل في انفتاحهم على علوم الغير، وانتهاج منهج البحث، وتحقيق الكثير من الاكتشافات المذهلة بناءً على ذلك. وهو كذلك يتطرق إلى عدد من الحقائق العلمية كـ (علم الأجنة) على سبيل المثال لا الحصر، حيث استعان د. ميللر في هذا برأي د. كيث موور وهو باحث أكاديمي من جامعة تورنتو مختص في هذا المجال، الذي أقرّ بأن مراحل تطور الجنين كما جاءت في سورة الحج لم تكن معروفة قبل حوالي ثلاثين عاماً. وقد جاء هذا الاستنتاج من خلال تعاون علمي تم بينه وبين مجموعة من الباحثين في المملكة العربية السعودية. ويستمر د. ميللر في حديثه عن الإعجاز القرآني وفي اختصاص أنثى النحل تحديداً بإنتاج العسل، حيث يعقد مقارنة علمية لا تخلو من طرفة بين أنثى النحل في القرآن الكريم وذكر النحل في مسرحية شكسبير، فيقول: “هل يمكنك التمييز بين ذكر النحل وأنثى النحل؟ يحتاج الأمر لخبير للتمييز بينهما! ولكن تم الاكتشاف بأن ذكر النحل لا يغادر الخلية أبداً لجمع الغذاء. ومع ذلك في مسرحية (هنري الرابع) لشكسبير يدور نقاش بين الشخصيات يوضح أن النحل عبارة عن جنود ولديهم ملك، فهذا ما كان الناس يعتقدونه في عصر شكسبير أن النحل الذي نراه يطير هو جنود ذكور يمتثلوا لأوامر ملكهم، ولكن هذا ليس صحيحاً على الإطلاق، لأن الحقيقة العلمية تؤكد انهن إناث يمتثلن لأوامر ملكتهم”.

وكمقارنة بين الأديان، يستعين د. ميللر بالإنجيل المقدس من أجل الاستدلال بمعجزة جرت على يد السيد المسيح (عليه السلام) في إحياء أحد الأشخاص بعد وفاته لأربعة أيام، فما كان من ثلة من اليهود إلا أن صاحوا في عند وافتراء: “الشيطان يساعده .. الشيطان يساعده”. وقد جاء هذا الاستدلال كتعقيب على حوار جرى بينه شخصياً وبين أحد القساوسة، والذي أشار من خلاله إلى القرآن الكريم موجهاً كلامه إلى القسيس قائلاً: “أنا أثق بهذا الكتاب” ويكمل: “ومن غير أن يعرف ماهية الكتاب الذي أشير إليه، أجاب: (إن لم يكن هذا الكتاب هو الكتاب المقدس، فهو مكتوب من أحد البشر). وكاستجابة لهذه الملاحظة قلت له: (دعني أذكر لك شيئا مما في هذا الكتاب). وأمضيت حوالى ثلاث أو أربع دقائق أسرد له بعض ما جاء فيه، وبعد هذه الدقائق، عاد وغير من لهجته قائلا: (أنت محق ليس هذا قول بشر، هذا من أقوال الشيطان، الشيطان قد كتبه)!. بالطبع هذا التعليق السريع بائس جداً لأسباب كثيرة. فهو اعتذار رخيص جداً، كما أنه هروب من مواجهة موقف محرج”.

وكختام لهذه المراجعة، أبى قلمي إلا أن يسطّر كلمة في نعمة الإيمان بالفطرة، إذ أن الحديث عن هذه النعمة قد تكون أبلغ في التعبير حين يتحصّلها المرء لا عن طريق الوراثة ولا التلقين، بل من خلال عملية التفكير الحر وبتجرد ومنطقية! وهذا ما تترجمه مداخلة د. جاري ميللر في ندوة حضرها كانت تدور حول (الإيمان بالله من وجهة نظر فلسفية)، إذ قال وقد صدق: “إن المتتبع لحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم لابد أن يؤمن بالله، فإيمانه وثقته التي لاتحد والنور الذي يشع من إيمانه هو بالله سبحانه وتعالى وأثر ذلك على كل تصرفاته، لهي أكبر معين ننهل نحن منه، فمن نوره نقتبس نور إيماننا، فهو النور الذي لا ينضب، وهو المثال العملي الذي يغنينا عن آراء الفلاسفة، وذلك أدعى إلى الإيمان الثابت الذى لا يتزعزع”.

وبدوري أنتهي بـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا).

 

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 6 ابريل 2022 – صفحة (10):

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/04/5089.pdf

 

……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..

(6)

كتاب/ الموسوعة الميسرة في التاريخ الإسلامي

المؤلف/ فريق البحوث والدراسات الإسلامية في مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة

سلسلة التاريخ الإسلامي منذ النشأة حتى الوقت المعاصر

 

 

موسوعة ميّسرة تعرض سلسلة التاريخ الإسلامي في مجلدين، تستهل الجلدة الأولى من المجلد الأول بالنشأة عند تنزّل الوحي مع بداية عصر النبوة، لتقف عند الجلدة الأخيرة من المجلد الثاني إلى ما آل عليه الوضع في العصر الحالي من ضعف وانقسام وتشرذم. وعلى الرغم من أن الموسوعة جاءت في مجلدين، إلا أنه بالإمكان اعتبارها مقدمة تعريفية عامة في التاريخ الإسلامي، والتي تدفع إلى الاستزادة بعد ذلك من خلال مراجع وبحوث متعمقة أخرى.

تأتي أهمية تدوين التاريخ الإسلامي كأعظم وأرقى وأصحّ تاريخ إنساني سرى على ظهر هذه البسيطة، “فالتاريخ الإسلامي هو تاريخ أمة شاهدة وأمة خاتمة وأمة صالحة وأمة تقية نقية”. كما تذكر الموسوعة، غير أن أهميته لا تقتصر على مجرد تدوينه فحسب بل في اعتباره دستور حياة، من خلال دروس الماضي وفي كل ما يصلح الحال والمآل.

تعتمد هذه المراجعة على الطبعة السابعة والعشرين للموسوعة الصادرة عام 2014 عن مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، والتي عني بها فريق البحوث والدراسات الإسلامية وحققها د. راغب السرجاني، وهو داعية ومؤرخ إسلامي مصري حاصل على درجة الدكتوراة في الطب. وقد جاءت هذه الموسوعة دقيقة ومفصّلة في ثمانية أبواب رئيسية ما يعكس جودة البحث، والتي أعرض منها ما علق في ذهني بعد قراءتها وباقتباس يسير بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):

المجلد الأول:

في (الباب الأول: موجز السيرة النبوية) ينقسم تاريخ هذه السيرة إلى فصلين: (الأول: من الميلاد إلى البعثة) ويتم التطرق فيه إلى نسب الرسول ﷺ، وولادته، وكفالة جده عبدالمطلب له بعد وفاة أمه، ومن ثم كفالة عمه أبو طالب بعد وفاة جده. تسرد السيرة بعد ذلك أهم الأحداث التي مرت به ﷺ في تلك الفترة، كحادثة شق الصدر في طفولته، ولقاءه بالراهب بحيرا في الشام وهو غلام، ورعي الغنم في شبابه، وتحكيم القبائل له بعد إعادة بناء الكعبة وهو على مشارف الأربعين. أما في (الثاني: من البعثة إلى الهجرة) فتتطرق السيرة إلى بدء نزول الوحي والدعوة إلى الدين الإسلامي وإسلام السابقين، لتعرج إلى مرحلة الاضطهاد التي دفعت المسلمين الأوائل إلى الهجرتين نحو الحبشة، ومحاولات المشركين في ردهم وما انطوت على مساومات ومقاطعات. ومن أهم أحداث هذه الفترة هو عام الحزن الذي شهد وفاة زوج الرسول ﷺ خديجة وعمه أبو طالب، ورحلة الإسراء، وخروجه إلى الطائف، وزواجه من عائشة أم المؤمنين، ودخول الأنصار في الإسلام، وبيعتا العقبة الأولى والثانية، وهجرته إلى المدينة المنورة. يؤسس الرسول ﷺ للدولة الإسلامية في المدينة بعد هجرته إليها والتي شهدت إنجازات عديدة، كبناء أول مسجد، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وعقد المعاهدة بين المسلمين واليهود. تشهد أيضاً شن الغزوات كغزوة بدر وغزوة بني قينقاع وغزوة أحد وغزوة الأحزاب وغزوة مؤتة وغزوة حنين وغيرها. تم فيها كذلك عقد صلح الحديبية وبيعة الرضوان، وفتح خيبر، ثم فتح مكة وقد كان هو الفتح الأعظم. تنتهي هذه الفترة بحجة الوداع، ووفاته ﷺ ولحاقه بالرفيق الأعلى.

أما (الباب الثاني: الخلفاء الراشدين) فتظهر فيه فترة الخلافة كأصدق الفترات بعد النبوة، إذ لم يكن خلفاؤها ذوي مطامع سياسية أو أصحاب شعارات في الاستقلال والتحرير، بل كانوا فاتحين معلّمين هادين مهديين. وينقسم التاريخ عندها إلى: أولاً (خلافة أبو بكر الصديق – ربيع أول 11 هـ : جماد الأخر 13 هـ)، وتتحدث الموسوعة عن انتخابه كأول خليفة للمسلمين وعن أهم الأحداث التي تصدى لها، كأزمة المرتدين، وإنفاذ جيش أسامة، وبداية جمع القرآن الكريم. تبدأ في هذه الفترة أيضاً فتوحات العراق وبلاد فارس وغزو الروم في الشام. ثانياً (خلافة عمر بن الخطاب – جماد الأخر 13 هـ : ذي الحجة 23 هـ): تتعرض الموسوعة إلى الكيفية التي تم فيها استخلافه بعد وفاة الخليفة الأول، ثم تستهل بسرد الفتوحات التي تمت في عهده وهي كثيرة، مثل فتح دمشق وأجنادين وبيت المقدس ومصر وبلاد فارس، مع شيء من التفصيل في الأحداث البارزة، مثل معركة القادسية ومعركة اليرموك ومعركة نهاوند ويوم عماس ويوم أرماث ويوم أغواث. أيضاً، تتطرق إلى بعض المجريات التي تخللت تلك الفتوحات، كعزل خالد بن الوليد، ومعاهدة أهل إيلياء، وانهزام المسلمين في معركة الجسر، وتثاقل رستم عن مواجهة المسلمين، وانكسار يزدجرد كسرى فارس. تنتهي هذه الفترة باستشهاد الخليفة الثاني في صلاة الفجر بطعنة خنجر مسموم على يد أحد المجوس الذي أسلم ظاهراً. ثالثاً (خلافة عثمان بن عفان – ذي الحجة 23 هـ : ذي الحجة 35 هـ)، وتتحدث الموسوعة هنا عن إنشاء أول أسطول بحري إسلامي في عهده كخليفة ثالث للمسلمين والذي أعقبه فتح قبرص. تتم في عهده عملية جمع القرآن الكريم، وتشهد اشتعال أول شرارة للفتنة بين المسلمين. رابعاً (خلافة علي بن أبي طالب – ذي الحجة 35 هـ : رمضان 40 هـ)، وتواصل الموسوعة في الحديث عن الفتنة التي استمرت في عهده كخليفة رابع للمسلمين، لا سيما موقعة الجمل وموقعة صفين اللتان مهدتا لظهور الخوارج. وفي عهد الخلافة الرشيدة، وبمجرد مقتل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، سارعت الفرس بنقض المعاهدات وبدأت والروم بمحاولات طرد المسلمين من الشام “فواجه عثمان محنة عظيمة كتلك المحنة التي واجهها أبو بكر في حروب المرتدين”، إلا أن المسلمين الأُول استبسلوا في الدفاع حتى تمكنوا من إعادة السيطرة على تلك المناطق وقبلوا اعتذار أهلها، الذين استمروا في العيش بسلام تحت كنف دولة الإسلام.

في (الباب الثالث: الخلافة الأموية – 41 هـ : 132 هـ) تبرز الخلافة هنا كدولة حافظت على جميع مظاهر القوة بين الأمم رغم ما نالها من فتن وما شهدت من ثورات، ولم تظهر بمظهر الضعف إلا ككبوة. ما كان يميز هذه الفترة هو طابع الجهاد في سبيل الله حيث الإسلام يكتسح مشارق الأرض ومغاربها، ومن كان يصطف في جيوشها من الصالحين وكبار العلماء والتابعين. هنا، يُعرض تاريخ الخلافة في فصلين: (الأول: خلفاء بني أمية) وتستهل الخلافة بمعاوية بن أبي سفيان الذي أعاد الأمن للبلاد وبدأ أولى محاولات فتح القسطنطينية، وقد أولى بالخلافة لابنه يزيد قبل مماته، فيستتب الأمر له ويبايعه المؤيدون والمعارضون كأول أمير للمؤمنين في الدولة الأموية، مع قناعته بمن هو أكثر أهلّية منه بين كبار الصحابة آنذاك، إلا أنه كان يرجو أن يكون “أنفعكم ولاية وأنكأكم في عدوكم” كما قال في خطبته. ومن أبرز خلفائهم ايضاً الوليد بن عبدالملك الذي اكتمل في عهده بناء الجامع الأموي في دمشق، وابنه سليمان بن عبدالملك الذي حاول من جديد فتح القسطنطينية، وعمر بن عبدالعزيز الذي سار على نهج الخلفاء الراشدين الأربع. تنتهي هذه الخلافة بالخليفة مروان بن محمد. (الثاني: الفتوحات في عهد بني أمية) وتمتد الفتوحات في هذه الخلافة شرقاً وغرباً، حيث تأتي على الشمال الأفريقي وصولاً إلى المغرب وبلاد الأندلس، ثم تعكس الاتجاه نحو بلاد ما وراء النهر وبلاد الترك وبخارى وسمرقند، فضلاً عن المحاولات الرامية نحو أرض الهند وأرض الصين.

وفي (الباب الرابع: الخلافة العباسية – 132 هـ : 656 هـ) يتشعب التاريخ في هذه الخلافة إلى ستة فصول: (الأول: خلفاء بني العباس) حيث يتم التطرق أولاً إلى كيفية بدء الدعوة العباسية بتعثر وقد اشتبكت في عراك مسلّح مع الدولة الأموية انتهت باستخلاف عبدالله بن محمد بن العباس كأول خليفة لبنو العباس وقد لُقب بـ (السفاح). يستهل الفصل بأسماء خلفاء العباسيين تباعاً، مثل: المنصور، محمد المهدي، هارون الرشيد، المأمون، المعتصم، الواثق بالله، محمد المنتصر، المستعين بالله، المعتضد بالله، المكتفي بالله، المقتدر بالله، المتقي بالله، المستكفي، الفضل المطيع لله، الطائع لله، القائم بأمر الله، المقتدي بأمر الله، المستظهر بالله، المسترشد بالله، المقتفي لأمر الله، المستنجد بالله، المستضيء بأمر الله، محمد بن الناصر، المنصور بن الظاهر، وغيرهم. تشهد هذه الخلافة أمور جمّة، كبناء مدينة بغداد، ومحنة البرامكة، ومحنة خلق القرآن التي ارتبطت بمحنة الإمام أحمد بن حنبل، وثورة صاحب الزنج، وتنفّذ السلاجقة الأتراك، وسيطرة البويهيين، وصراع السنة والشيعة، وغزو التتار. يعتلي هارون الرشيد سدة الحكم في الدولة العباسية وهو في الخامسة والعشرين من عمره، وقد كان ذو مناقب عدة، فمع كثرة صلاته واستدامته على الحج عام والغزو عام، كانت فترة حكمه الأكثر رخاءً، وقد لحقتها من النوازل والكوارث الكثير، كمحنة خلق القرآن المذكورة آنفاً. يخاطبه نقفور ملك الروم في رسالة إليه يبدأها بـ “من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب”، فحواها المطالبة باسترداد ما دفعت له الملكة السابقة من جزية، مع تهديد صريح بإعمال السيف بينهما إن لم يستجب! يقلب هارون الرشيد تلك الرسالة الحمقاء ويكتب في ظهرها رداً بليغاً قائلاً: “من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة والجواب ما تراه دون ما تسمعه”. (الثاني: أهم الدول التي قامت في عهد الخلافة العباسية) وتصنّف الموسوعة هنا أحد عشرة دولة استطاعت الاستقلال عن الدولة العباسية التي لم تتمكن من إرسال الجنود لإخضاعها من جديد. هي: الدولة الرستمية التي أسسها رستم بن بهرام في تاهرت بالمغرب على مذهب الإباضية. دولة الأدارسة وأسسها ادريس بن الحسن في المغرب أيضاً على مذهب الزيدية. دولة الأغالبة وأسسها إبراهيم بن الأغلب في شمال أفريقيا ابتداءً من تونس الحالية. وهنالك أيضاً دولة بني زيري بالمغرب، الدولة الطولونية، الدولة الإخشيدية، دولة بني حمدان، الدولة السامانية، الدولة الغزنوية، الدولة الخوارزمية، الدولة الغورية. (الثالث: المسلمون في الأندلس – 92 هـ : 897 هـ)، وتشهد شبه الجزيرة الإيبيرية على بسالة المسلمين الأُول، أمثال طارق بن زياد وموسى بن نصير وعبدالرحمن الغافقي ويوسف بن تاشفين، وكذلك على ذلة المتأخرين منهم حين طُردوا منها شر طرده غير مأسوف عليهم، هكذا على امتداد ثمانية قرون، مخلّفين وراءهم محنة الموريسكيين. وينقسم التاريخ الأندلسي إلى عشرة مراحل، هي: 1. ولاية تابعة للدولة الأموية (92 هـ : 138 هـ) 2. إمارة موحدة (138 هـ : 238 هـ) 3. التدهور الأول (238 هـ : 300 هـ) 4. عودة القوة وإعلان الخلافة (300 هـ : 368 هـ) 5.قيام الدولة العامرية (368 هـ : 399 هـ) 6. التدهور الثاني وسقوط الدولة الأموية (399 هـ : 422 هـ) 7. ملوك الطوائف (422 هـ : 484 هـ) 8. عهد المرابطين (484 هـ : 539 هـ) 9. عهد الموحدين (539 هـ : 620 هـ) 10. دولة بني الأحمر والانهيار الأخير (620 هـ : 897 هـ). ينبري المسلمون ابتداءً في فتح الأندلس حتى يجاوزوا حدود فرنسا، لكن قدر الله شاء أمراً آخراً حينها. يقول جيبون وهو أحد المؤرخين الغربيين المنصفين: “لو انتصر العرب في تور-بواتييه لتُلي القرآن وفسّر في أكسفورد وكمبريدج”. (الرابع: الدولة الفاطمية – 297 هـ : 567 هـ) وكان من أهم سماتها الاعتماد على اليهود والنصارى في إدارة البلاد من خلال توليهم مناصب سامية، الأمر الذي جعل من هذه الفترة معترك للصراع ومرتع للبؤس. (الخامس: الحروب الصليبية وجهاد آل زنكي وصلاح الدين ضدها – الحملة الصليبية الأولى 489 هـ : الحملة الصليبية السابعة 648 هـ) وقد كانت خير مثال للمسلمين وللصليبين على حد سواء في نبذ التعصب واحترام العهود ولين المعاملة، والذود عن حمى الأرض، الأمر الذي ساهم في تأخير السطوة الصليبية عمّا يزيد عن ستمائة عام. (السادس: دولة المماليك – 468 هـ : 922 هـ) لقد كان هؤلاء أهل نزال وانتصارات كما في عين جالوت، غير أن نزالهم الذي ارتد إلى الداخل وولّد الغفلة بينهم عن العدو الخارجي قد سارع في زوالهم من التاريخ. من أعلام تلك الفترة سيف الدين قطز، والعز بن عبدالسلام، والظاهر بيبرس.

المجلد (2):

يظهر في (الباب الخامس: تاريخ المغول المسلمين) كيف ذاق المسلمون شر الويلات على أيدي هؤلاء المغول في بداية تاريخهم، غير أن التاريخ يشهد فيما بعد على فضلهم في توسيع رقعة الدولة الإسلامية -بعد أن هداهم الله للإسلام- بشكل لم يسبق له مثيل حتى الوقت الحاضر. ينقسم التاريخ بدوره هنا إلى خمسة فصول: الأول: المغول في شرقي أوروبا وغربي سيبيريا. الثاني: المغول في إيران. الثالث: المغول في بلاد الصين ومنغوليا. الرابع: المغول في تركستان الغربية. الخامس: المغول في الهند. أما عن (الباب السادس: الخلافة العثمانية) فيكفي هذه الخلافة فخراً فتح القسطنطينية الذي لم يكن مقدّراً لغيرها رغم المحاولات المستميتة، وقد توغلت فتوحاتها إلى قلب أوروبا حتى توقفت عند أسوار فيينا. يُعرض تاريخ هذه الخلافة في أربعة فصول: الأول: الدولة العثمانية من النشأة حتى إلغاء الخلافة. الثاني: بلاد العرب، لا سيما في الجزيرة العربية، والعراق، والشام، ومصر، والمغرب العربي. الثالث: بلاد البلقان. الرابع: بلاد القوقاز. يعرض (الباب السابع: جنوب شرقي آسيا) كيف أن الأسبان والبرتغاليين لم يهنأ لهم بال بعد طرد المسلمين من بلادهم الواقعة غرب العالم وهم يشاهدون اكتساح الإسلام من جديد في شرقه، حيث دفعتهم أحقادهم إلى غزو تلك البلاد والتنكيل بأهلها الذي استبسلوا في الدفاع عن أراضيهم ودحر أعداءهم، سواء كانوا من المسلمين أو من غير المسلمين. يقول لابو لابو وهو أحد ملوك جزر الفلبين المسلمين: “إن الدين لله، وإن الإله الذي أعبد هو إله جميع البشر على اختلاف ألوانهم”. وختاماً، يعرض (الباب الثامن: أفريقيا) وما كان لهذه القارة من نصيب الأسد في استيطان الإسلام والمسلمين، فلا غرو أن تكون الأشد بطشاً على أيدي المستعمرين الأوربيين الذين تركوها خراباً يباباً إلى يومنا هذا. تعرض الموسوعة تاريخ القارة في ثلاث فصول: الأول: الممالك الإسلامية قبل قدوم الاستعمار الصليبي: في غربها، في السودان العربي، في سواحلها الشرقية. الثاني: الاحتلال الأوروبي الغاشم. الثالث: الدول المستقلة في أفريقيا، وهي: الدول ذات الأغلبية الإسلامية التي يحكمها المسلمون، مثل: موريتانيا والسنغال وجزر القمر، والدول ذات الأغلبية الإسلامية التي يحكمها غير المسلمين، مثل: غينيا وأثيوبيا والكاميرون.

… إن الموسوعة مثقلة حقاً بكل ما هو مدعاة للفخر .. والخيبة كذلك، ولا تتسع الصفحات لتلخيصه!

قد تحتاج الطبعات الجديدة إلى تحديثات أكثر واقعية، لتعكس الوضع الأخير للأمة الإسلامية المتخبطة فيما يُسمى بثورات الربيع العربي، والامتهان الأكبر في الاعتراف بدولة إسرائيل وما تلاها من عمليات التطبيع الرسمية.

أختم بما جاء في الصحاح من خير كلام سيد البشر عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم: “بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ”.

ومن يدري؟ .. علّنا نكون الغرباء!.

 

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 13 ابريل 2022 – جزء (1) صفحة (10):

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/04/5094.pdf

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 14 ابريل 2022 – جزء (2) صفحة (10):

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/04/5095.pdf

 

……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..

(7)

كتاب/ الصراع من أجل الإيمان: انطباعات أمريكي اعتنق الإسلام

المؤلف/ د. جفري لانج

المترجم/ د. منذر العبسي

دار النشر/ دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشر

المنطق أو الفطرة .. كلاهما مرادف لجوهر الإسلام

 

 

كتاب تتدفق فيه كلمات مؤلفه على امتداد أكثر من ثلاثمائة صفحة، من أجل الإجابة على سؤال وجهته إليه ابنته يوماً لم يكن يتجاوز حينها الأربعة كلمات: “لماذا اخترت الإسلام يا أبي”؟

إنه د. جيفري لانج (Jeffrey Lang)، البروفيسور في علم الرياضيات. ولد عام 1954 في مدينة بريدج بورت لأسرة أمريكية نصرانية متدينة تعتنق الكاثوليكية، وتابع تحصيله الدراسي حتى حصل على درجة الدكتوراة من جامعة سان فرانسسكو عام 1981، وانخرط في سلك التدريس بعدها، وكان قد هجر الكنيسة حينها واختار الإلحاد. يُسهب البروفيسور وهو يتحدث عن رحلته الإيمانية بدءاً من الكاثوليكية إلى الإلحاد انتهاءً بالإسلام ونطق الشهادتين، وذلك حين لم تُجب الكاثوليكية على أسئلته الروحانية وهو العالِم الذي أسس عقله على بنيان من منطق وبراهين ومنهجية، حتى أهدت إليه إحدى الأسر المسلمة القرآن الكريم، فبدأ معه (صراعه الحقيقي) ورحلة مختلفة نحو الإيمان الحق لم تكن هيّنة على الإطلاق!. تعرض شبكة المعلومات عدداً من المواضيع المسموعة والمقروءة عنه فضلاً عن بعض اللقاءات الشخصية، وله إصداران آخران هما: كتاب/ ضياع ديني: صرخة المسلمين في الغرب، وكتاب/ حتى الملائكة تسأل: رحلة إلى الإسلام في أمريكا.

تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الثانية للكتاب الصادرة عام 2000 عن (دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشر) في دمشق، وعن ترجمة مباشرة للكتاب من لغته الأصلية (Struggling to Surrender: Some Impressions of an American Convert to Islam)، وقد عني بها د. منذر العبسي، وهو أكاديمي سوري حاصل على درجة الدكتوراه في الأدب الإنجليزي من جامعة جلاسكو في بريطانيا، ويعمل في سلك التدريس الجامعي. وقبل البدء، لقد كانت لفتة راقية أن يهدي البروفيسور كتابه إلى (بناته المؤمنات: جميلة وسارة وفاتن) في خط ديواني أنيق، والذي تعرض محتوياته خمسة فصول رئيسية هي: 1. النطق بالشهادة / 2. القرآن / 3. رسول الله / 4. الأمة / 5. أهل الكتاب. وأعرض فيما يلي شيئاً من جميل ما ورد فيه، وباقتباس يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):

يسترجع البروفيسور حلماً قد تكرر معه عندما كان يافعاً، وهو أدائه للصلاة في مسجد يقبع أسفل درج ويشعّ النور من كوة بداخله، ضمن مجموعة من رجال مسلمين ينحنون فوق سجادها الأحمر، في وقت لم يكن قد عرف فيه المسجد ولا الإسلام بعد! حتى أتت رؤياه كفلق الصبح بعد يومين فقط من إعلان إسلامه، وعند صلاته مع إخوته الجدد من المسلمين في نفس الغرفة السفلية وفوق نفس السجاد ومن فوقهم كوة النور، لدرجة شعر فيها أنه نائماً متلبساً في حلمه من جديد، أعقبتها برودة سرت في جسده كله، فرجفة، وانتهت بدفء النور والدموع .. في أعجب ما يمكن تصوّره عن مدارج الروح، وهي من أمر الله. وفي محاولة لتأويل رؤياه السابقة بعد بلوغه الذروة وقت سجوده، يعترف قائلاً: “تملكني الخوف والرهبة عندما شعرت لأول مرة بالحب والعطف الظاهرين، لا لأنّا نستحق ذلك، ولكن لأن هذا الحب والعطف كانا دوماً موجدين، وكل ما علينا عمله للحصول عليهما هو أن نعود إلى الله”. بعد سفره بعيداً عن والديه للدراسة، وخبرة مرحلة الانفكاك من التبعية إلى الاستقلالية، يستشعر البروفيسور الحد الفاصل بين المؤمن والملحد، قائلاً: “لا أحد يعرف الوحدة كالملحد. فعندما يشعر الشخص العادي بالعزلة فإنه يستطيع أن يناجي من خلال أعماق روحه الواحد الأحد الذي يعرفه ويكون بمقدوره أن يشعر بالاستجابة. لكن الملحد لا يستطيع أن يسمح لنفسه بتلك النعمة، لأن عليه أن يسحق هذا الدافع، ويُذكِّر نفسه بسخفها. لأن الملحد يكون إله عالمه الخاص به، ولكنه عالم صغير جداً، لأن حدود هذا العالم قد حددتها إدراكاته، وهذه الحدود تكون دوماً في تناقص مستمر”. وفي حديثه عن الإلحاد، يرى أن العرب قبل الإسلام لم يكونوا ملاحدة بل وثنيين يعتقدون بتعدد الآلهة، غير أنهم لم يكونوا متدينين. عليه، كانت معضلة القرآن الكريم مع هؤلاء القوم ليست في الكفر بالله بل الانحراف في تصوره، مما أرداهم في حياة الفسق الفجور.

كمسلم مستجد، يبتكر البروفيسور طريقة عملية في التنبيه لصلاة الفجر تحديداً، وقد وجد مشقة فيها رغم استشعاره أهمية الصلاة عموماً كفريضة وما تستجلب للمرء من عون وراحة، تمثلت في الاستعانة بثلاثة منبهات موزعة على أماكن متباعدة في مسكنه، يقوم بضبطها على مواقيت متتالية مع فارق قصير بينها. ورغم مشقة صلاة الفجر بالتحديد كما عبّر، يعود فيقول في روحانية: “صلاة الفجر بالنسبة لي هي إحدى أجمل الشعائر الإسلامية وأكثرها إثارة. هناك شيء خفي في النهوض ليلاً بينما الجميع نائم لتسمع موسيقى القرآن تملأ سكون الليل. تشعر وكأنك تغادر هذا العالم وتسافر مع الملائكة لتمجد الله بالمديح عند الفجر”. لقد كان يحرص على صلوات العتمة في جماعة حيث (الجهرية) هو طابعها، ورغم أنه لم يكن قادراً على فهم ما يسمع إلا أن ما يسمعه كان مريحاً بالنسبة له، كالطفل يرتاح لصوت أمه وهو لا يفهم كلماتها، وكذلك كان (صوت) الصلاة الجهرية، وقد تمنى أن يعيش أبداً تحت حماية صوتها. يعتقد أن (اقرأ) كأمر إلهي إنما هو نعمة سماوية في تعلم القراءة، وعن طغيان الإنسان واستغناؤه في منتصف السورة الكريمة يعتقد أن العلم الحديث صوّر للإنسان من عظيم الشأن ما أغناه عن الله، غير أن تلك العلوم وما حملته من فكر تأبى إلا أن تتفق مع ما ورد في القرآن الكريم، الأمر الذي دعى الكثير من أصحاب تلك العلوم إلى اعتناق الدين الذي جاء به.

ينتقل البروفيسور ليتحدث عن الإعجاز القرآني في اختصاص أنثى النحل بإنتاج العسل من خلال آية (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ)، وعن منهج (التجربة والخطأ) في العمل وارتكاب الخطأ والتسامي عليه بعد إدراكه ومن ثم الاستمرار والتقدم، يقرأ آية (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا)، ثم يبكي بكاء الطفل المفقود بعد عودته لأمه استشعاراً لقرب الله الذي لا يتخلى عمّن بحث عنه، وهو يتلو (وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى). وفي لغة فلسفية، يتحدث عن القرآن وقد استشعر بأن القرآن هو من يحدثه، بل يتحداه ويقرأ أفكاره، ويجيب على كل ما راود عقله من تساؤلات. فعن تلك المعركة الروحانية يقول: “ولم أكن في وضع أُحسد عليه، إذ بدا واضحاً أن مبدع هذا القرآن كان يعرفني أكثر مما كنت أعرف نفسي. إن الفنّان يستطيع أن يجعل العين في أي لوحة يرسمها تبدو وكأنها تنظر إليك حيثما كنت منها، ولكن أي مؤلف يستطيع أن يكتب كتاباً مقدساً يستطيع أن يتوقع حركاتك وسكناتك اليومية؟ لقد كان القرآن يسبقني دوماً في تفكيري، ويزيل الحواجز التي كنت قد بنيتها منذ سنوات، وكان يخاطب تساؤلاتي”. وبنفس اللغة يكمل: “وفي كل ليلة كنت أضع أسئلتي واعتراضاتي، ولكنني كنت إلى حد ما أكتشف الإجابة في اليوم التالي. ويبدو أن هذا المبدع كان يقرأ أفكاري، ويكتب الأسطر المناسبة لحين موعد قراءتي القادمة. لقد قابلت نفسي وجهاً لوجه في صفحات القرآن، وكنت خائفاً مما رأيت. كنت أشعر بالانقياد، بحيث أشق طريقي إلى الزاوية التي لم تحوِ سوى خيار واحد”. ثم يتطرق إلى مناقشة بعض الآيات القرآنية المثيرة للجدل عند الغرب، وينظر بمفهوم آخر لبعض الأحاديث النبوية كحديث (فتنة النساء) بعيداً عن المعنى الحرفي وإحالته على أمور حسية، فيرى أنها على الأصح فتنة للرجال في ميلهم نحو ظلم المرأة واحتقارها لضعف يرونه فيها دائماً، ويضرب أمثلة لتلك الفتنة في مسألة الطلاق ومضرة الوالدة بولدها. ويستمر في حديثه عن المرأة أجده شجياً، فيثمّن انتخاب السيدة بنازير بوتو كرئيسة وزراء للباكستان، ويرى أن للأمر انعكاساً طيباً على المجتمع الأمريكي المسلم، حيث إن جلّ من يعتنق الإسلام “هم من النساء الماهرات المدربات في التنظيم والقيادة، وممن يمتلكن مواهب في مجتمع هو في أمس الحاجة إليها”. وبالرجوع إلى القرآن الكريم، يؤكد على أن “ليس هناك في القرآن تصريح مباشر ضد انتخاب نساء قائدات، بل إن القرآن يقدم لنا أنموذجا فريداً عن الحاكمة الصالحة وهي ملكة سبأ بلقيس. ويظهر القرآن هذه الملكة على أنها قائدة حكيمة وعميقة التفكير وديمقراطية كرّست جل اهتمامها لسعادة شعبها ورفاهيته، ولقد قادت أمتها من خلال نفوذ سليمان إلى الإيمان بالله. ونظراً لغياب أي تحريم قرآني لهذه الإمكانية، ولأن المثال الوحيد المذكور في القرآن حول هذا مثال إيجابي، فإننا يمكن أن نتوقع أن تكون فكرة المرأة الزعيمة مقبولة عند المسلمين، ولكن بشكل عام، ليس هذا هو الحال”.

وفي تطرّقه إلى شئون المرأة المسلمة، يعزف على وتر موجع لا يحيد عن موضوعية، مشوب باستفهام مستعص على أي تبرير منطقي، أشاركه فيه مع ابنته ذات الأربعة أعوام حين تساءلت في براءة عن سبب عدم السماح للنساء بحضور المسجد، في مقارنة مع رفيقتها المسيحية وعائلتها الحريصة على زيارة الكنيسة. فيعبّر عن استنكاره متسائلاً بدوره: “لست متأكداً كيف ومتى أصبح للمسجد جو لا يكاد يسمح بدخول النساء إليه؟” ثم يستطرد: “ومن الواضح أن ذلك قد حصل في وقت متأخر وفي وضع ثقافي مختلف”. وبينما يرى أن بعض الثقافات المسلمة توفر للنساء مناهج معينة لإثراء إيمانهن بالله، فأنها لا تقدم لهن بديلاً عن حضورهن للصلاة في المسجد “كاجتماع نسائي أسبوعي مثلاً”، وهذا بدوره “يعني أنك تعطيهن مقاماً من الدرجة الثانية”. ويعتقد في مثل هذا الجو من عدم الاكتراث بتشجيع النساء على المشاركة الفعّالة في اللقاءات الاجتماعية على قدم وساق مع نظرائهن الرجال، فإن الجو العام لمساجد المسلمين سوف يكون عرضة للمزيد من التبدّل وسوف يكون الأطفال عرضة لخسارة النفع المرجو من هذه المشاركات مع أمهاتهن وآبائهن سوية. ونظراً لما لرأيه غير المألوف من تبعات قد لا تكون مرضية، يستكمل موضّحاً: “إنني لا أنادي بتغيير أشكال الشعائر بل إن ما أدعو إليه هو تشجيع اشتراك الأسرة في كل نشاطاتنا الاجتماعية والعمل على تسهيل ذلك والترحيب به”. ثم ينتقل -وهو لا يزال يتحدث عن شؤون المرأة المسلمة- إلى اللباس الشرعي، إذ يوصي المسلمين في المجتمعات الغربية وقد واجهوا المصاعب في تطبيقهم “لهذا النظام من اللباس” بأن يكون نهجهم “سمحاً ولطيفاً وليس اتهامياً وتوبيخياً”. فيطالب بأن يتم إعطاء النساء مساحة أكبر من الحرية في اختيار الملابس التي يرتدينها بحيث لا يثنيهن عن المساهمة الفعالة المتوقعة منهن في المجتمع. وتحقيقاً لهذا النفع، يوجه نصحه للرجال المسلمين على أن يتحلوا بالقدر الأكبر من التفهّم. ثم يصف منظراً تناقضياً في هذا الشأن عاينه شخصياً يقول فيه: “ولم يمض وقت طويل على مشاهدتي لمنظر سخيف كانت فيه النساء المسلمات تعانين فيه حر الشمس على إحدى طاولات النزهة، فيما راح أزواجهن يمرحون عند الرمال والأمواج بين الأمريكيين والأمريكيات الذين كانوا يأخذون حمامات الشمس”.

في حديثه عن القضية الفلسطينية-الإسرائيلية، يسترجع طفولته في حي بريدج بورت حيث كان يقطنه سكان من أعراق وثقافات مختلفة، وقد كانت كلمة (يهودي) بحد ذاتها هي المفضلة لدى الأطفال كلما أرادوا أن يكيلوا الشتائم لبعضهم البعض، سواء لليهودي منهم أو لأي عرق آخر. وفي حين كان غير اليهودي يعتبرها مرادفاً لـ (القذارة والتعاسة والجبن)، فإن اليهودي كان لا يجد له معيناً من ذويه ضدها كمذمة. أما في سن الرشد، فقد كان البعض من أصحابه يعترفون له بسر (يهوديتهم) وكأنهم “متهمين سابقين” حسب تعبيره، في حين كان يتنصل البعض الآخر منها، باعتبار أن اليهودية ليست سوى ديانة لم يعودوا يؤمنون بها. وفي مناصرته للقضية الفلسطينية، يعود للتاريخ ليقول: “يتفق المؤرخون على أن الغالبية العظمى من العرب الفلسطينيين لم يقدموا إلى فلسطين مع الفتح الإسلامي، بل إن هؤلاء هم بشكل رئيسي أبناء الساميين الذين تعود ملكيتهم لفلسطين لثلاثة آلاف عام على الأقل قبل الميلاد، وقد تكون هذه هي أبسط فترة ملكية في العالم وأطولها. أما العبرانيون القدماء فقد جاءوا إلى فلسطين بعد ذلك بكثير، وذلك بحوالي ألف وأربع مئة عام قبل الميلاد”. ثم يتساءل في مبحثه ويجيب: “هل لليهود حق أخلاقي-ديني في فلسطين”؟.

ختاماً، لقد كانت رحلة صراع روحانية من النقيض إلى النقيض ..  من الإلحاد إلى الإيمان، وعرض أكثر تجلياً لروح الدين الإسلامي من وجهة نظر غربية ومنطقية. لذا، لا أجد بد وأنا أختم هذه المراجعة باقتباس يوافي هذه اللحظة الشاعرية على لسان د. جيفري لانج في لغة صوفية قلّما يسوقها الرياضيون: “ومع ذلك فإني مدرك دوماً أن لي نقاط ضعفي وتقصيري! إنني أعلم الآن أنني أذا ما فقدت الله ثانية فإنني بالتأكيد سوف أفقد كل شيء، وإني أدعوا مع رابعة العدوية: (إلهي هل صحيح أنك سوف تُحرق قلباً يحبك كثيراً). وإني أجد عزاءً في جوابها”.

 

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 20 ابريل 2022 – جزء (1) صفحة (10):

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/04/5099.pdf

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 21 ابريل 2022 – جزء (2) صفحة (10):

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/04/5100.pdf

 

……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..

(8)

كتاب/ جدد حياتك

المؤلف/ د. محمد الغزالي

دار النشر/ نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع

الطبعة/ الأولى – 1996

مبادئ الإسلام مقابل توصيات مفكر أمريكي

 

 

كتاب تفاؤلي تكمن روعته في الدعوة للانفتاح على الحياة من خلال ما ورد فيه من آراء واقتباسات ولمحات توقظ العقل وتعزّز الشعور الصادق الكامن في الوجدان والفطرة الإنسانية، والتي -ولا عجب- حملها من يختلف عنّا عرقاً وعقيدة وثقافة. هذا ما فعله الداعية المجدد د. محمد الغزالي عندما أفرد قلمه ليسطّر ما استلهمه من خواطر الكاتب الأمريكي (ديل كارنيجي Dale Carnegie) الرائد عالمياً في تنمية الذات، في كتابه الأشهر (دع القلق وابدأ الحياة How to Stop worrying and Start Living)، لكن بمنهج إيماني خالص، وبأسلوب يبتعد عن التعصب أو رفض الآخر. لقد وجد الغزالي فيه من آراء الفلاسفة والمصلحين وأحوال الخواص والعوام ما يتفق إلى حد كبير مع المبادئ الإسلامية، فعزم على وضع كتاباً باللغة العربية يرد فيه هذا الكتاب إلى “أصوله الإسلامية” كما ارتأى، وقد انتهج في هذا نهجين: عرض النصوص الدينية وعرض ما يقابلها من النقول المذكورة في كتاب الأمريكي. لم يفت الغزالي وهو يضع كتابه أن يحرص على إحياء اللغة العربية وما تزخر به من حكمة، كصدّ للتوجه العالمي المعادي للعرب وللغتهم، فيقول مخاطباً قرّائه: “وإذا كان ديل كارنيجي يحيا بقرّائه في جو أمريكي بحت، فمن واجبي أن أعيش مع قرائي في جو عربي خالص، لا أتركه إلا للمقارنات الإنسانية الأخرى وهي مقارنات لا صلة لها بجنس معين”.

إنه د. محمد الغزالي (1917 : 1996) عالم دين ومفكر مصري، عُرف بمنهجه التجديدي للخطاب الديني وبأسلوبه الأدبي الرصين، وبمناهضته للآراء الدينية المتشددة التي واجه بها ردود فعل معادية. حفظ القرآن الكريم في صغره ودرس أصول الدين في جامعة الأزهر الشريف، ثم عمل في الدعوة والإرشاد. انخرط فيما بعد في جماعة الإخوان المسلمين بعد أن تعرّف على مؤسسها حسن البنا، وقد أودع السجن إثر حلّ الجماعة عام 1984، حتى خرج منها نهائياً بعد خلافه مع المرشد، ليلتحق أخيراً بسلك التدريس الجامعي. لُقب بالغزالي تيمناً بالإمام أبو حامد الغزالي الذي رآه والده في منامه يبشّره بمقدمه ويوصيه بإطلاق اسمه عليه.

تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الأولى للكتاب الصادرة عام 1996 عن (نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع). وبينما يعرض فهرس الكتاب أربع وعشرون موضوعاً تبدأ بالمقدمة وتنتهي بالخاتمة، أكتفي في الأسطر القادمة بعرض ما جال في المواضيع العشر الأولى، وباقتباس يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) كما يلي:

يعبّر الغزالي في (مقدمة) كتابه عن الفطرة السوية التي فطر الله الناس عليها في تمييز الخير عن الشر، والتي تظهر لدى أصحاب العقول والأنفس والأمزجة والطباع السليمة بصرف النظر عن الأديان التي يعتنقونها، وهم الذين خصّهم النبي الأكرم ﷺ في وصيته “استفت قلبك”، لما لهم من قابلية على التمييز الصحيح. غير أن تلك الفطرة عرضة لأن يعتريها الانحراف والعلل والمرض ما يقود إلى ظهور الفساد في الأرض، وهو الأمر الذي بعث الله لأجله أنبيائه الهادين المهديين. والشواهد تشير إلى كثير ممن لم يحظ من تراث الأنبياء بشيء لكنه حظي من صفاء الفطرة ما لا يجعله يضل عن الله الواحد الأحد، بل ولعلّه يكون أحسن حالاً وأرجى مآلاً ممّن مكّنه الله من هديه لكنه أخلد إلى الأرض، وكما يُقال: “الناس رجلان: رجل نام في النور ورجل استيقظ في الظلام”. بيد أن انحراف الأمم السابقة عمّا أُرسل إليهم قد ختمه الله برسالة إسلامية خالدة تكفّل بحفظها، إلا أن انحراف المسلمين أنفسهم يشكّل افتراءً على الإسلام الذي قد يوصم لانحرافهم بما ليس فيه. يقول الغزالي: “إن التاريخ سجَّل هزائم كثيرة للطوائف التي تُسمى رجال الدين”، وما أحدثوا في فقه النصوص من فوضى تعرض الدين في قالب مشوّه، فما كانت هزيمتهم تحيق بالدين، إنما جاءت كانتصار للدين وتأصيل للفطرة على “الغباء والجمود والنفاق”.

ينبّه الغزالي في موضوع (جدد حياتك) على أن تمنية النفس بالتحسّن في الحال والتحوّل في المكان وإقران الصفحة الجديدة من الحياة بموعد مع أقدار مجهولة ليس سوى ضرب من التسويف! وعلى الرغم من استشعار القوة مع هذا التسويف وبالنشاط بعد الخمول، فهذا في حقيقته شعور واهم ما يلبث أن يؤول إلى انحدار أشد وأهوى، إذ أن “تجدد الحياة ينبع قبل كل شيء من داخل النفس” .. فهذه النفس التي بين جنبات الإنسان، وحاضره الذي يحيا فيه، والظروف المحيطة به بحلوها ومرّها، هي فقط من ترسم له طريق المستقبل. وفي موضوع (عش في حدود يومك)، يرى الغزالي البعض وهو مستغرق في خط لا ينتهي من التفكير المسترسل الذي لا يقطعه سوى وحوش الوساوس، والتي ما تلبث أن تتحول إلى هواجس وقلق وهموم جاثمة، وذلك يُعدّ من الأخطاء التي يغفل فيها المرء عن حاضره لينوء بأعباء المستقبل. وبينما ينصح (د. أوسلر) طلبته في جامعة (ييل) بأن يبدؤوا يومهم بدعاء مأثور عن السيد المسيح يقول فيه: “خبزنا كفافنا أعطنا اليوم”، فقد ورد عن ابراهيم الخليل دعائه في كل صباح يطلع عليه: “اللهم إن هذا خلق جديد فافتحه عليّ بطاعتك واختمه لي بمغفرتك ورضوانك وارزقني فيه حسنة تقبلها مني وزكها وضعفها لي وما عملت فيه من سيئة فاغفرها لي إنك غفور رحيم ودود كريم”، وهو به قد أدى شُكر يومه. غير أن البعض وهو لا يستشعر الآلاء العظيمة التي انغمس بها من طمأنينة وسكينة وسلامة في نفسه وأهله، يسخط على حرمانه من الثراء، وهو بهذا يكون قد غمط واقعه وأتلف دينه ودنياه. غير أن العيش في حدود اليوم لا يعني تجاهل المستقبل والتخطيط له، بل إن هذا يُعدّ من رجاحة العقل، إنما الفارق هو بين “الاهتمام بالمستقبل والاغتمام به”. ويتساءل الغزالي بدوره ويجيب قائلاً: “أتدري كيف يُسرق عمر المرء منه؟ يذهل عن يومه في ارتقاب غده، ولا يزال كذلك حتى ينقضي أجله ويده صفر من أي خير”.

ثم يتساءل في موضوع (الثبات والأناة والاحتيال) عن ردة فعل المرء الذي تداهمه شدّة تهدد كيانه كله، ما هو صانع؟ أيقف شامخاً مطمئناً أم يدعها تهوي به؟ يجيب كارنيجي بخطة عملية ثلاثية، هي: أولاً: تحديد أسوأ ما قد يصيبه، ثانياً: الاستعداد للتقبل، ثالثاً: المواجهة ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه. إن هذا يتفق وقوله ﷺ: “إنما الصبر عند الصدمة الأولى”، وكما قال الفيلسوف الصيني (لين يوتانغ): “إن طمأنينة الذهن لا تتأتى إلا مع التسليم بأسوأ الفروض” وهو ما يؤكده علم النفس الحديث من أن التسليم يحرر من القيود، وكلما بقي المرء يقظاً لا يستبعد وقوع النوائب ويقلّب وجوه الآراء ليختار أحكمها “فإن النجاح لن يخطئه”. والغزالي بهذا ينبّه على الفرق بين التسليم واللامبالاة، فيقول: “إذا وجدت الصبر يساوي البلادة في بعض الناس فلا تخلطّن بين تبلّد الطباع المريضة وبين تسليم الأقوياء لما نزل بهم .. وأول معالم الحرية الكاملة ألا يضرع الرجل لحاجة فقدها”. وإن الإيمان الحق هو ما يشدّ من عود المرء فلا يهزّه ريح، وإن صبر المرء على فجاءة النوازل لا يبرره سوى نفس أبية تهوّن كل فقد. وشتّان بين نظرة المؤمن وغير المؤمن، فإذا تصوّر أحد الماديين الحياة من التفاهة كصرصار يموت من ضربة عابرة يعود بها إلى العدم ويذهب طي النسيان، فإنها تُصبح عند المؤمن كذكرى حافلة بعد أن ينتقل إلى حياة أخرى أجلّ وأصدق وأكثر وعياً. ويحصر الغزالي في موضوع (هموم وسموم) ما أورده كارنيجي من الإحصائيات التي يظهر فيها بني جلدته الأمريكان مرضى للقلق، تتلاعب بهم علل عضوية وعصبية ونفسية وعقلية، وفي مراحل عمرية متفاوتة لا يسلم منها حتى فئة الشباب، وقد تم تصنيف القلق بالقاتل الأول في أمريكا، وكل هذا سببه اللهاث المحموم نحو إحراز ما أمكن من المال ومتع الحياة الدنيا. ويتساءل “أهذا هو ثمن النجاح؟ هل يعد ناجحاً ذاك الذي يشتري نجاحه بقرحة في معدته ولغط في قلبه؟ وماذا يفيده مرضه إذا كسب العالم أجمع وخسر صحته؟”. ثم يستتبع الغزالي هذا التساؤل بحكمته ﷺ: “إن هذا المال خَضِر حلو، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يُبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع”.

لا يجد الغزالي في موضوع (كيف نزيل أسباب القلق) مظلوماً تواطئ الناس على بخسه وتراخوا عن نصرته مثل (الحقيقة)! وإن هذا المظلوم له من العاملين به والعارفين لقدره القلة من الناس. وعن هؤلاء القلّة يقول: “والحق أن الرجولات الضخمة لا تُعرف إلا في ميدان الجرأة”. فكم من دين تأسس على خرافة وأساطير وكم من سلطة حكّمت الهوى وأحالت الخير شرّا. فيقول: “على أن الاهتداء إلى الحق والثبات على صراطه يحتاج إلى جهد ودأب، ويحتاج كذلك إلى استلهام طويل من عناية الله. وقد كان رسول الله إذا حزبه أمر جنح إلى الصلاة يضم إلى عزيمته وجلده حول الله وطوله”. غير أن السكينة في تلّقي الحقيقة مهما كانت وضبط النفس حول ما قد يشوبها من شكوك لهو مطلب أساسي في الوقوف على الحقيقة الدامغة ولا شيء غيرها، ومن ثم التصرف بحزم وإنفاذ القرار بعزم خالص. ويعرّف الغزالي العلم في موضوع (علم أثمره العمل) بأنه إدراك وقواعد وملكة، فالإدراك هو تصّور مجرّد للأمور، والقواعد هي المبادئ والقوانين، والملكة هي الخبرة المكتسبة، غير أن الأخيرة هي ثمرة الإدراك الوافر وإعمال القواعد معاً. وبعيداً عن أي مفهوم نظري، فإن الدين منهجاً تهذيبياً في الإيمان والأخلاق والسلوك والعمل، إذ لا تكمن الفائدة المرجوة منه في تداوله بين الألسن وحفظه في الذاكرة، فلا بد من العمل به. فهذا برنارد شو ينهى عن التلقين قائلاً: “إذا لقنت إنساناً شيئاً فلن يتعلم أبداً”، وكان أحد التابعين يقول: “كنا نستعين على حفظ أحاديث رسول الله بالعمل بها”. فالقلوب يُحيها العمل بالمعرفة، وأي علم تحصّل عن طريق العمل فهو الملكة التي تبعث على الاستنارة. ويضرب مثلاً في الصلاة التي تبدأ بالدروس ومحاولات إقامتها وتنتهي بالخشوع والتسامي والإخلاص بعد الإقبال وطول الإتقان لشكلها وموضوعها. وينقل عن أحد المدراء أسلوبه الإداري في التعاطي مع المشكلات التي يعرضها عليه فريق عمله بين حين وآخر، إذ كان قد فرض عليهم قبل عرض المشكلة عليه تقديم إجابات رسمية عن أربعة أسئلة، وهي: (ما المشكلة، ما منشئها، ما هي الحلول الممكنة، ما هي أفضلها)؟ وهو الأسلوب الذي كان يجده الموظفين قد حلّ ثلاثة أرباع المشكلة قبل عرضها عليه، فلم يجدوا داع لمعونته، وبهذا تقلّص الوقت المخصص للنقاش وطال وقت العمل وحقق أفضل الإنجازات. ثم يحذّر الغزالي من العلم دون العمل، حيث إن مجرد “تعشّق الكمال” عادة لا تتجاوز حدوده طيب الحديث عنه، وهو السلوك الذي كرهه الله لعباده لما يحوطه من شبهة رياء وادعاء، فيقول عزّ من قائل: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ”.

يحذّر الغزالي كذلك في موضوع (آفات الفراغ) من البطالة التي ليست سوى مرتعاً للرذائل ومجلبة للفساد والفناء، وكيف أن العاطلين في حقيقتهم موتى في الوقت الذي يكون فيه العمل رسالة لكل حي. وقد نبّه النبي الأكرم ﷺ عن الغفلة في ظل تواتر نعمتي الوقت والعافية إذ قال: “نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ “، لذا فإن أفضل ما يصون حياة الإنسان منهجاً يملأ وقته، فلا يتخلله فراغ يتسلل فيه الشيطان بوسوسة أو غواية. ويضرب في المصباح الكهربائي مثلاً مستعيناً بعلم الطبيعة، إذ أن بمجرد إحداث ثقب صغير في مصباح ما فإن الهواء يندفع فيه دفعاً تلقائياً لتعبئة المساحة الخالية “كذلك تسرع الطبيعة إلى ملء النفس الفارغة” لكن بمشاعر من خوف وقلق وغضب وحسد وغيرة “فهي تندفع بقوة بدائية عنيفة متوارثة من عهد الغابة”، وهي من العنف ما تبدد استقرار العقل والسلام الداخلي. ثم يقرّ الغزالي بحقيقة مؤلمة مفادها أن الفراغ الذي يعاني منه الشرقيين يدّمر كل طاقة إبداعية وموهبة تحت ركام التجاهل والاستهانة كما في المعادن النفيسة في مجاهل المناجم، ويقول: “وعندي أن العلة الأولى لتخلّف الأمة العربية والشعوب الإسلامية ما غلب على أحواله النفسية والاجتماعية من قعود واستكانة وتقاعد”. لذا فهو يرى استحالة أن تحصد هذه المجاميع الغفيرة أي نجاح دنيوي وأي فلاح أخروي ما لم تُغير أساليبها في الحياة وتمحو من ميادينها كل شرور البطالة والفراغ. ثم ينتقل إلى موضوع (لا تدع التوافه تغلبك على أمرك) وهو يرى المؤمن يتهيّب الكبائر فتردعه عن اقترافها، غير أن منهم من لا يبالي بصغائر الذنوب حتى إذا تراكمت عليه أهلكته! ويقرّب الصورة برجل تحاشى تناول السم بجرعة كبيرة لكنه دأب على تناوله بجرعات صغيرة في ماء ملوث أو طعام مكشوف. لذا، فقد أهاب النبي الأكرم ﷺ بأمته من اقتراف الصغائر وأوصاها بأن تتطهر حيناً بعد حين من آثارها، فقال: “إياكم ومحقّرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يُهلكنه”. وينقل كارنيجي عن (الأدميرال بيرد) عندما قاد معسكراً في القطب الجنوبي في درجة حرارة تنخفض إلى الثمانين تحت الصفر، وبدلاً من الانتباه إلى الأخطار المحدقة، فقد كان رجاله يتخاصمون لأتفه الأسباب، كأن يتعدى أحدهم على المساحة المخصصة لنوم رفيقه بقدر بوصات أو أن يتقزز الآخر من رفيق آخر له يمضغ الطعام ثمان وعشرون مرة، فيعقّب قائلاً: “ولست أعجب لهذا، فإن صغائر كهذه في معسكر قطبي يسعها أن تسلب عقول أشد الناس دربة على الطاعة والنظام”. وعلى الرغم من أن الله عز وجل يغفر اللمم من الذنوب ويتجاوز عن الصغائر لكل مؤمن يسعى إلى كمال إيمانه، غير أن البعض يقيم الدنيا ولا يقعدها لسيئة وقع عليها في سلوك شخص ما رغم ما هو عليه من شمائل الأخلاق. وعلى هذه الحقيقة المؤسفة يصرّح النائب العام في نيويورك (فرانك هوجان) بأن نصف القضايا التي يتم عرضها على محاكم الجنايات تقوم على أسباب تافهة “كجدال ينشأ بين أفراد أسرة، أو من إهانة عابرة او كلمة جارحة أو إشارة نابية”. إن الحل يكمن في “صقل مرآة الذهن” فلا تلتقط سوى صوراً حقيقية من أروقة الحياة لا تشوبها شوائب، ومن ثم وضع الصورة في نطاقها الأكثر رحابة بحيث لا يتم الحكم عليها بمنأى عن الصور الأخرى، ولا لحظة شر بمنأى عن جبل من الخير.

يؤكد الغزالي في موضوع (قضاء وقدر) على أن المؤمن وهو يقرّ بأن مقاليد السموات والأرض بيد الله وحده كفيل ببث أعظم مقادير الطمأنينة في قلبه، إذ مهما تقلبّت الأحوال واضطربت الأحداث فإنها تحت مشيئة الله العليا. يقول عز وجل: “وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ”. وهذا يفسّر ركون المؤمن إلى ربه بعد أن أدى واجبه على أكمل وجه، فمن توكّل عليه وحده استراح، وليس للقلق معنى في أمور تخرج عن نطاق الإرادة البشرية، وإن كان للمرء تقريع نفسه على تفريط ما استوجب عليه سوء، فإن القدر الذي وقع ولم يطلّع عليه من قبل لا يستلزمه ندم، وهو بهذا لا عليه قلق أو تربّص أو ريبة. غير أن كثير من الناس لا يفقه هذه الحقيقة سواء جهلاً أو جحوداً، فيباشر أحدهم أعماله وهو يحمل هموماً مقيمة لا تقتصر على ما فات وحسب بل على ما قد يرميه به المستقبل لاحقاً، وهو الأمر الذي يتم استغلاله بسوء كما أوضح كارنيجي من خلال المثال الذي ضربه في شركة (لويد) العالمية للتأمين، فقد حققت أرباحاً طائلة خلال المائتين عام السابقة، وستحقق، طالما هواجس الغيب والخوف من المستقبل والخسائر المتوقعة والوهن من تحملّها جميعاً تثقل كاهن البشر، فيقول: “لكن كثيراً من الرجال الناضجين لا تقل مخاوفهم سخفاً عن مخاوف الأطفال والصبيان، وفي استطاعتنا جميعاً أن نتخلص من تسعة أعشار مخاوفنا تواً لو أننا كففنا عن اجترار خواطرنا، واستعنّا بالحقائق المدعومة بالإحصاء، لنرى إن كان هناك حقاً ما يبرر تلك المخاوف”. وليس خيراً من وصية النبي الأكرم ﷺ إذ قال: “ارض بما قسمه الله لك تكن أغنى الناس”. أما في موضوع (بالحق أنزلناه وبالحق نزل) يرى الغزالي أن الإسلام يعنى بالجانب العقلي من ناحية تنظيم الأفكار التي تنتظم بها مقدمات الأشياء فتنتج الصواب وتحقّ الحق، بينما يعمل في الجانبين النفسي والاجتماعي كأداة لتنظيم المشاعر على أسس من الإيثار والأخوّة والفضيلة ونبذ ما سواها من رذائل. وهو بهذا يمهّد السير نحو الهداية وطريق الحق ومسعى الكمال، لهذا، لا تُصبح الغاية من العبادات المفروضة تقمّص صوّرها واعتياد حركاتها وسكناتها، بل كل ما يعزز إدراك العقل ويقرّبه أكثر فأكثر نحو الصواب، وما يساعد على إحكام الأهواء والسير في الحياة بإحسان من غير دنايا أو مظالم. وهو المقصد في قوله تعالى: “فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ”. غير أن طبيعة الإنسان تحيد به في بعض الأحيان نحو نزوات وشهوات، وليس الخوف من هذه النزعات سوى في مغبّة الاسترسال فلا تلبث حتى تطرحه في مهالك لا يعود بعدها سالماً. يقول ابن المقفع: “المؤمن بخير ما لم يعثر، فإذا عثر لجّ به العثار”. والحل هو أن يحرص المؤمن على ألا يلج هذه اللجاجة فإن وقع فعليه الاستدراك سريعاً ومجاهدة النفس ألا يعود أبداً.

قبل الختام، ومع هذه المفارقة في توفيق المبادئ الإسلامية على يد أحد علماء الإسلام بمنهج حياة دعى إليه مفكر أمريكي لا يعتنق الإسلام ديناً، استحضر قول الإمام محمد عبده الذي تخرّج في الأزهر الشريف وتقلّد منصب مفتي الديار المصرية حينما قال قولته الشهيرة كخلاصة انطباع اتخذه عن واقع عاصره: “وجدت بالغرب إسلام ولم أجد مسلمين ووجدت بالشرق مسلمين ولم أجد إسلام”.

ولا أطيب مسك للختام من كلامه عز وجل في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بيديه ولا من خلفه: “فِطرةَ اللهِ التي فَطَر النَّاسَ عَلَيْهَا”.

 

للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 27 ابريل 2022 – جزء (1) صفحة (10):

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/04/5104.pdf

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 28 ابريل 2022 – جزء (2) صفحة (10):

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/04/5105.pdf

 

……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..

أنشر هذه المقالات في شهر مايو 2022 والذي يصادف عيد الفطر المبارك 1443
عيد سعيد
وكل عام والجميع بخير
همى الغيث

……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..

(9)

كتاب/ التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور

المؤلف/ د. مصطفى حجازي

دار النشر/ المركز الثقافي العربي – بيروت

الطبعة/ 14 – 2016

مبحث في ملامح المقهور النفسية وألوان دفاعه

 

 

كتاب قد يُصنّف ضمن علم اجتماع الفضائح، والذي يعرّي ما يعتمل في باطن إنسان المجتمعات النامية من غصص وقهر وكبت، وهو متوارٍ تحت أعراف وقوانين وشرائع دينية وألوان من قيود أخرى ما أنزل الله بها من سلطان. إنه الواقع لا محالة! فالمجتمعات الشرقية تعيش في استسلام شبه متناه وهي ترزح تحت سطوة إقطاعية مستبدة تربع على عرشها زمرة من طغاة تستفرد بالقضاء والقدر كآلهة شر، ويخضع الأفراد لجبروتها خانعين كأمة من المقهورين، قد أبلسوا من رحمتها، لا حول لهم في ذلك ولا قوة. بيد أن المعضلة لا تكمن في الغفلة عن تناول التخلف بالبحث والدراسة من جانب التنمويين، ولا في تجاهل الساسة عن الوجود الفريد لهكذا نمط إنساني له تفاعلاته العقلية والنفسية، بل في التأثير الفعّال للإنسان المتخلف ذاته نحو تعزيز هذه الصيرورة وترسيخ أركانها ومقاومة أي بادرة نحو التغيير، في إصراره بالمحافظة على توازنه النفسي الذي أصلّت له في الأساس تنشئة بيئة اجتماعية يسودها التخلف، تشترك فيها قوى طبيعية غيبية في بسط ممارساتها الاعتباطية عليه وتشكيل الطابع العام لتركيبته النفسية، وقد أضافت له قهراً مضاعفاً.

وبينما يعرّف د. حجازي كتابه بأنه (مدخل)، فهو يأتي بمثابة مبحث متكامل يتعرّض فيه بموضوعية إلى تسعة مسائل يحدد من خلالها المشكلة والحجة والأعمال المقترحة، تسترسل من خلال قسمين رئيسيين. (الأول: الملامح النفسية للوجود المتخلف)، وفيه يتطرق إلى تحديد وتعريف السيكولوجية المتخلفة ضمن إطارها النظري، لينتقل إلى سرد الخصائص النفسية للتخلف ووصف العقلية المتخلفة والحياة اللاواعية التي تُعد أحد سماتها. (الثاني: الأساليب الدفاعية)، ويتعرّض فيه إلى الأشكال المتعددة التي تتخذها، وتظهر أساساً في: الانكفاء على الذات، التماهي بالمتسلط، السيطرة الخرافية على المصير، العنف، ثم وضعية المرأة التي تظهر أشدها وضوحاً وبؤساً.

أما عن الباحث، فهو د. مصطفى حجازي، كاتب لبناني وعالم نفس وأستاذ أكاديمي حاصل على درجة الدكتوراة في علم النفس من جامعة ليون في فرنسا، وله العديد من الأبحاث العلمية، وقد بدأ إصداراته الفكرية بالكتاب الذي بين أيدينا عام 1981، وهو الكتاب الذي لا يزال محط اهتمام ونقاش ومراجعة حتى الوقت الحالي. وله في نفس الحقل كتاب/ العصبيات وآفاتها: هدر الأوطان واستلاب الإنسان. وكتاب/ الإنسان المهدور: دراسة تحليلية نفسية اجتماعية.

تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الرابعة عشر للكتاب الصادرة عام 2016 عن المركز الثقافي العربي في بيروت، والتي أعرض من خلالها أبرز ما جاء في مآزق الإنسان المقهور، وباقتباس يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) كما يلي:

على الرغم من تسليط الضوء على الفئة الأكثر قهراً في المجتمع المتخلف تحت سلّم السطوة والخضوع، يعتقد د. حجازي أن الفئة التي تبدو أكثر حظاً لا تخلو أيضاً من قهر، مع اختلاف درجة الحدّة. يقول: “فبينما يتماهى الفلاح بسيده ويشعر بالدونية تجاهه، نرى السيد يتماهى بدوره بالمستعمر أو الرأسمالي الأوروبي ويشعر بالدونية نفسها تجاهه”. ثم يتطرق وهو يتحدث عن التخلف العقلي إلى طابع “الخصاء الذهني” الذي يتلبّس الإنسان المتخلف اجتماعياً كحالة ضعف عقلية زائفة. ففي حين يتشكّل هذا الخصاء عموماً كعجز عن تأكيد الذات أمام العالم في هيئة مقاومة الفهم، يأتي هذا الخصاء اجتماعياً في هيئة رضوخ الإنسان المتخلف لأساطير قوى الطبيعة وسطوة أصحاب السلطة، فيبدو المتخلف دائم التردد في الاقبال على أمر ما خشية الفشل، أو قد يصرّح بعدم قدرته عليه قبل بذل أي محاولة، بل قد يشطّ البعض ويصدر أحكاماً تعسفية على هذا الأمر متبجحاً بموهبته السريعة على الفهم. ويقول: “يتذبذب الإنسان المتخلف ما بين الشعور الشديد بالعجز عن استيعاب العالم، وبين طغيان مشاعر السيطرة على الواقع من خلال الحذق (الفهلوة) الذي يعتدّ به الجمهور كوسيلة مفضلة للفهم”.

ومن ملامح المجتمع المتخلف ما يطلق عليه د. حجازي بـ “التوتر الوجودي العام”، حيث الاستنفار النفسي العام لأي صراع محتمل! إذ ما يلبث اثنان أن يتحاورا حتى يختلفا في وجهات النظر، لتحلّ السباب وشتائم الأعراض محل الجدال الموضوعي، وحيث تطغى العاطفة الانفعالية على كل ملكات النقد والمنطق والعقلانية. يستزيد فيقول: “وأحياناً ينفذ التهديد باستخدام العضلات أو السلاح بسهولة مذهلة في فورة غضب. ذلك أن هناك إحساساً دفيناً بانعدام فعالية اللغة اللفظية وأسلوب الاقناع، فيتحول الأمر بسرعة إلى الحسم السحري (العضلي أو الناري) من خلال الإخضاع”. يؤمن الإنسان المقهور بطغيان قوى خارقة للطبيعة تتلاعب في مصيره، كتلبّس الأرواح والجن والعفاريت، وتحكّمها في فرص الخطوبة والزواج والعلاقة الجنسية والإنجاب، بالإضافة إلى إصابات العين القاتلة وطاقة الحسد وغيرها من شرور الماورائيات. لذا، يسعى هذا الإنسان جاهداً اتخاذ ما يلزم من تدابير وطقوس تكفيه شرورها وتضمن له نوعاً من التحكم في مصيره، كالاستعانة بخدّام المقامات وتحضير جلسات الزار، وتخبئة المولود، وإخفاء الأثاث، والتكتم على حجم الثروة، وإفساد كل مظهر جميل. يخلص د. حجازي بقوله: “ليس هناك إذاً أكثر تضليلاً من إلقاء المسئولية على الكائنات الخفية ثم البحث عن ذلك الحل من خلال مختلف ضروب الشعوذة”.

أما عن المرأة في المجتمعات المتخلفة، فقد حدّث د. حجازي عنها ولم يتملّكه حرج، فهي أفصح النماذج تعبيراً عن الوجود الإنساني المتخلف في كافة أوجهه، لا سيما في عجزه ونقصه وتبعيته ورجعية تفكيره، والذي يظهر جلياً في تغلّب عاطفة المرأة وإنكار ذاتها وإحلال الخرافات محل التفكير الجدلي. تظهر المرأة عادة بين نقيضين، حيث تتفاوت مكانتها لدى الرجل في المجتمع المتخلف: “بين أقصى الارتفاع: (الكائن الثمين، مركز الشرف الذاتي، رمز الصفاء البشري الذي يبدو في الأمومة)، وبين أقصى حالات التبخيس: (المرأة العورة، المرأة رمز العيب والضعف، المرأة القاصر، الجاهلة، المرأة رمز الخصاء، المرأة الأداة التي يمتلكها الرجل مستخدماً إياها لمنافعه المتعددة)”. يستطرد ويقول: “في الحالتين تُستخدم المرأة كوسيلة للتعويض عن المهانة التي يلقاها الرجل المقهور اجتماعياً، وللتعويض عن قصوره اللاواعي بإسقاطه على المرأة “. وهي في العادة محل ترقيع لخرق الكائن مسلوب الرجولة. فيقول: “كلما كان الرجل أكثر غبناً في مكانته الاجتماعية، مارس قهراً أكبر على المرأة”. ثم يؤكد على أن استمرارية شحن الرجل بالقدرات أو بإيهاماتها إلى الحد الذي يتحول فيه إلى “أسطورة الكفاءة”، تؤدي إلى إسقاط كل صور الضعف والهوان على المرأة، والتي تلعب بدورها “دور الكائن القاصر التابع الذي يحتاج إلى وصي”. غير أنها تصبح في موقع أسوأ بكثير عند الأوساط الكادحة وما دونها، حيث تسود القاعدة التي يعوّض فيها الرجل كل شعور بالقهر والمهان من خلال دور السيد، وممارسة مختلف أشكال الإخضاع والاستعباد والاستغلال على المرأة، “ويحولها إلى أداة له، تخدمه، تنجب له الذرية التي تعزز قوته الذكورية، فتتحول إلى وعاء لمتعته بشكل أناني لا يراعي حاجاتها ورغباتها. تموت نفسياً كي يستمد هو من هذا الموت وهم الحياة، تُسحق كي يستمد هو من هذا الانسحاق وهم تحقيق الذات”. إنه باختصار يمارس عليها وعلى جميع الأصعدة استغلالاً تاماً تهرّباً من شعور الهوان المصاحب لاستغلال المتسلط عليه. يستمر د. حجازي ليعرض أقصى درجات القهر التي يمارسها المجتمع في تنكّره لها عند مقدمها للحياة، وفي هذه الأوساط تحديداً، إذ يقول: “فهي تُستقبل حين تولد بالتذمر والتبرم والضيق، إذا لم تستقبل بالرفض الصريح. وهي توضع كطفلة في مرتبة ثانية أو هامشية بالنسبة للصبي الذي يعطى كل القيمة، وهي تتحول إلى خادمة للأخوة والأب، حين تستنزف طاقة الأم، وهي تستخدم كأداة لتمرّس أخوتها ببسط النفوذ الرجولي من خلال الوصايا وبزعم الحماية الوهمية لها. وعليها تنصبّ كل الضغوط وتفرض كل القيود في طور البلوغ. وتتابع مسيرتها متوجهة نحو مصيرها كأداة للمصاهرة يباع جسدها لقاء تغطية أعباء نفقاته ولقاء مبلغ من المال من الزوج كي يتخذ منه أداة لمتعته ووعاء لذريته وجهازاً حركياً يقوم على خدمته. أما نفسها وكيانها فيفرض عليهما موت معنوي بطيء”.

إن المرأة في تكوينها البيولوجي كأنثى لا تختلف عن الذكر، بل إن تكوينها هو الأكثر متانة ومناعة، غير أن التبخيس الجسدي في لغته وحركته أدى إلى ارتداد طاقته داخلياً على شكل مازوشية، تفجّر فيها المرأة عدوانها على ذاتها، والذي قد ينطلق خارجياً على هيئة ممارسات تشي بالحقد والحسد والكيد والدسيسة. تظهر هذه المرأة كذلك حبيسة المنزل، كصورة من صور حرمان التعاطي مع واقع المجتمع الذي يزخر بفرص التدريب الإنساني الحي، فضلاً عن التجهيل المتعمد الذي يسمح بتسلّط الخرافة على حساب تنمية ملكة التفكير لديها، والتصرف بحكمة وعقلانية. إنها أيضاً في المجتمع العشائري جسد يُقتل بالمصاهرة والإنجاب، وعقل يذهب طي النسيان. يقول د. حجازي في مرارة: “قيمتها كلها .. شرفها كله يركّز في عفافها الجنسي المتمثل سطحياً بغشاء البكارة. شرفها يتلخص في صفة تشريحية كما تقول د. نوال السعداوي، قد يولد بها الإنسان أو لا يولد”. إنها ليست امرأة إذا ثُبت عليها صفات النبوغ والتفوق والذكاء، إذ يعتبر المجتمع المتخلف صفات كهذه حكراً على الرجال فلا تمت للأنوثة بصلة. عندها -إن كان لزاماً- تصبح المرأة (رجل) أو (أخت رجال)، كحرص لنسب كل مظهر قوة للرجولة وطمسها أنثوياً. هي كذلك تتساوى مع أولئك العمّال الخاضعين لأسيادهم من ذوي رؤوس الأموال، حيث يتم غرس قيم العفة والزهد والطاعة وتبجيل صاحب السلطة والاستماتة في الدفاع عنه، في حين يُتخم السيد بأصناف النعم وقد أبيحت له كافة، مع قيم الجشع والتملك والإفراط في كل شيء. لكنها تستلب كيانها الأنثوي بيديها حين تثور على العبودية المفروضة عليها بطريقة تحاكي فيها الرجل كنموذج للتحرر والانطلاق في الحياة! إنها محقة حين ترفض دورها كخادمة أو كآلة للتفريخ أو كجسد للمتعة، لكن قد ينحى هذا الرفض نحو إنكار حاجاتها البيولوجية أو صفاتها الأنثوية، أو بالإبقاء على صفاتها الأنثوية من غير حميمية.

وبعيداً عن “الاستلاب الجنسي” الذي هو أشد قهراً مما هي عليه في “الاستلاب الاقتصادي”، فإنها تواجه مأساتها الكبرى في “الاستلاب العقائدي”، إذ تقنع من خلاله بتفوق الرجل عليها وبدونيتها أمامه، وتقبل من ثم بالرضوخ تحت وطأته. إنها على يقين تام بأنها كائن “قاصر، جاهل، ثرثار، عاطفي، لا يستطيع مجابهة أي وضعية بشيء من الجدية والمسئولية وبالتالي لا تستطيع الاستقلال وبناء كيان ذاتي لها”. في هذا النوع من الاستلاب يستفرغ الرجل عليها بلوثة من أساطير الأولين التي تحمّل حواء إثم الخطيئة الأولى “بضعفها واحتيالها ومكرها وغيّها. حواء مجسدة الآثام والشرور ومصدر كل غواية”. وفي نفس الاستلاب، تظهر كم هي متضخمة النرجسية حين تتمسك بوظيفة الأمومة كحصن أوحد تحظى تحت سقفه بشيء من القداسة، حيث تشعر بأهمية جسدها الخصب المرغوب به دوماً، والمتكفّل بالإنجاب والحضانة والرعاية بالذرية ووالد الذرية. ينتج عن تضخيم قيمة الأمومة تلك خاصية التملك الأبدية، حيث يرتبط الصبي بأمه رباطاً قلّما يتفكك عند كبره، والذي قد يصبح به تابعاً لزوجته خاصة مع تلك التي تتقن لعب دور الأم معه.

أخيراً، إنه كتاب قد يواجه فيه أحدنا نفسه -وقبل الجميع- رزايا قهره وضعفه وخنوعه وتخلفه بموروثه الاجتماعي المسموم، غير أن أشدنا بؤساً هو حقيقة ذلك المغبون الذي تجرّع السموم كعدل وحق مستحق وما علم أنها فُرضت عليه قسراً وجوراً، فبات إنساناً مقهوراً من حيث لا يدري!

 

للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 11 مايو 2022 – صفحة (10):

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/05/5109.pdf

 

……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..

(10)

كتاب/ الرحلة الداخلية

المؤلف/ أوشو

المترجم/ عبدالوهاب المقالح

دار النشر/ دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع

الطبعة/ 1 – 2015

إبحار في أعماق النفس البشرية

 

 

كتاب غزير مثقل بلآلئ الحكمة، يُبحر في أعماق النفس البشرية متخذاً الجسد مطية لمغامرة العوم تلك ورحلة التأمل الروحي. تسترسل الرحلة على هيئة أحاديث عفوية أدارها الحكيم الهندي أوشو مع مريديه، في إحدى مراكز التأمل الواقعة في مدينة (كوجرات) بالهند.

إنه أوشو .. أو تشاندرا موهان جاين (1931 : 1990) الذي تنقل شبكة المعلومات العالمية عنه أنه ولد في الهند البريطانية ودرس الفلسفة ودرّسها في الجامعات المحلية، وتدرج من ثم في العلوم الصوفية ليُصبح (غورو) أو معلم روحاني فاقت شهرته حدود وطنه، ليصل إلى العالمية ويُلقب بـ (زوربا البوذي)، إشارة إلى توجهاته الانفتاحية رغم دعوته الروحية!. وإن له من الإصدارات في المجال الروحي ما تتصدّر الطليعة على الدوام رغم ما تموج به الساحة الفكرية من إصدارات أكثر حداثة، أذكر منها على سبيل المثال: كتاب المرأة: احتفالاً بروحية المرأة / ماذا الآن يا آدم؟ كتاب عن الرجال / النضج: عودة الإنسان إلى ذاته / الحرية: شجاعتك أن تكون كما أنت / لغة الوجود: ما وراء الحياة والموت / سيكولوجية الاستنارة والأجساد السبعة / المركب الفارغ: لقاءات مع اللاشيء / التأمل: فن النشوة الداخلية.

تعرض صفحة المحتويات ثمانية فصول رئيسية بالإضافة إلى المقدمة وكلمة المترجم والتعريف بالحكيم، حيث يبدأ حديثه في الكتاب عن (1. البدن: الخطوة الأولى) ليتفرّع إلى كل من (2. الرأس، القلب، السرّة) ومن ثم يخصّ حديثه عن (3. السرّة: مستقر الإرادة)، ويستمر حتى يؤكد على أهمية (4. معرفة العقل) وماهية (5. المعرفة الحقة)، التي تقوده إلى التوصية بـ (6. لا تصديق، لا تكذيب)، وإلى الحاجة نحو (7. ضبط القلب)، ليخلص الحكيم في نهاية الرحلة إلى حقيقة أن (8. ليس للحب “أنا”).

تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الأولى للكتاب الصادرة عام 2015 عن (دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع)، والتي جاءت عن ترجمة مباشرة للكتاب من لغته الأصلية (The Inner Journey – By: Osho) وقد عني بها (عبدالوهاب المقالح) وهو أكاديمي يمني حاصل على درجة البكالوريوس في اللغة العربية من جامعة صنعاء، وماجستير في التعليم الابتدائي من أمريكا، وفي تعليم اللغة الإنجليزية من بريطانيا. يعمل في سلك التدريس الجامعي، بالإضافة إلى إسهاماته في ترجمة العديد من الأعمال الأدبية العالمية إلى اللغة العربية عن اللغة الإنجليزية، مثل (الملحمة الهندية: المهابهاراتا).

ومن شلال الحكمة الذي ارتوى به هذا الكتاب حتى الثمالة، أنهل غيض من فيض، وباقتباس يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):

إن العقل هو زهرة نبات الإنسان والتطور النهائي في جسده، إلا أنه ليس الجذر، بل الروح. يقول أوشو: “بالنظر إلى النبات، تتبدى الزهور أهم جزء فيه. وبالطريقة ذاتها يتبدى لنا أن العقل في الإنسان هو أهم جزء فيه”. وفي حديثه عن الجسد، يعتقد أن المنغمسين في الملذات وأولئك المتنسكين في العبادة على حد سواء، قد عذبوا الجسد كل على طريقته أذىً بالغاً. أما في حديثه عن الروح، فيرى أن روح الإنسان مرتبطة بالسرة .. لا بالقلب ولا بالعقل! فكما أن السرة هي مركز الجسد، فهي أيضاً مركز الحياة، حيث يولد بها الإنسان، وبواسطتها تفنى حياته. إنها أيضاً البوابة التي يدخل منها أولئك المهتمين بالحقائق الروحية. وحين ينتقل في حديثه من الجسد إلى العقل، يؤكد على أن العقل حتى يسترخي، لا بد أن يسترخي الجسد أولاً. حينها: “ستشرع العصافير في الغناء، وستسمعون صوت الطاحونة في مكان ما، وفي مكان آخر ربما نعب الغراب أو صاح الديك، وفي مكان آخر ثان ستسمعون أصواتاً أخرى”. هكذا يُصبح العقل كلما استرخى، أكثر يقظة وأكثر حساسية وأكثر استشعاراً لكل ما هو محيط به. كذلك، يُكمل العقل في النوم ما لم يتمكن من إكماله في الصحو، فإن كان الإنسان غاضباً من أحد ما ولم يتمكن من تفريغ شحنة غضبه، فرّغها في منامه، وذلك حتى يستعيد العقل حالته الصحية. لهذا، يعتبر أوشو أن: “الليل هو مرآة النهار. أياً كان ما يحدث في العقل خلال النهار فإنه يتردد كالصدى في الليل”. لا عجب إذاً أن يرى الحكيم نمط التعليم التقليدي السائد في العالم وهو يقود وعقل الإنسان إلى الجنون! ففي بلد مثل أمريكا، تشير الإحصائيات إلى تصاعد حالات الجنون رغم تصنيفها بالأرقى تعليماً والأكثر تحضراً.

لا يغفل الحكيم في وصاياه عن الحثّ في الاستمتاع بالحياة من غير أي منغصّات، فيورد في هذا المعنى حكاية معبّرة، إذ يتنزه السيد المسيح مع حوارييه في حديقة ما، ويخبرهم كم هي تلك الأزهار الجميلة تنعم بالبهجة في اللحظة الراهنة، رغم أنها لا تعلم إن كانت ستنعم بمثل هذا اليوم المشمس غداً أم لا! هنا، يعقّب الحكيم قائلاً في نبرة استهجان: “الإنسان وحده هو الذي يقوم اليوم بالترتيبات للغد ولبعد غد. وثمة أناس يعدون للكيفية التي ينبغي أن تكون عليها قبورهم”. وفي نفس المعنى، يحذّر الحكيم من التهاون في الأخذ بالأسباب الحيوية من أجل الاستمتاع بحياة أفضل، إذ يجزم بأن أولئك الذين يحذّرون من النوم ثمان ساعات يومياً بحجة ضياع ثلث العمر في النوم، هم خاطئون، حيث إن الحرمان من النوم يُعتبر أسهل وأرخص طرق التعذيب. وقد تنبّه إليه قدماء الصينيين حين كانوا يصنعون ذلك بمساجينهم، وذلك من خلال قطرات ماء تُسكب ببطء فوق رؤوسهم .. قطرة قطرة، إذ يعلو صراخ الواحد منهم بعد مرور سويعات من التعذيب، ولا يجد بد من الاعتراف عند بلوغه ذلك الحد، حتى يقضي نحبه بعد أيام! يسترسل أوشو فيقول: “ولو أن رجلاً ينام كما ينام الطفل فإنه قد لا يموت، لأن الموت سيكون صعباً. الموت يحتاج إلى نوم أقل فأقل، والحياة تحتاج إلى نوم عميق. وهذا هو السبب في أن نوم المتقدم في السن يتناقص شيئاً فشيئاً في حين ينام الطفل نوماً أطول”.

وللماء كذلك عند الحكيم شأن آخر! إذ يتدفق الماء من خلال عشرة ينابيع التي قد تنقسم إلى مائة ينبوع إن حاول أحدهم منع تدفقها. لقد تغذّى الإنسان في صغره على كبت الأفكار الخاطئة، والتي لا بد أن تفتح قنوات أكثر تعقيداً للخروج إلى السطح بعد أن أصبحت أشدّ قبحاً وعنداً. يعلّق أوشو في استفزاز على هكذا كبت من خلال مشهد تصوّري يصف فيه كل ممنوع بأنه لا محالة مرغوب: “أصرّ عقله ألا تكون القرود موجودة ولذلك جاءت القرود. وكلما حاول عقله أن يتخلص من القرود، ظهرت له .. كلما حاول أن يفرّ منها لحقت به! أن تحرم يعني أن تجذب .. أن ترفض يعني أن تستدعي .. أن تمنع يعني أن تغري”. والعقل الإنساني العجيب يتطلب جهداً في كثير من النواحي، إذ أن مواجهة العقل تتطلب ألا يكترث الإنسان بما يقول الناس عنه أو كيفما يبدو لهم، بل يحتاج ذلك الإنسان لأن يتفرّد في وحدته مع عقله ويفتحه على مصراعيه. ويؤكد أوشو: “إن هذا فعل من أفعال الشجاعة”. وفي هذا يكشف الحكيم جانباً آخر من ضعف الإنسان الوجداني، إذ يهاب الإنسان عادة فكرة المكوث وحيداً، خشية على نفسه من نفسه، أو بالأصح من نفسه الحقيقية، فتراه يقضي الأربع والعشرون ساعة من يومه في المحادثات أو مطالعة الصحف أو سماع المذياع. يقول أوشو في مواجهة ذاتية: “الإنسان يخشى من الوحدة لأنه في وحدته سيتبين انعكاسات حالته الحقيقية .. سيجد نفسه وجهاً لوجه مع ذاته. وهذا أمر مخيف، أمر يدعو إلى الذعر! وهكذا، فمنذ أن يستيقظ صباحاً حتى يأوي إلى فراشه مساءً يواصل الاستعانة باي وسيلة للهروب من نفسه، فلا يضطر لمقابلتها. إنه يخشى أن يجد نفسه وجهاً لوجه مع نفسه”.

وللختام بمسك، أعرض صورة للحكيم الهندي وهو يُحدّث عن الخالق في قول مثقل بالإيمان الخالص، إذ يقول فيه: “ليس اعتباطاً أن الله في العالم أجمع يُدعى (الأب) .. ليس اعتباطاً أن الله صُوّر في صورة الأب. وإذا ما كانت خبرات الطفل الأولى في حياته تتسم بالثقة والامتنان والاحترام لأمه وأبيه، حينئذ فقط ستتطور هذه الخبرات نحو الله .. وإلا فلا”. وأختم على لسان الحكيم في أعذب ما قاله عن العشق الإلهي وأخلصه، وهو يحدّث بلغة صوفية لا بد وأن تتناغم مع دواخل كل من لمس قلبه ذلك العشق .. مهما كان الاعتقاد أو العرق أو اللغة، إذ يقول: “الصلاة من دون حب صلاة زائفة .. فارغة .. بلا معنى! من دون حب لا قيمة لكلمات الصلاة على الإطلاق .. ومن دون حب، ما من سالك في الرحلة نحو المقدّس سيكون قادراً على بلوغ غايته”.

ما أحيلاها صلاة .. وليس مستغرباً أن تأتي الحكمة على قلوب يظنّها بعض المغرورين (على غفلة) .. “أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ”.

 

للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 18 مايو 2022 – صفحة (10):

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/05/5114.pdf

 

……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..

(11)

كتاب/ المخ ذكر أم أنثى؟!

المؤلف/ د. عمرو شريف و د. نبيل كامل

تقديم/ د. أحمد عكاشة

دار النشر/ نيو بوك للنشر والتوزيع

الطبعة/ 8 – 2011

عقل الذكر وعقل الأنثى .. لا امتياز لأحدهما على الآخر

 

كتاب غزير علماً وفكراً وإيماناً، يسلّط الضوء على الكثير من الحقائق العلمية التي تكشف عظمة الخالق في إبداع خلق الزوجين الذكر والأنثى، ويُنهي ذلك الجدل البيزنطي السمج حول امتياز أحدهما على الآخر. رغم هذا، وعلى نفس الوتيرة العلمية والموضوعية، يبشّر الكتاب بمستقبل أنثوي واعد حين استفاض في إنصاف الأنثى على طول صفحاته، من خلال التأكيد على ما تتميز به من استعدادات فطرية، وملكات أخلاقية، ومنظومة سلوكية، تنمو جميعاً بنموها في مختلف مراحلها العمرية. إنه بالتالي يعمل على تبرئة الأنثى من كل الدعاوي المغرضة في الانتقاص من قدراتها العقلية لصالح عقل الذكر الذي أكدّ الكتاب تفوقه على الأنثى بشكل أكبر في جوانب، مقابل تفوق عقلها عليه بشكل أكبر في جوانب أخرى. كل هذا من خلال معلومات وأبحاث ودراسات علمية، لا من خلال حملات مشحونة بالتطرف الجندري، لا سيما وقد جاء الكتاب رجولياً بالثلاثة، من حيث مؤلفي الكتاب والمقدم له، فضلاً عن كونهم جميعاً من أهل الاختصاص! فلا شبهة لشعارات النسوية، ولا للعاطفة سبيل، ولا للتحيز مكان. يقول المقدم للكتاب: “لا جدوى من الهروب! المرأة تغيرت، جسدياً ونفسياً والأخطر عقلياً، بعد أن أكدت الأبحاث الأخيرة أن عقل المرأة مختلف عن عقل الرجل. ‎إن التحدي الحقيقي الذي يواجهه إنسـان هـذا العصر ليس اكتشاف كواكب مجهولة، ولا أقماراً غامضة تجوب الفضاء الفسيح، ولكن اكتشاف قدرات الإنسان الخفية وأخطرها العقل، وخاصة عقل المرأة”. لا يفت المقدم مع هذا الإقرار من الإشارة إلى عظيم صنع الله، فيقرّ مجدداً “‎إن كتاب «المخ ذكر أم أنثى» رحلة في أشد العوالم غموضا، ألا وهو المخ .. وفي أثناء إبحارنا مع المخ تتجلى عظمة الخالق”.

وعن المؤلفين، فهما: د. عمرو شريف، أستاذ ورئيس سابق لقسم الجراحة بكلية الطب في جامعة عين شمس، وله عدد من المؤلفات العلمية والفكرية والدينية، ود. نبيل كامل، خبير في برامج التنمية البشرية. أما المقدم للكتاب، فهو أ. د. أحمد عكاشة، أستاذ الطب النفسي في كلية الطب بجامعة عين شمس، ورئيس مركز بحوث الصحة النفسية لمنظمة الصحة العالمية، ورئيس اتحاد الأطباء النفسيين العرب، وله العديد من المؤلفات في الطب النفسي والأبحاث العلمية المنشورة محلياً وعالمياً.

يفتح الكتاب مصراعيه على بابين رئيسيين، يفتحان بدورهما ثلاثة عشرة نافذة في فصل تلو الآخر، بالإضافة إلى صفحات الإهداء والمقدمة في البداية، وحصاد الرحلة في الختام مع الملاحق والمراجع. كم كان جميلاً أن يستهل إهداء الكتاب إلى “بناتنا وأزواجهن” قبل الجميع، والذي ينتقل بدوره إلى (الباب الأول: الذكورة والأنوثة)، فيبدأ بعرض مجموعة من (تأملات وتساؤلات) في الفصل الأول، لينتقل إلى الفصل الثاني والذي يعرض فيه (العلماء وهم يجيبون على عدد من المفاهيم الأساسية)، ومن ثم عرض (ملامح وسمات التعاطف والتنظيم) في الفصل الثالث. وفي حين يدور النقاش في الفصل الرابع عن (التنشئة أم الفطرة؟) يتطرق الفصل الخامس إلى (إكسير الذكورة)، بينما يتعرض الفصل السادس إلى (إكسير الأنوثة)، ومن ثم ينتقل الحديث في الفصل السابع عن (أمراض تكشف الحقيقة)، ويختم الفصل الثامن بموضوع وتساؤل عن: (الجينات والمخ .. ثم ماذا بعد؟) ثم يفتح الكتاب (الباب الثاني: تطبيقات على الجنوسة) مبتدئاً بالفصل التاسع في إيحاء عن (الجنس بين شهريار وشهرزاد)، ومن ثم ينتقل إلى الحديث في الفصل العاشر عن الذكر والأنثى باعتبارهما (شريكان في مؤسسة الأسرة)، الفصل الذي يقود بدوره للحديث عمّا (بين الأمومة والأبوة) في الفصل الحادي عشر، ليوجه لهما نداءً في الفصل الثاني عشر بـ (أيها الآباء .. أيتها الأمهات: ستحصدون ما تزرعون)، ليخلص في الفصل الثالث عشر بالتوصية حول (القدرات والاهتمامات والعمل).

تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الثامنة للكتاب الصادرة عن (نيو بوك للنشر والتوزيع) عام 2011، وباقتباس يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) كما سيلي في الأسطر القادمة. وقبل البدء، لا بد من التنويه على أن مادة الكتاب جاءت علمية صرفة معززة بالملاحق والمراجع وبمنهجية تراتبية في العرض والتقديم، وباستخدام لغة مباشرة تخاطب القارئ غير المختص، فضلاً عن النصائح الثمينة المقدمة للأزواج، وجملة القيم الأخلاقية والدينية والاجتماعية التي اكتسى بها إلى جانب المادة العلمية. وهو في هذا يسعى إلى إبطال الشعارات التي تعظّم الجنس الذكري على حساب نظيره الأنثوي، علمياً وموضوعياً.

يقرّ علم التشريح بتشابه مخ الرجل ومخ المرأة فسيولوجياً، مع فارق الحجم لصالح الرجل والذي يُبرر بصغر حجم جمجمة المرأة في العادة. غير أن الحجم لا يقرّ درجة الذكاء بالضرورة، إذ أن الفيل ليس بأذكى من الإنسان رغم كبر حجم المخ عنده، كما لم يثبت التشريح وجود أي فرق بين مخ أينشتاين ومخ أي متخلف عقلي، وقد تم تشريح مخه بعد وفاته بموافقة مسبقة منه. إن الفارق هنا يكمن أساساً في مستوى أداء الخلية العصبية للمخ. كذلك، يرفض الكتاب اعتماد كلّاً من “العوامل التربوية” وما تقوم عليه من موروثات ثقافية وأعراف اجتماعية، و “الفروق الكيميائية” المتمثلة في الهرمونات الجنسية، في تفسير الاختلافات الفكرية والنفسية والسلوكية بين الإناث والذكور، تفسيراً قاطعاً. وعن تفاوت درجة العاطفة والمنطق بين الجنسين، يذكر الكتاب: “أن الرجل عندما يحب يحب بلا منطق، وعندما يمنطق الأمور فإنه يمنطقها بلا عاطفة. في حين أن المرأة تمنطق الأحداث بعاطفية، وفي قمة عواطفها لا تتخلى عن المنطق”.

وفي مقارنة سريعة حول: (المشاعر والتعبير): يعاني الرجل من قصور نسبي في التعبير عن مشاعره بالكلمات، حيث تقع قدرات الإدراك بالأمور الشعورية لديه في النصف الأيمن من الدماغ، بينما تقع قدرات التعبير اللغوي لديه في نصفه الأيسر. أما المرأة فتتوزع القدرتين في كلا الفصين، مما يفُسر المهارة اللغوية لا سيما الفورية لديها. (عملية التفكير): أثناءها، تظهر “الخلايا العصبية” المسئولة عن معالجة المعلومات أعلى بمعدل ست أضعاف عند الرجل عن المرأة، في حين تظهر “المحاور العصبية” المسئولة عن تبادل المعلومات أعلى بمعدل عشر مرات عند المرأة من الرجل. (الاستجابة للمحفزات): أن “الجهاز الحوفي” المسؤول عن الاستجابة العضلية هو أكثر نشاطاً عند الرجل من “التلفيف الحزامي” المسؤول عن الاستجابة النفسية والذي هو أكثر نشاطاً عند المرأة. يُفسر هذا تجاوب المرأة مع الاستفزازات لغوياً، واستخدام الرجل لقبضته في مواجهتها. (الحواس): تتفوق المرأة في حاسة السمع وحاسة البصر وحاسة التذوق وإحساس الجلد عن الرجل. فمن بين عشرة مطربين ينبغ رجلان فقط ويكون المتبقي من نصيب المرأة. كذلك، تبصر المرأة الألوان ذات الموجات الأطول وتعلو كفاءة الحاسة لديها في الظلام، كما أنها الأكثر استجابة للأطعمة المرة والحلوة، ويتحمل جلدها أيضاً أقصى درجات الألم.

(المكان: فناء المدرسة – الزمان: سن العاشرة) .. وبينما يجوب الأولاد الفناء ذهاباً وإياباً مصحوباً بصراخ بل وعنف حال خلافهم يصل عادة إلى حد التشابك بالأيدي، تجتمع البنات في مكان ما على طرف الفناء يتبادلن الحديث والحقائب أحياناً. وإن وقع خلاف ما بينهن، فلا يتجاوز حسمهن له استخدام تقنية النقاش أو الصياح. يقع أحد الأولاد على الأرض أثناء اللعب باكياً، فلا يأبه به أحد بل قد يعمد الأولاد إلى إزاحته جانباً من أجل الاستمرار في اللعب، أما لدى البنات فتتوقف اللعبة بأكملها، حيث يهرعن جميعهن نحو تلك التي سقطت لمساعدتها والتخفيف عنها. وفي الحديث عن الجنسين في تنشئتهم المبكرة، يتطرق الكتاب للحديث عن هندسة الكيبوتس الإسرائيلية وفشلها في خلق جيل ذو جنس أحادي من خلال محاولة منح فرص متساوية للجنسين بما يُطلق عليه “البيئة التربوية المتماثلة”، حيث تأبى الطبيعة البيولوجية إلا أن تنتصر!. تقول النتيجة: “لقد فشلت كل محاولات السياسيين في استخدام «الهندسة الاجتماعية» داخل الكيبوتسات من أجل خلق يوتوبيا بالمفاهيم الذكورية (مجتمع يرى أن السعادة تتحقق إذا تبنى الجميع ‏ -ذكورًا وإناثاً – قيم التحدي والتفوق المادي). كما قدموا لنا البرهان على أن عقول الذكور والإناث مختلفة بالفطرة وليس بالتنشئة، وأن الأولاد والرجال يعيشون غالباً في عالم الأشياء من خلال عقول تنظيمية، بينما تعيش البنات والنساء في عالم الإنسان والعلاقات من خلال عقول تعاطفية”.

إن الأمومة انتصار أزلي، وعندها، يفرّق الكتاب بين الأمومة والأبوة فيقول: “هل تخيلت في يوم من الأيام أن الرجل يمكن أن يتحمل أعباء الأمومة بدلاً عن زوجته؟ وهل لاحظت أن العلاقة بين الأم وطفلها علاقة تبادلية خاصة، حتى إنه لم يحدث في تاريخ معظم المجتمعات البشرية أن نجح الرجال في القيام بدور الأمهات مهما كانوا حريصين على ذلك ومهما كانوا معطائين، حتى وإن قاموا بتقديم وجبة الرضاعة أو تغيير الحَفاضَات؟ بل لقد فشلت محاولات علماء الاجتماع في جعل الطفل أكثر قبولا لرعاية أبيه بدلاً من رعاية أمه، ويُعتبر قيام الأب بتربية أطفاله بعد فقد الأم استثناءً من هذه القاعدة”. بالإضافة إلى هذا، يذكر الكتاب أن إحصائيات الطوارئ تسجل نسب إصابات أعلى للأطفال في الأوقات التي كانوا فيها تحت رعاية آبائهم، بالمقارنة مع الحالات التي كانوا فيها تحت رعاية أمهاتهم.

ختاماً، لم تعد صورة المرأة النمطية في ضعفها وانكسارها وخوفها هي المرتقبة، بل إنها: “صورة قد تدخل قريباً أرشيف الذكريات”. إذ تشير الأبحاث العلمية إلى (قوة المرأة الجسدية)، تشهد لها الأرقام القياسية المسجلة في الدورات الأولمبية، و (قوتها النفسية والعصبية) إذ تمكنت من اختراق الفضاء مع الرواد الرجال، نداً بند.. وتتوالى إنجازاتها.

أخيراً وليس آخراً: يختلف الجنسان .. نعم! لكنه اختلاف يدعو إلى التجاذب لا التنافر .. كقطبي مغناطيس في المجال الفيزيائي، أو كما يقول الشاعر الشاب مريد البرغوثي في قول أكثر عذوبة: جديلة طرفاها العاشقان فما تراهما افترقا إلا ليلتحما .. في ضمّة تُرجع الدنيا لسنّتها كالبحر من بعد موسى عاد والتأما.

 

للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 25 مايو 2022 – صفحة (10):

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/05/5118.pdf

 

……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..

أنشر هذه المقالات في شهر يونيو / حزيران 2022
همى الغيث

……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..

(12)

كتاب/ مذكراتي في سجن النساء

المؤلف/ د. نوال السعداوي

دار النشر/ دار الآداب للنشر والتوزيع

الطبعة/ 1 – 2015

لكلمة الحق ضد الطغيان ثمن يُستوفى خلف القضبان

 

 

لا تفاجئ د. نوال السعداوي قراءها كثيراً! ففي جرأة وصدق وبلاغة وبيّنة معتادة، ينقل قلمها الرشيق كرشاقة قامتها، في تدفق سلس متناغم، صوراً لأحداث عاصرتها بين أنماط بشرية وحشرات زاحفة وطعام رديء وأجواء رمادية، ومشاعر اختلطت فيها الرهبة من المجهول، والإصرار على المواجهة، والحفاظ على روح متّقدة .. خلف القضبان! بلا ادعاء، بلا تهمة، وبلا قاض، استقطعت أوصالاً من شبابها آنذاك.

إنها إذاً د. نوال السعداوي (1931 : 2021) الرائدة في مجال حقوق الإنسان، وحقوق المرأة على وجه الخصوص. تخرجت في كلية الطب جامعة القاهرة عام 1955 وحصلت على بكالوريوس الطب والجراحة. وبالإضافة إلى ممارسة مهنة الطب، تقلّدت مناصب مرموقة في بلادها، كمنصب الأمين العام لنقابة الأطباء، ومنصب المدير العام لإدارة التثقيف الصحي في وزارة الصحة، ورئاسة تحرير مجلتي الصحة والجمعية الطبية، وساهمت في تأسيس الجمعيات الحقوقية، كما حصدت جوائز عالمية، وتُرجمت أعمالها العلمية والفكرية والروائية إلى أربعين لغة. تشرّبت قيم الصدق والحرية والاعتداد بالذات منذ طفولتها، حيث ناضل والدها ضد الاحتلال البريطاني وشارك في الثورة الشعبية ضد سياستها في مصر عقب الحرب العالمية الأولى، حتى تم معاقبته بتعطيل ترقيته لسنوات بعد نقله إلى قرية صغيرة، وقد كان مسئولاً في وزارة التربية والتعليم آنذاك. لا عجب إذاً أن يتم زجّها في سجون الرئيس المصري الراحل أنور السادات عام 1981 ضمن حملة استهدفت مجموعة من الأدباء والكّتاب والصحفيين، تحت شبهة نشر الآراء التحريضية ضد الوطن ورموزه .. وقد قالت في مذكراتها عن قيمة الإنسان: “إن كل شيء أجنبي أصبح أعلى قيمة من أي شيء مصري .. حتى الإنسان”.

تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الأولى للكتاب الصادرة عام 2015 عن دار الآداب للنشر والتوزيع، يتخللها اقتباسات ثورية من مأثور قول الطبيبة الأديبة، كثورتها الباقية ما بقيت الحياة (مع كامل الاحترام لحقوق النشر). وبينما يُدرج الكتاب تحت أدب السير الذاتية، وأدب السجون كذلك، أياً كان، فقد جاءت خواطر الطبيبة بين سطور مذكراتها تنمّ عن حسّ وفكر، وعن جمال وفلسفة، لطالما آمنت بها ووصمت بها .. اكراماً تارة، واتهاماً تارة أخرى!. إنها تفاصيل قاسية لا تخلو من تفاؤل، تسردها منذ لحظة اعتقالها إلى ما بعد إطلاق سراحها، يعيشها القارئ في كل لحظة، بما تحملها من قهر واستعباد، وبما يتخللها من ابتسامات وقفشات، وبما يغلفّها من تحدٍ وأمل، تحلّت بها الطبيبة .. السجينة السياسية، مع قريناتها السجينات السياسيات والسارقات والداعرات والقاتلات، والشاويشات أيضاً. وعن تلك التفاصيل أتحدث كما يلي:

تعرض د. السعداوي في الجزء الأول من مذكراتها (القبض) حادثة الاعتقال، إذ قام عناصر من الشرطة باقتحام شقتها، وهي وحيدة، في أحد أيام سبتمبر من عام 1981، وجرّها عنوة إلى سجن القناطر الخيرية، بلا تهمة واضحة وبلا أذن مكتوب، بل هكذا! بحسب أوامر عليا صادرة من الرئيس السادات، ضد الطائفيين والمتآمرين في البلاد. وعن أثر الذل تقول: “الناس من خوف الذل في ذل”. أتى الجزء الثاني (السجن) مفصّلاً، إذ تطرقت د. السعداوي لحياة السجن اليومية مع بقية النزيلات، من خلال ما كنّ يستمتعن به من رياضة وفلاحة ودردشات متفرقة، ومن صراعات مختلفة، كالروائح العفنة، والحمام ذو الباب المشروخ، وخبز الفطور المحشو بالحشرات، والغبار والدخان، والأسرّة المتهالكة، وصراصير الليل. تقول عن شعور الخواء الذي لازمها ذات صباح: “أعظم صفات الإنسان أنه ينسى! وهل كنت أحيا في السجن دون أن أنسى”؟. ثم يأتي الجزء الثالث (اختراق الحصار) ليبرز شخصية د. السعداوي الثائرة أبداً، ومحاولاتها التي نجحت في التواصل مع عائلتها، وتهريب مقالاتها وخطاباتها، وتوكيل محامٍ لها، وطمأنتهم لها بتظاهر العالم معها رغم اضطهاد بلدها لها. ومن الطريف أنها كانت تمكث تحت جنح الظلام، إما في المرحاض أو تحت غطاء الفراش لتكتب تلك المقالات المهرّبة على ورق تواليت، وبقلم كحل تم تهريبه لها من عنبر الدعارة المجاور. وعن التأقلم تقول: “ربما لا يشعر الإنسان بالخطر إلا وهو خارجه، فإذا ما أصبح في قلب الخطر صار جزءاً منه ولم يعد يشعر به”. يسفر الجزء الرابع (الخروج للتحقيق) عن سبب الاعتقال، والذي عاد إلى محاضرة ألقتها د. السعداوي بين زملائها في جامعة عين شمس، قبل عشرة أعوام قبل الاعتقال، في عام 1972 تحديداً، إذ زعم التحقيق تحريض د. السعداوي على الثورة والتمرد آنذاك، رغم تفنيدها وإصرارها على أن المحاضرة عُقدت من أجل نقاش علمي بحت! لم تُخف د. السعداوي شكوكها في أن اعتراضها على معاهدة كامب ديفيد التي أبرمها السادات مع نظيره رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيغن عام 1971، كطرف رئيسي فيها، كان هو السبب الحقيقي وراء اعتقالها. وعن انتظار الإفراج وهي بين زنازين المعتقل تقول: “لا يموت الانسان في السجن من الجوع أو من الحر أو البرد أو الضرب أو الأمراض أو الحشرات، لكنه قد يموت من الانتظار. الانتظار يحوّل الزمن إلى اللازمن، والشيء إلى اللاشئ، والمعنى إلى اللامعنى”. تصف د. السعداوي في الجزء الخامس (موت السادات) الفرحة العارمة التي اجتاحت أجنحة السجن عند إعلان الخبر، حيث خلعت المنقبات جلابيبهن مع نقابهن وشاركن السجينات الأخريات رقصهن وهتافهن، وذلك بعد حالة من الوجوم والقلق والترقب وهن يسترقن السمع للمذياع الصغير المهرّب خلسة، مما اضطرها للاختباء عن أعين الشاويشات في الحمام المتهالك لمدة ثلاث ساعات والمذياع ملتصق بأذنها، وأنفها قد أزكم من عفن حفرة التصريف الطافحة بين قدميها. في الجزء السادس والأخير (الذي جاء بلا عنوان)، تسترجع د. السعداوي ذكرى مؤلمة نقلتها من شقتها، إلى سجن القناطر، إلى المدعي العام، إلى قصر الرئاسة، ثم إلى بيتها من جديد .. حيث تولد من جديد! لا تنسى ما حيَت تواريخ ثلاث حُفرت في ذاكرتها، هي: 6 سبتمبر يوم الاعتقال، 28 سبتمبر يوم الجلسة عند المدعي العام، و6 أكتوبر يوم الافراج. تعود د. السعداوي إلى السجن مرة أخرى، لكن للزيارة، حيث يأخذها الشوق لملاقاة رفيقات السجن اللاتي لم يزلن حبيسات وقتئذ. وعن لحظات من مرح عاشتها وزميلاتها النزيلات تقول: “لم تكن بدور تدخل المرحاض إلا ونراها تقفز آخره قبل أن تكمل مهمتها صارخة: صرصار!. ما أن نسمع صرختها حتى نجري إليها وفي يد كل منا شبشبها شهرته في يدها كالسيف استعداداً لضرب الصرصار. وفي يوم سمعنا صرختها وهي جالسة في الحوش، وظننا أن صرصاراً هجم عليها، وخلعنا الشباشب وتأهبنا للمعركة لكننا لم نر صرصاراً وإنما رجل. لم تكن مرتدية النقاب وأفزعها أن يلمح رجل شعرها العاري، وقفزت من الحوش إلى العنبر في خطوة واحدة وأخفت شعرها ووجها تحت النقاب. أصبحنا من بعد، كلما سمعنا صرختها وقبل أن نخلع الشباشب نسأل: صرصار أم رجل”؟.

تُلقي د. السعداوي الضوء على نماذج من أخلاقيات السجينات المتأرجحة بين التشدد الديني والانحلال الخُلقي، فمن السجينات من انتقبن وتلين القرآن ليل نهار، وقد تشبعن بكل ما من شأنه تحقير المرأة والحطّ من قدرها كإنسانة في المقام الأول. ومن السجينات من قتلت زوجها وقطعته إرباً إرباً بعد أن وجدته مستلقياً فوق ابنتها ذات التسع سنين، بعد عودتها المفاجأة من عملها اليومي في فلاحة الأرض إلى دارها، حيث يقبع زوجها آكلاً شارباً نائماً شاخراً ليل نهار. ومن السجينات مومسات كن يتبجحن في إسفاف، وقد شوهدن يتحرشن بطبيب السجن الذي كان يتعاطى معهن في نشوة، عُرف بها. تقول وهي تتطرق في حديثها عن بعض أوجه الجهل والتخلف والهوان التي شهدتها في مجتمعها: “لا زال كثير من الرجال والنساء في بلادنا يؤمن أن وجه المرأة عورة! أما الثورة، فهناك من يؤمن أيضا بأنها كوجه المرأة .. تحتاج إلى حجاب يغطيها”. لكنها تعود لتنتصر لقضيتها التي آمنت بها، فتقول عن نصف المجتمع: “إذا النساء حرُمن الحرية فلا يمكن أن تكون هناك ثورة. هل تتحقق الثورة في مجتمع يكبّل نصفه بالقيود”؟ وبين ثنايا المذكرات، تعود د. السعداوي بالذاكرة أدراجها، مسترجعة ملامح من طفولتها بين أم شمّاء أبيّة تثور لكرامتها، وأب حرّ مناضل يلعن الإنجليز .. بساطة جدتها لأبيها في الريف، وأبهّة جدتها لأمها في الترف. ورغم اقتضاب الكلمات، فقد أثارت د. السعداوي قدر من الشجن في رثاء والدتها ولحظات احتضارها التي لا تُنسى.

وأختم بمقولة للطبيبة الأديبة في الإرادة الحرة، وقد عاشت على مبادئ لا تحيد عنها، وواجهت ما واجهته في سبيلها، وماتت عليها: “هل يمرض الإنسان بإرادته؟ نعم، وأحياناً لا! إلا أن الإنسان قد يمرض، بل قد يموت بإرادته. والعكس أيضاً صحيح .. قد لا يمرض الإنسان وقد لا يموت بإرادته”.

 

للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 1 يونيو 2022 – صفحة (10):

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/06/5123.pdf

 

……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..

(13)

كتاب/ قصة الطب ودور الطبيب: إظهار لجمال النفس وانتصار للحياة

المؤلف/ د. جاسم الدوري

دار النشر/ دار الشروق للنشر والتوزيع

الطبعة/ 1 – 2016

ثنائية العلم والأخلاق في مهنة الطب

 

 

يولد الإنسان عادة وقد حباه الله بنعمة الصحة، التي قد يُغبن فيها ما لم يوفِ حقها في الحمد وحسن الاستغلال. بيد أن قدر الإنسان يفرض مواجهة تحديات الحياة التي قد يوقف المرض عجلتها، وما يخلّف من آثار صحية ونفسية واجتماعية، تتطلب إحاطتها برعاية وحب ونبل يمنحها أبطال مهنة الطب، ويتقبّلها ويتجاوب معها المريض .. في تحدٍ يعيد للجسد عافيته، وللنفس جمالها، وللحياة الانتصار. إن هذا الكتاب يوجّه حديثه للعاملين في المجال الطبي من مهنيين في المقام الأول، وللإداريين كمساهمين فاعلين في تلك المنظومة الصحية، ويقدّم إهدائه للمريض الذي يُدين له المؤلف بالفضل في قوله: “إلى المريض .. المعلم الأول للطبيب”، والذي حسب تعبيره الآخر: “لولاه ما تعلمنا”.

يأتي الكتاب كعصارة علم وعمل انخرط فيهما المؤلف في سن مبكّرة حتى تقاعده عام 2014. إنه د. جاسم الدوري، المولود في قضاء الدور- محافظة صلاح الدين عام 1950، والذي تخرّج في كلية الطب من جامعة بغداد عام 1974، وعمل من ثم طبيباً في المستشفيات العراقية حتى عام 1982، حيث غادر إلى المملكة المتحدة لاستكمال الدراسات العليا، فحصل على عضوية كلية الأطباء الملكية عام 1984، وعمل في المستشفيات البريطانية التي استمر يتدرّج فيها على السلم الطبي، حتى أصبح استشارياً في الطب الباطني.

تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الأولى للكتاب الصادرة عام 2016 عن (دار الشروق للنشر والتوزيع)، والتي تشتمل على بعض الاقتباسات، بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر). وعلى الرغم من مادة الكتاب العلمية، فقد جاءت بلغة رجل الشارع، وبأسلوب لطيف يساعد القارئ على طي جلدته الأخيرة من غير فاصل زمني بعد قلب جلدته الأولى. يعرض فهرس الكتاب أربع فصول رئيسية يتفرّع عنها مواضيع ذات صلة، فيبدأ (الفصل الأول: قصة الطب وفنه) بالحديث عن الإسلام كدين يحض على الاخذ بالأسباب من أجل وقاية الجسد، حيث يؤكد د. الدوري على أن “الإسلام دين الوقاية”، فالحفاظ على الجسد نظيفاً، وتجنيبه المحرمّات من شرب للدخان وتعاطٍ للخمور وممارسة علاقات غير شرعية، تقيه من أمراض القلب والرئة وأنواع السرطان المختلفة. يستشهد في هذا بحديث النبي الأكرم ﷺ: “إِن الله أنزل الدَّاء والدواء، وَجعل لكل دَاء دَوَاء، فَتَدَاوَوْا، وَلَا تداووا بِمحرم”. يشير من ثم إلى البناء الحالي لعلوم الطب الحديث، حيث يقوم على الأساس الذي وضعه العلماء السابقون، مؤكداً بأنه علم لم يتوقف يوماً. ففي “دولة العلم والثقافة”، قام العباسيون بإبداع أنظمة دقيقة في ممارسة مهنة الطب والحفاظ على الصحة العامة، وقد كانوا “أول من قام بالتلقيح ضد الجدري بوضع قشور بثور المرض في جروح صغيرة في جلد الصحيح”. يستمر د. الدوري بعد ذلك في اطراء علماء الإسلام الأوائل، كالنطاسي والبيروني والرازي وابن النفيس وابن سينا، ويخص “جراح قرطبة الشهير أبو القاسم الزهراوي” فيقول وهو: “المكنى (شيخ الجراحين) و (أبو علم الجراحة الحديثة)، مؤلف (التصريف لمن عجز عن التأليف) ذي الثلاثين مجلداً الذي ضمنه خبرته وإبداعاته في طرق الجراحة المختلفة وآلاتها المتعددة، ولا يزال بيته قائماً في قرطبة الأندلس يزوره السائحون”. ينتقل بعد ذلك للحديث عن الخدمات الصحية الوطنية التي تعمل عليها المؤسسات الطبية في بريطانيا، ويختم الفصل بإلقاء الضوء على أمراض اندثرت وأمراض أخرى ظهرت للعيان.

أما في (الفصل الثاني: الطبيب خادم الفن) فيتطرق فيه د. الدوري إلى الجراحة كذوق ورسم، وإلى الطب كفنّ، والطبيب كخادم لهذا الفن، يصفه فيلسوف الطب الأول أبو قراط بأنه: “له ثلاثة أضلاع: المرض والمريض والطبيب. فالطبيب خادم الفن، وتعاون المريض مع الطبيب كفيل بالقضاء على المرض”. ثم يخصّ حديثه عن الممرضة كركيزة أساسية في مهنة الطب، وما يجمعها مع المريض من علاقة وشيجة لا يحظى بها الطبيب المعالج عادة! فيقول قولاً عذباً في حقها، إذ: “إنها حقاً نعمة ربانية أن تختص المرأة بالتمريض لرقة طبعها وحنوها. وهي لا تقل عن الطبيب شأناً إذ أن هدفيهما رعاية المريض”. ويضرب الأمثلة التاريخية في نسيبة الأنصارية يوم أحد، حين طببت الجرحى وأصبحت بهذا العمل أول ممرضة في الإسلام. والإنجليزية فلورنس نايتنجيل التي ابتدعت نظام الرقابة الصحية، وقللت من عدد وفيات الجرحى أثناء حرب القرم. ثم يقول في جرأة: “أما النظرة الدونية لهذه المهنة الإنسانية الراقية فقد جاءت من الثقافة الذكورية الهابطة والعادات الجاهلية البالية التي لا تقيم وزناً للحياة، وتهين المرأة صانعة الحياة وراعيتها. المرأة شقيقة الرجل، التي جعل الله من خلقها الرعاية والحنان والحب غير المشروط، وجعل من أهم مسئولياتها رعاية الأسرة وإدارة البيت، فحيث حلّت المرأة حل النظام والنظافة والسلوك المهذب، وهذه لعمرك هي موجبات الطب حقاً”. ومع هذا الرأي الإنساني قبل أي وصف آخر، لا عجب أن يأتي تعليق د. الدوري صريحاً في قوله: “الرجال أكثر حساسية”، عند معاينته حالة إحدى قريباته التي أصاب بشرة وجهها طفح جلدي وأصابها القلق جرّاء ذلك “لما للنساء من حساسية تجاه الشكل والمظهر”. ينتقل بعد ذلك إلى عرض واجبات الطبيب ومسئولياته، وآثامه أيضاً .. حسب تعبيره، والتي يعدد منها تسعة، وإلى التأكيد على أن التقصير في أداء المهام ورفع الشكاوى، يُعد بمثابة أداة للتطوير والتعلم واستخلاص الدروس، بالإضافة إلى جوانبها الأخلاقية من تقديم الاعتذار والتعويض المناسبين، باستثناء هتك أسرار المريض وهدر كرامته التي عدّها جريمة لا تغتفر، حيث يختم بها الفصل من خلال التركيز على أخلاقيات مهنة الطب وفضائل الطبيب، فيحدد عشر خصال أخلاقية لا بد وأن يتحلى بها، هي: “الرعاية والاهتمام، الرأفة والرحمة، الاتصال الفعال، التعاون والتنسيق مع فريقه الطبي، الكفاءة في العلم والمهارة، التحليل النقدي والتحليلي، الجمع بين الثقة والتواضع، آمراً .. ذو خصال قيادية، الاستمرار بالحصول على آخر العلوم والمهارات، حصر ممارسته بخبرته واختصاصه”. وبناءً على هذه الخصال، ينأى المؤلف بمهنة الطب أن تزاول مهنة الإتجار، من خلال شركات التأمين ومندوبي الأدوية وموردي الأجهزة والمعدات، إذ “لا يحق للطبيب تسخير هذه المهنة المقدسة للكنز والطمع وتحويلها من مهنة علاج العلة ومعرفة الأسباب إلى حرفة لجمع المال والاكتساب”.

وفي (الفصل الثالث: معلم الطبيب الأول .. المريض)، يتحدث د. الدوري بلغة وجدانية عن بعض قصص النجاح التي تشكّل أعظم متع الطبيب، وعن انفراج الهم، والأمل الذي يعقب اليأس، وكيف أن المرض النفسي هو في حد ذاته كرب عظيم، والتقمص العاطفي الذي يعتمده الطبيب في علاجه .. فيسرد عدد من الحالات الواقعية التي تتراوح بين الفرح والترح، وبين ما كان كقضاء إلهي وما نجم عن إهمال بشري! لم يكن المؤلف -وهو طبيب- أن يكشف ما ينبغي ستره، فقد استخدم أسلوب الترميز وهو يتطرق لتلك الحالات! أذكر منها حالة الشابة التي فقدت طفلها البكر أثناء الولادة، بسبب حماقة طبيب التوليد، والإهمال اللاحق له، مما أدى إلى تعرضها للنزف الحاد حتى الموت، فإذا بالمنزل الذي تزيّن منذ سويعات للفرح المرتقب، يتحول إلى سرادق عزاء! وذاك الذي أصابه (العجز الجنسي) فأنهكه الهمّ، فمنع عنه الطبيب المعالج دواء الضغط واستبدله بآخر، وودعه ليعود إليه بعد ثلاثة شهور متهللاً .. شاكراً له (إعادة رجولته). ولأن الشيء بالشيء يُذكر، يأتي المؤلف على ذكر السيدة الإنجليزية جوان، وهي “متقاعدة في الستين من عمرها، تعمل متطوعة في المستشفى، تتحدث إلى المرضى العاجزين وكبار السن لتخرجهم من وحشتهم ووحدتهم، ثم تدفعهم بالكرسي المتحرك لإيصالهم إلى عيادة الأطباء وتنتظرهم إلى بعد انتهاء الاستشارة الطبية، لتأخذهم إلى قسم الأشعة أو المختبر وغيرهما، ثم تقوم بتوديعهم عند المغادرة. سألتها يوماً لم تفعلين ذلك؟ قالت: بهذا العمل أحس بسعادة في قلبي، وأؤدي واجبي تجاه قومي، وآمل أن أجد من يخدمني إذا صرت إلى ما صاروا إليه”.

ينتهي الكتاب مع (الفصل الرابع: علاقة الطبيب بالمريض) بتسليط الضوء على الاستشارة الطبية كفن آخر، مع توضيح هدفها ووظيفتها، ومن ثم عرض الخطوات اللازمة في إفشاء الخبر السيء للمريض وقد رتبّها د. الدوري بخمس خطوات رئيسية. ينتهي الفصل بجملة من الاقتراحات العملية للتطبيق في القطاع الصحي، سواء عن طريق الكادر الطبي أو الإداري .. والمرضى كذلك!. ويقتبس المؤلف من البروفيسور دونالدسون المستشار الأول للحكومة البريطانية في الصحة العامة قوله: “كل البشر خطاؤون، لكن لا يمكن الصفح عمّن يغطي خطأه، ولا نقبل عذراً لمن لا يتعلم منه”.

يختم د. الدوري كتابه القصير بالدعاء المأثور: “اللهم رب الناس أذهب الباس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما” .. وبدوري أختم بالدعاء الذي أحافظ عليه: “اللهم ابعد عني شر ما يؤذيني .. ولا تحوجني لطبيب يداويني”.

 

للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 8 يونيو 2022 – صفحة (10):

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/06/5128.pdf

 

……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..

(14)

كتاب/ الغابة

المؤلف/ د. مصطفى محمود

دار النشر/ دار المعارف – القاهرة

الطبعة/ 7 – 1997

رحلة عميقة الأثر عمق الأدغال الأفريقية

 

 

هناك في الغابة .. تنصهر كل اختلاجات النفس البشرية لتظهر في أصدق ما جُبلت عليه من فطرة وسجية وعفوية، فلا نفاق ولا عدوان ولا كبت ولا طمع، إلا من قوانين ضمنية تعمل عمل الدساتير الرسمية في المجتمعات المدنية. تلك الغابة في القارة السوداء التي ما أن وطأت قدما الرجل الأبيض تربتها حتى عاث فيها الفساد، من ترويع للنفوس ونشر للذعر وفتك بالأبدان مع ما حمل من أمراض كالسل والزهري والسيلان لم تعرفها القارة من ذي قبل، ضمن ما حمل لها من بنادق وراديوهات وسيارات وأقلام تكتب بطلاسم بدت شيطانية للأفارقة، ومن تبشير بديانة غريبة تتوعد بجحيم أخروي في حال ارتكاب إثم ما، بدل الرب الغفور الرحيم الذي كانت تؤمن به!.

تُعد رحلة د. مصطفى محمود إلى (الغابة) من أمتع ما قدّم ضمن إصداراته الغزيرة علمياً وفكرياً وفلسفياً وسياسياً واجتماعياً وأدبياً، رغم قصرها واقتصارها جغرافياً على الأدغال الأفريقية. فبعد أن يصف مشاهداته وهو في (الطريق إلى الغابة) ماراً بالسودان، يتحدث بإسهاب عن بعض القبائل الأفريقية، وهي: الماو ماو، النيام نيام، الشيلوك، الدنكا، النوير، الباري، اللانجو، البونجو، الدوبي، ويختم رحلته بكلمة مؤثرة في (وداع الغابة). إنه إذاً الطبيب والأديب والفيلسوف المصري (1921 : 2009)، المتفرد في طرحه بأسلوب يجمع بين العمق والبساطة، سواء من خلال أعماله المكتوبة أو المرئية كما في برنامجه الشهير (العلم والإيمان). تذكر شبكة المعلومات إطلاق اسمه على كويكب تكريماً وتخليداً له.

تعتمد هذه المراجعة على الطبعة السابعة للكتاب الصادرة عام 1997 عن (دار المعارف) في القاهرة، والتي تشتمل على بعض الاقتباسات، بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر): مع إقلاع الطائرة إلى القارة السوداء، تراود د. محمود خاطرة عن المدينة والمدنية التي أتت بها، والتي لم تكن سوى وجه آخر للمرض، إذ يقول: “المرض المزمن الذي أصبح له ألف اسم واسم .. القرحة .. القولون .. الأملاح .. السكر .. الضغط .. الكبد .. الذبحة .. الأرق .. القلق .. وهو مرض واحد اسمه الحقيقي .. المدينة”. وعند الهبوط في دار السلام، تستقبله وجوه سوداء باسمة مرحّبة تعلوها طرابيش حمراء، تقول: “كريبو مرحب”. يحمل أهالي تنجانيقا المسلمون أسماء عربية، ويتحدثون باللغة السواحلية التي تمتزج بالكثير من الكلمات ذات الأصل العربي، فهم على سبيل المثال: “يسمون الصحون هناك صحاني، والقهوة كاهاوا، والماء ماجي، والسمك سماكي، والكبريت كبريتي، والسفر سفاري”. يلتقي هناك بخبير الغابة الأمريكي الذي يحدثه عن “حكمة الحيوان وعن النظام الدقيق السامي الذي يسود الطبيعة الحية”. فالتماسيح التي تكاثرت بشكل ظن معه الأهالي أنه يهدد الحياة البرمائية، أدى إلى رواج حرفة صيد التماسيح لديهم والاتجار بجلودها، حتى فقدوا غذائهم الطبيعي من سمك التيلابيا في البحيرات! لقد انقض سمك القط على سمك التيلابيا بعد أن أصبح حراً مع صيد التماسيح، والتي كانت تتغذى عليه.

ينتقل د. محمود إلى قبائل (الماو ماو) التي يخصّها بحديث مستفيض، فهي تعتبر من أكبر قبائل الغابات الاستوائية، وتتمركز تحديداً في هضبة كينيا. ففي العقيدة، هي أقرب للأديان السماوية في اعتقادها بإله واحد أحد لم يلد ولم يولد وليس كمثله شيء، مع طقوس معينة في تقديس الآباء والأجداد، بينما يتولى الأخيار منهم مهمات التنبؤ وكشف الغيب. أما من الناحية الاجتماعية، فتحكمهم أنظمة عرفية تشمل معاشهم اليومي، وأعمالهم، وصناعتهم، وزراعتهم، وأطعمتهم، وأزيائهم، وعلاجاتهم، وأعمالهم السحرية لجلب الحبيب ودرء الشرور وإنماء الزروع، بالإضافة إلى طقوس الطهور، وعلاقات ما قبل الزواج، والزواج بما فيها من تقليد خطف الزوجة، وتعدد الزوجات حسب طلب الزوجة، ومعاشرة الزوجة لضيوف زوجها، والعقم الذي يعرض فيه الزوج زوجته على رجال آخرين أملاً في حملها، والطلاق الذي لا يتم سوى في حالة العقم الذي لا يرجى شفاؤه، أو في حال إهمال البيت وتربية الأولاد. تتشابه أسطورة نشأة القبيلة بقصة آدم وحواء! فتذكر أنه حين كانت الأرض خواء خلق الإله (موجاي) ابتداءً (جيكويو) وأسكنه الهضبة الخضراء، ثم بعث له بالحورية الجميلة (مومبي) لتكون شريكته في تلك الجنة، حتى حين تزوجا وأنجبا من الذرية تسعة بنات جميلات، ضاق بجيكويو الحال، فركع للإله وقدم له القرابين الذي استجاب له وبعث له تحت شجرة تسعة من الشباب كالأقمار في الجمال والبهاء، فتزوجوا من بناته، وأسسوا لعشائر الجيكويو التسع التي تفرّعت منها قبائل الماو ماو المعروفة إلى الآن. ثم يقول قولاً عظيماً، إذ: “تقول الأسطورة إن القبيلة كان اسمها في البداية قبيلة مومبي تكريماً للأم التي حبلت فيها، ولكن هذا التكريم كان نتيجة طغيان نساء القبيلة. فقد اعتبرت كل امرأة نفسها أنها الأصل في القبيلة، وأنها هي التي أنجبت رجالها، وأقامت من نفسها حاكمة، واتخذت لنفسها عديداً من الأزواج تتحكم فيهم وتسوقهم إلى العمل في الحقول، وثار الرجال وجمعوا كلمتهم. وذات يوم وبينما كان النساء كلهن حبالى ضعيفات غير قادرات على الحركة، قلب الرجال نظام الحكم واستولوا على السلطة. ومن ذلك اليوم تغير اسم القبيلة من أبناء مومبي إلى أبناء جيكويو، ولم يبق من حكم النساء القديم إلا أثر رمزي هو أسماء العشائر التسعة التي ظلت تتسمى بأسماء بنات الجيكويو التسع. وانتهى نظام تعدد الأزواج ليبدأ نظام تعدد الزوجات، ولكن المرأة ظلت موضع احترام ومهابة، والأم ظلت لها قداسة. وإلى الآن ما زال سب الأم عند الماو ماو جريمة لا تغتفر، والأم التي تطعن في السن عندهم تصبح لها مكانة روحية عظيمة، وتتزعم المحافل الدينية”. أما امرأة الغابة “لم تكن أبداً سجينة البيت قليلة الحيلة كما هي عندنا، وإنما كانت دائمة عاملة، كتفها بكتف الرجل في كل مكان، وحرة اقتصادياً مثله” وهي التي تنفق على أسرتها “لأنها هي التي تزرع الحقل وتجمع المحصول وتحمله إلى محطات التسليم وتأخذ ثمنه”.

جاء الفصل الخاص بـ (السودان) شائقاً في عرض جانب من ثقافة المجتمع السوداني، فضلاً عن خيراته وكنوزه المطمورة في باطن الأرض. فأرض السودان هي الأرض التي يتفاوت عليها الطقس ما بين جفاف قاس وصقيع لا يرحم، كما يتفاوت عليها الجنس البشري من ساميين وحاميين وزنوج بخليط ألوانهم، الباهت كالقمح والأسود كالأبنوس، وبتقاطيع أوروبية دقيقة وثانية عربية أصيلة وأخرى بملامح زنجية غليظة. تأتي كل الإحصائيات بالألف والمليون .. الثروة الحيوانية، أنواع الطيور، الأراضي الزراعية، مساحات المدن، الأمطار في المتر المكعّب .. ماعدا “التعداد البشري” الذي لا يتفق ومتاهة أرض السودان. “والنتيجة أن ثروات السودان كلها ما زالت مكنوزة في التربة وفي الماء وفي الغابة بلا تشغيل! لا توجد الأيدي الكافية لاستخراجها، والأيدي القليلة الموجودة يشلها الحر اللافح وترهقها المسافات الطويلة بلا طرق وبلا مواصلات سريعة”. وفي مقارنة بين المصري والسوداني، فإن السوداني أكثر ثقافة “وأكثر عكوفاً على القراءة والاطلاع، وأكثر جدية في قراءته”. وكذلك: “السوداني لا يهرّج كالمصري، بل هو على العكس مهذب جداً، وإذا سألت أحد السودانيين خدمة تسابق عش