مراجعة صوتية .. كتاب / تاريخ القراءة
“التاريخ الحقيقي للقراءة هو في الواقع تاريخ كل قارئ مع القراءة”.
….. هكذا، ينتقل ألبرتو مانغويل -والطموح يملأ قلبه- من حكايته كقارئ، إلى القراءة كتاريخ عريق ارتبط به.
يصف هذا الكتاب لهاث القلق المصاحب للسعي المحموم نحو إشباع سعار الحياة المادية، وما تتطلبه من أدوات تخدم متطلبات المقام الرفيع فيها .. المقام الذي يعكس قيمة المرء وأهميته بين أفراد المجتمع. وعلى الرغم من اختلاف نوع المكانة التي قد يمنحها المجتمع لأفراده بناءً على مهارة ما كالصيادين، أو إنجاز ما كالمحاربين، أو مقام ما كالعائلات النبيلة، فإن المكانة الأكثر رفعة قد باتت تلك التي تُمنح مقابل ما يحوزه الفرد من مال. لا يخفى ما للمكانة الرفيعة من مزايا تُلحق بها بالضرورة، كالراحة والحرية والوفرة وأهمها الشعور بالتقدير، والذي قد يظهر في تمتع صاحبها بنصيبه من الدعوات في المناسبات الاجتماعية المرموقة، والحظوة البارزة من الاهتمام، ونصيبه الأوفر من الإطراء، بل ومن صور التملّق في مجاراة ما قد يطلقه من طرائف تافهة .. وفي حين أن الكثير من البشر يعد هذه المكانة الرفيعة أحد أفخر المتع الدنيوية، فإن القليل منهم يعترف بذلك صراحة.
يصف المؤلف هذا النوع من القلق بـ (الخبيث) لما له من قدرة على تعكير صفو الحياة، في خشية الفشل من مجاراة معايير النجاح التي عادة ما يفرضها ذلك المجتمع المحموم، وفي التجرّد من ثم من منزلة الشرف والمقام الرفيع، بل قد يتطاول هذا القلق ليضرب المنزلة المتواضعة التي يتمتع بها الفرد فعلياً وخشيته من التردي أكثر وأكثر عنها في قريبه العاجل! قد يتسبب في إثارة هذا القلق بين أفراد المجتمع عوامل خارجية، كالركود الاقتصادي، والاستغناء عن العمالة الفائضة، وسلم الترقيات ونظام التقاعد، والإعلام الذي يحرص على إبراز علية القوم باستمرار كفئة أكثر نجاحاً وتميّزاً في المجتمع. بيد أن الحسد كعامل داخلي يتولّد عن هكذا وضع اجتماعي، يبقى مستتراً، وذلك لحرص الأفراد على عدم كشف تلك (الدراما) التي تعتمل في دواخلهم، بحيث يُصبح أي إعلان لها بمثابة (طيش اجتماعي)، في حين تتسرّب بعض الإشارات الدالة عليها، في نظرة تكتسي بالهموم، أو في ابتسامة باهتة، أو في حوار يطول عن إنجاز أحرزه أحد ذوي المكانة الرفيعة.
يعتقد المؤلف أن مصدر هذه الدراما النفسية تتعلق في الأساس بموقع كل فرد على السلم الاجتماعي، وبصورته الذاتية التي يرسمها له الآخرون كما يرونها .. وباستثناء الشخصيات البارزة في التاريخ الإنساني -كيسوع المسيح والفيلسوف سقراط- فإن مدى تقبّل كل فرد لنفسه يعتمد على مؤشرات الاحترام التي يكنّها أفراد المجتمع له. لذا، يجد المؤلف أن إحراز هذه المكانة مهمة بالغة الصعوبة، بل وإن المحافظة عليها بعد إحرازها ولمدى طويل لهو أشد صعوبة! وفيما عدى المكانة الرفيعة التي تتحدد بحكم المولد ضمن أسرة عريقة، فإن المكانة تتحقق بشكل عام من خلال ما يتمكّن الفرد من تحقيقه بذاته .. الإمكانية التي قد تعيقها عوامل مختلفة، قد تتعلق بالاستعداد الوراثي كدرجة ذكاء متدنية، أو بوضع اقتصادي متدهور، أو بنظرة دونية للذات، أو بمكائد الآخرين وضغائنهم. حينها، يصاحب الفشل الشعور بالمهانة، وهو “وعي حارق” بعجز الفرد عن إقناع المجتمع بقيمته .. المجتمع الذي يقيّمه من خلال نجاحات الآخرين، وما يولّد له شعور آخر بالخزي والمرارة وانعدام القيمة.
بيد أن الجوع لبلوغ المكانة قد يصاحبه عدد من الفوائد، فيمكّن الفرد من الحكم بنزاهة على مواهبه التي يمتلكها، وتحديد طموحاته بموضوعية، ويدفعه نحو العمل والتفوق، ويمنعه من اعتماد سلوكيات غير ملائمة، ويخلق حالة من الوعي لدى أفراد المجتمع ككل واعتماد منظومة قيمية مشتركة فيما بينهم. وكما يقول المؤلف: “قلق المكانة هو الثمن الذي ندفعه مقابل إدراك أن ثمة تمييز متفق عليه بين حياة ناجحة وحياة غير ذلك”.
وكما أسماها المؤلف بالكيانات الخمسة، فإن (الفلسفة والفن والسياسة والدين والبوهيمية) ما كانت قادرة على التخلّص التام من التراتبية الهرمية للمكانة، أكثر من تمكّنها في إعادة تشكيل الوعي الجمعي بين مفاهيم النجاح والفشل، والجيد والسيء، والمشرّف والمخزي، وتأسيس تصنيفات جديدة لهذه التراتبية ترتكز على منظومة أخلاقية فرضتها، في حين لا يعترف بها عموماً الأغلبية من أفراد المجتمع، والتأكيد على “أن هناك أكثر من طريقة واحدة للنجاح في الحياة”.
ينقسم الكتاب الذي جاء في ترجمة متقنة بامتياز من نصه الأصلي (Status Anxiety – By: Alain de Botton) إلى جزئين رئيسيين يتفرّع عنهما مواضيع عدة، هي:
ومن الكتاب الذي حصد رصيد أنجمي الخماسي كاملاً، أقتطف ما راق لي باقتباس في نص رفيع (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
أخيراً أقول وأنا استلهم خاطرة من بين ثنايا الكتاب: قد ينأى أصحاب النفوس الرفيعة بأنفسهم عالياً وهم في خضم عالم محموم بسعار المادة وترف المكانة، فيخلقون تلك الأبراج العاجية التي تزداد علواً أكثر فأكثر حتى ينعزلون شيئاً فشيئاً عن زحام الحشود المسعورة .. فيتنسمون هواء العزلة النقي، ويتشرّبون النسيان في كؤوس الأساطير المذهبة، ويسكرون بالشعر والحب والغناء في لحن أبدي.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
نقلاً عن المفكرة: جاء تسلسل الكتاب (24) ضمن قائمة لا تنتهي من الكتب التي خصصتها لعام 2024، والذي أرجو أن يكون استثنائياً بحق في جودة الكتب التي سأحظى بقراءتها فيه، وهو في الترتيب (4) ضمن قراءات شهر مارس .. وقد حصلت عليه من معرض للكتاب في إحدى المدن العربية عام 2019 ضمن (80) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من ذلك المعرض.
وعلى رف (علم الاجتماع) في مكتبتي، عدد كبير من الإصدارات .. أذكر منها: (الإنسان المهدور: دراسة تحليلية نفسية اجتماعية) – تأليف: د. مصطفى حجازي / (الأنا وجحيم الآخر: ديناميات العنف في المجتمعات المتشظية) – تأليف: ثامر عباس / (نساء عراقيات: وجهة نظر اجتماعية) – تأليف: لاهاي عبدالحسين / (الأخلاق: الضائع من الموارد الخلقية) – تأليف: د. علي الوردي / (غرق الحضارات) – تأليف: أمين معلوف / (الشعبوية أو الخطر الداهم) – تأليف: حسن أوريد / (العنصرية كما أشرحها لابنتي) – تأليف: الطاهر بن جلون / (عبادة المشاعر) – تأليف: ميشيل لاكروا / (الغوريلا الخفية: ماذا يمكننا أن نفعل حيال الأوهام اليومية؟) – تأليف: كريستوفر تشابريس / (التطور الراهن للعالم) – تأليف: غوستاف لوبون / (شبكات التواصل الاجتماعي) – تأليف: روبير ريديكير / (أنثربولوجيا الحواس) – تأليف: دافيد لوبروطون / (سلسلة السيولة) – تأليف: زيجمونت باومان / (الحقيقة: لمحة مختصرة عن تاريخ الهراء) – تأليف: توم فيليبس
من فعاليات الشهر: يقابله في العام الهجري 1445 شهر رمضان المبارك، والذي انقطع فيه عادة عن القراءة، غير أنني تمكّنت من استقطاع وقتاً يسيراً للقراءة في هذا العام، وكان مثمراً.
تسلسل الكتاب على المدونة: 474
تاريخ النشر: مارس 31, 2024
عدد القراءات:53 قراءة
التعليقات