مراجعة صوتية .. كتاب / تاريخ القراءة
“التاريخ الحقيقي للقراءة هو في الواقع تاريخ كل قارئ مع القراءة”.
….. هكذا، ينتقل ألبرتو مانغويل -والطموح يملأ قلبه- من حكايته كقارئ، إلى القراءة كتاريخ عريق ارتبط به.
كتاب بقلم مناضل فرنسي حر من ذوي البشرة السوداء .. بل هو طبيب، وفيلسوف، وسياسي، وكاتب .. التحق بجبهة التحرير الوطنية الجزائرية في خمسينيات القرن الماضي، بعد أن استقال من منصبه كطبيب في المستشفى العسكري الملحق بجيش الاحتلال الفرنسي. ولأنه كان فيلسوف أيضاً، فقد آمن بأن تحرير الأوطان من قبضة الاستعمار لا يتم عن طريق المعاهدات بل بالعنف، وأن ما أخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة! وهو إذ يحذّر في الوقت نفسه من تولي الأحزاب السياسية مقاعد رسمية في أي بلد متخلف نامي وهو لا يزال يرزح تحت وطأة الاستعمار، يؤكد بأن تلك الأحزاب ليست سوى برجوازية وطنية تعمل عمل الاستعمار نفسه، بل وتتواطئ مع قياداته في تحقيق مصالحه وحده، فإذا بشعارات السلام الرنانة تصدح في هتاف فارغ، بينما تصبح مطالب الشعب في خبر كان!. بيد أن الاستعمار الذي تناوله لم يقتصر في مفهومه وحسب على الاستعمار الخارجي من حيث احتلال قوى خارجية للبلد ولمقدّراته، بل إن الاستعمار يبدأ داخلياً، مع تفشي الجوع والمرض والخوف والبطالة والفقر والجهل والخرافة …، ما يزعزع القيم الإنسانية التي لا بد أن ينشأ عليها الإنسان لكي يحيا سوياً، وهو النوع من الاستعمار الذي يخلق حالة من الإنكار الذاتي الداخلي، تطمس الهوية ابتداءً، وتمهّد لامتهان الكرامة واستعمارها من الخارج.
إنه (فرانز فانون 1925 : 1961) المولود في جزر المارتنيك الواقعة في البحر الكاريبي والتابعة للحكومة الفرنسية. التحق بالمدرسة الطبية في مدينة ليون الفرنسية وتخصص في الطب النفسي، وخدم في جيش فرنسا الحرة ضد النازيين خلال الحرب العالمية الثانية، ثم عمل كطبيب عسكري في الجزائر أثناء خضوعها للاستعمار الفرنسي. ومع توليه منصب رئيس قسم الطب النفسي في مستشفى البليدة الجزائري، ينخرط في صفوف جبهة التحرير الوطني الجزائرية، ويتولى علاج المصابين من طرفي النزاع رغم كونه فرنسياً، حتى يغادر سراً إلى تونس ويعمل كمحرر لصحيفة المجاهد الناطقة باسم الجبهة، بالإضافة إلى توليه مهام تنظيمية وعسكرية ودبلوماسية ذات طبيعة فائقة الحساسية. يصبح في عام 1960 سفيراً للحكومة الجزائرية المؤقتة في غانا، ثم ما يلبث أن يتوفى بمرض سرطان الدم عن ست وثلاثين عاماً، ويُدفن في مقبرة مقاتلي الحرية في الجزائر. وكما ألهمت كتاباته ومواقفه المناهضة للتمييز العنصري والداعية لحرية الشعوب، الكثيرين، فقد أخذ على عاتقه في هذا الكتاب مهمة خلق إنسان جديد بوعي مختلف .. متحرر ثقافياً واقتصادياً وسياسياً.
يقدّم للكتاب الفيلسوف الوجودي الفرنسي جان بول سارتر. وبحيادية بالغة، يدعو الجميع لقراءة هذا الكتاب الهام لا سميا الشعوب المستعمرة، من أجل الوقوف على خطط الاستعمار التي تُحاك ضدها، وكذلك حكومات الدول الغربية الاستعمارية لكي تعلم بتلك الحقيقة التي أصبحت تناقش على العلن. يُحسب للكتاب تضمينه حالات مرضية، جسدية ونفسية وعقلية، أفرزتها الحرب لضحايا أبرياء، وتطرّقه إلى وسائل التعذيب الوحشية التي سنّها المستعمر الفرنسي في قمع وقهر وتطويع الثائر الجزائري .. يسبق كل ذلك مقدمة وينتهي بخاتمة، ويندرج ما بينهما نقاشاً فكرياً حول المواضيع الآتية:
ومن تلك المواضيع التي نال بها الكتاب من رصيد أنجمي الخماسي ثلاث، أدوّن ما علق في ذهني منها بعد القراءة، في الأسطر التالية:
ومن سداد الرأي، أقتبس في نصر حر ما ورد في صحبة البشر التي أراد بها المناضل فانون المضي طوال الوقت، صبحاً ومساءاً، وفي صفوف متراصّة (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) كما يلي:
“إن على العالم الثالث أن يستأنف تاريخاً للإنسان يحسب حساب النظرات التي جاءت بها أوروبا وكانت في بعض الأحيان رائعة، ولكنه يحسب أيضاً حساب الجرائم التي قامت بها أوروبا في الوقت نفسه، وأبشع هذه الجرائم أنها قد شتتت وظائف الإنسان تشتيتاً مرضياً، وفتتت وحدته، كما أوجدت في المجتمع تحطماً وتكسراً وتوترات دامية تغذيها طبقات، وكما أوجدت على مستوى الإنسانية أحقاداً عرقية واستعباداً واستغلالاً بل وقتلاً، هو ذلك النبذ المليار ونصف مليار من البشر. فيا أيها الرفاق، يجب علينا أن لا ندفع جزية لأوروبا بخلق دول ونظم ومجتمعات تستوحي أوروبا. إن الإنسانية تنتظر منا شيئا آخر غير هذا التقليد الكاريكاتوري، الفاجر على وجه الإجمال. إذا أردنا أن نحيل أفريقيا إلى أوروبا جديدة، وأن نحيل أمريكا إلى أوروبا جديدة كان علينا أن نعهد بمصائر بلادنا إلى أوروبيين، لأنهم سيحسنون التصرف أكثر من أعظمنا موهبة، أما إذا أردنا أن نتقدم الإنسانية درجة، إذا أردنا أن نحمل الإنسانية إلى مستوى مختلف عن المستوى الذي بلغته أوروبا، فعندئذ يجب علينا أن نبتكر، أن نكتشف. إذا أردنا أن نستجيب لآمال شعوبنا فيجب علينا أن نبحث في غير أوروبا، بل إذا نحن أردنا أن نستجيب لما يتوقعه منا الأوروبيون فيجب أن لا نرد إليهم بضاعتهم، أن لا نرسل إليهم صورة، ولو مثالية، عن مجتمعهم وعن تفكيرهم بعد أن أصبحوا يشعرون نحوهما باشمئزاز شديد. فمن أجل أوروبا، ومن أجل أنفسنا، ومن أجل الإنسانية، يجب علينا يا رفاق، أن نلبس جلداً جديداً، أن ننشئ فكراً جديداً، أن نحاول خلق إنسان جديد”.
ومن الملاحظات الهامشية التي حصدتها في عجالة عن الكتاب (Les damnés de la terre – By: Frantz Fanon) ما يلي:
ختاماً، ليس أبلغ من وصية د. فانون وهو يخاطب الشعب الجزائري كفرد منهم قائلاً: “إننا معشر الجزائريين قد أدركنا هذه الأمور بسرعة عظيمة”، وهي الوصية التي تنسحب على كل الشعوب العربية، في النهوض بقوتها وحدها نحو القمة .. القمة التي لا يخلقها أحد سواها .. “أن القمة لا يمكن أن تصمد إلا بما تخوضه القاعدة من كفاح يومي بطولي شاق، لا ولا تجهل أنه ما لم يكن هنالك قمة وما لم يكن هنالك قيادة فإن الفوضى والبلبلة ما تلبثان أن تهدما القاعدة. إن القمة لا تستمد قيمتها وقوتها إلا من وجود الشعب في ساحة القتال، بل قل إن الشعب هو الذي يخلق لنفسه قمة، وليست القمة هي التي تحمل الشعب”.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
نقلاً من المفكّرة: جاء تسلسل الكتاب (10) في قائمة لا تنتهي من الكتب التي خصصتها لهذا العام .. 2022، وقد حصلت عليه من متجر نيل وفرات الإلكتروني للكتب العربية في يونيو من عام 2021، ضمن (80) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من تلك الشحنة.
أنشطة شهر فبراير: ومع هذا الكتاب، قرأت ستة كتب أخرى.
تسلسل الكتاب على المدونة: 342
تاريخ النشر: أغسطس 20, 2022
عدد القراءات:693 قراءة
التعليقات