مراجعة صوتية .. كتاب / تاريخ القراءة
“التاريخ الحقيقي للقراءة هو في الواقع تاريخ كل قارئ مع القراءة”.
….. هكذا، ينتقل ألبرتو مانغويل -والطموح يملأ قلبه- من حكايته كقارئ، إلى القراءة كتاريخ عريق ارتبط به.
كتاب أشبه بـ (بحث استقصائي) وضعه صحافي إنجليزي -قد يبدو أنه مريب بعبقرية أكثر من كونه مثير للجدل- عن رؤيته الفلسفية المقعرة حول ما تم التعارف عليه بالمسلمات وبالحقائق العلمية الثابتة مقابل أولئك الذين خرجوا بمعتقداتهم وبفلسفاتهم بل وبأساطيرهم عن صناديقها!
ومؤلف الكتاب، هو ويل ستور .. روائي وكاتب ومفكّر -كما يعرّف بنفسه على موقعه الخاص- والذي أصبحت مؤلفاته القصصية والإنسانية محط اهتمام كثير من المثقفين والمؤثرين العالميين، في حين عقد معه عدد من رواد البث الصوتي مقابلات حوارية حول أطروحاته الفكرية .. إضافة إلى أعماله التي نُشرت في صحف عالمية، مثل الغارديان، صنداي تايمز، الأوبزرفر، ونيويورك تايمز، وقد صُنف بعضها بـ (الأكثر مبيعاً). أما سابقاً، فقد عمل كصحفي مختص في إعداد التقارير حول حقوق الإنسان، كتقريره عن المناطق الريفية التي مزقتها الحروب في كولومبيا، ومخيمات اللاجئين في أفريقيا، والمجتمعات النائية للسكان الأصليين في أستراليا. أما تقاريره الرائدة عن العنف الجنسي ضد الرجال، فقد حازت على جائزة منظمة العفو الدولية وجائزة الصحافة العالمية، كما حصل على جائزة لأفضل فيلم وثائقي استقصائي عن مسلسله الإذاعي في هيئة الإذاعة البريطانية. تقول الأوبزريفر عن هذا الكتاب: “لا يسعى ستور إلى السخرية من القناعات الغريبة، بل يسعى إلى الدخول في عقول من يؤمنون بها. والنتيجة: رحلة مسلية ببعض التقارير الصحفية الرائعة”.
ففي هذا الكتاب، يتناول المؤلف مجموعة من المعتقدات السائدة التي تتعارض مع معطيات العلم الحديث والحقائق التاريخية ومع مكونات الفطرة السليمة، وهو يستعين بنتائج الدراسات الحديثة في علم النفس وعلم الأعصاب للوقوف على أسباب تجاهل تلك الأدلة الدامغة من قبل المخلصين لاعتقاداتهم المناقضة لها! فيعقد مقابلات ذات أبعاد فكرية ونفسية وتحليلية مع أتباع تلك المعتقدات، وما هم عليه من قناعات راسخة وأساليب مغايرة في التفكير ومبررات عديدة، ناهيك عن مستوياتهم العلمية والفكرية المرموقة وقد وصمهم المؤلف بـ (أعداء العلم)، وذلك في محاولة منه لعرض جانب من التناقضات، بينها كأفكار قد توصم بالجنونية، وبين الواقع بحقيقته! فنجده يحاور (جون ماكاي) المؤيد لفكرة الإله والخليقة، و (وكاي ماكولوك) المؤمن بحقيقة الكائنات الفضائية والأجسام الطائرة المجهولة، وأستاذ علم النفس (جون ماك) الذي كان يبرر علمياً حالات الاختطاف التي تعرّض لها أصحابها حسب مروياتهم .. ثم نجده ينتقل من جلسة يوغا انضم إليها تحت إشراف المعلم (سوامي رامديف) والذي زعم قدرته على معالجة كافة الأمراض مستثنياً الإيدز، ليلتحق ببرنامج ذو عشرة أيام في ممارسة تأملات بوذية قاسية .. ثم يتعرّف على أولئك المؤمنين بفكرة تناسخ الأرواح والحيوات السابقة، ويخضع لها شخصياً عند أحد المختصين النفسيين ويتعرّف على نفسه في انحدارات حيواته الماضية .. وهناك مقابلات أخرى مع بعض مرضى الفصام وأطبائهم المعالجين المصرّين على استخدام طرق علاج تقليدية، بينما تؤكد الأدلة تعرّضهم لأحداث صادمة في حياتهم .. وتلك الأعراض الجلدية المزعجة لمرض (مورغيلونس) والمرضى المصابين بطفيليات الألياف، والذين رفض أطبائهم الاعتراف به كمرض عضوي، وحصره فقط في أذهان من يعتقدون إصابتهم به .. وتلك الجولات مع مجموعة المتعاطفين مع النازيين والمقابلات التي تناولت حقيقة الهولوكوست مع أبرز منكريها (ديفيد إيرفينغ)، والذي لم يكن يعتبر هتلر قائداً سيئاً على الإطلاق، والرفض الذي تلقّاه من قبل بعض المؤرخين، وتعرّضه للسجن وكتبه للحظر، ما جعله كبطل مضطهد وجعل من معارضيه أبطالاً آخرين .. هنالك الصراع الذي دار بين (روبرت شيلدريك) العالم البارز في الظواهر النفسية، وبين (جيمس راندي) الذي نصب نفسه متشككاً، واتهام الأول للثاني بالكذب ومن ثم شن حرب أيديولوجية ضيقة الأفق ضد أولئك الباحثين في الظواهر النفسية ككل .. وهنالك مقابلة مع امرأة تم تشخيص إصابتها بالسرطان في مراحله المتقدمة، والتي استعانت بدورها بما يُسمى (المعالجة التجانسية) واستعادت صحتها، ما يفتح المجال للحديث عن تأثير الدواء الوهمي في التعافي .. بمجرد الاعتقاد بالتعافي وتحدي أصول المنطقية والواقعية!
يتخذ المؤلف طرقاً منهجية للتوصل إلى حقيقة مفادها أن عدم اليقين قائم لا محالة في جميع المساعي البشرية الحثيثة الرامية إلى إثبات الحقيقة، والتي -رغم ذلك- لا تمنع من أن تكون المساعي خاطئة في نهاية المطاف! والمؤلف وهو يستدلّ بالكثير من الأمثلة، يتبيّن كيف للتفكير البشري أن يتفاعل بطرق لا تعد ولا تحصى، من أجل جعل كل فرد (مؤمن حقيقي) أو (مشكك حقيقي) على حد سواء، خاطئ في نظر الآخر! لذا، يجتهد المؤلف أيما اجتهاد في بحث (الاعتقاد) علمياً وفلسفياً، وهو يثير التساؤلات الوجودية حول الأسباب التي تجعل الناس يؤمنون بما يؤمنون به، وعن الكيفية التي يتوصل بها كل فرد لتبني معتقدات قابلة للتزوير بشكل واضح، رافضاً ما عداه من آراء شاذة قد يحق لها أن تؤخذ بعين الاعتبار! يدافع المؤلف عن هذه الفكرة من خلال الاستشهاد بالعديد من الدراسات العلمية، التي تؤكد أن الطبيعة البشرية تبدأ بتشكيل معتقداتها الأساسية مع مرحلتي الطفولة والمراهقة، بحيث يتم ترسيخ تلك المعتقدات بشكل كامل عند مرحلة البلوغ المبكر، حتى مع بلوغ سن الثلاثين، يصبح لدى كل فرد اعتقاد راسخ بامتلاكه كل الآراء الصحيحة التي استثمرها في الحياة، فيقابل أي محاولة لعرض معلومات مناقضة بدرع دفاعي يمدّه عداء حقيقي، فكري وعصبي. ولا عجب! إذ بعد أن يشكّل الدماغ نموذجاً للواقع يؤمن به إيماناً قاطعاً، فإنه يعمد بالضرورة إلى رفض أي دليل لا يتمكّن من استيعابه! فيكشف المؤلف موقف الفرد حين يتعرض لفكرة جديدة لا تتفق ومعتقداته، فينبري لتحديد صدق الفكرة من عدمها ضمن إطاره النموذجي .. غير أن هذه الغربلة الفكرية تحدث عادة تحت مستوى التفكير الواعي، والتي تأتي بمزيج متقن من التبريرات للعقل الباطن الذي حدد واختار .. وهو في حقيقته مجرد وهم! تكمن الخطورة في أن وهم الوعي هذا على درجة من الكمال إلى درجة يتيقن فيها الفرد بتشكّل معتقداته وفق ما قدمه عقله من تبريرات، غير أنها في حقيقتها اعتباطية تتخفّى تحتها أسباب لا واعية للقبول أو للرفض. قد تلعب العاطفة دوراً مهماً مع ذلك الجزء من الدماغ حين يتعامل مع عملية التفكير عبر الحالات العاطفية، فيصوّر الفرد لنفسه اعتقاده بأن أسبابه ومبرراته كلها مدروسة وعقلانية.
يخلص المؤلف الحصيف في بحثه إلى تلك الخاصية الإنسانية التي تجعل من كل فرد ينظر إلى الحياة من منظور البطل أمام جمهرة من الأشرار، في الوقت الذي وصف فيه نفسه بالأكثر ريبة، متبرئاً لها من إضفاء أي مكانة إلهية، وقد أخذ ينظر من فوق كتفيه ليتحقق مرات ومرات من آرائه عن كل شيء في الحياة، ما مكّنه من الانفتاح على الآخرين -الهراطقة محل البحث- المختلفين عنه، دون أن يصوّر نفسه بطلاً في مواجهتهم، وبموضوعية للوصول إلى شيء مما يجعلهم مختلفين. لذا، يستشهد قبل البدء بمقولة لعالم النفس الأمريكي الرائد “ربما تكون الذات هي أكثر الأعمال الفنية إثارة للإعجاب التي ننتجها على الإطلاق”.
يعرض الكتاب الذي عبّر عنوانه الفرعي عن (رحلات جريئة مع أعداء العلم) خمسة عشر موضوعاً، مع خاتمة عن (صانع البطل) وملاحظات مع كلمات الشكر والتقدير .. وقد جاء عن ترجمة محترفة من نصه الأصلي (Heretics: Adventures With The Enemies Of Science – By: Will Storr) والتي عني بها المترجم والقاص والشاعر الليبي مأمون الزائدي. والموضوعات هي:
يهدي المؤلف كتابه الفكري إلى رفيقته (فرح .. لإنهائها الجنون)، وقد تطلّب لي جرعة زائدة من الجلوكوز جرّاء إصابة عقلي بالإرهاق بعد إتمامه! ومنه، أستقطع ما علق في ذهني لأدونه في الأسطر القادمة، وباقتباس في نص ثقيل (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) .. وقد استقطع بدوره ثلاث نجمات من رصيد أنجمي الخماسي:
وكما يصف ابراهام لنكولن صديقه المفضّل قائلاً: «صديقي المفضل هو الشخص الذي يقدم لي كتاباً لم أقرأه بعد»، وكما أعتبر أي كتاب لا يهدي لآخر هو كتاب أبتر، فقد كان هذا الكتاب سخي في عرضه لمجموعة ثرية من الكتب التي سأسعى في تحصيل بعضها. وأذكر منها: الاختطاف – تأليف: جون ماك / اليوغا: في تظافر مع العلم الحديث – تأليف: سوامي رامدف / أثر إبليس – تأليف: فيليب زيمباردو / الدماغ والثقافة – تأليف: بروس ويكسلر / رحلة عقل – تأليف: جيف وارن / المتخفي – تأليف: ديفيد إيغلمان / تكوين العقل – تأليف: كريس فريث/ ذوات متغيرة – تأليف: تود فاينبرغ / مراقبة الإنجليز – تأليف: كيت فوكس / الأخطاء تحدث لكن ليس بسببي – تأليف: كارول تافريس و إليوت أرونسون / كيف نعرف ما ليس كذلك – تأليف: توماس جيلوفييتش / الدماغ السياسي – تأليف: درو ويستن / العلوم السيئة – تأليف: بن غولداكر / دليل المتشكك إلى الكون – تأليف: ستيفن نوفيلا / تطبيب العقل – تأليف: ريتشارد بنتال / لا يوجد طفل غير قابل للتعلم – تأليف: سيناسون ستانلي
ختاماً، يبقى كل ما نعرفه في أصله مجرد نبضات .. نبضات كهربائية تعكسها حواس، تتحد لتبدع تخميناً على أفضل تقدير، لكنه في حقيقته قد يكون مشوهاً للواقع! لذا، يدعو المؤلف للاحتفال متى ما حلّ الجنون، حيث متى ما تم إعلان (الفكر الحر)، أصيبت محركات الاعتقاد بالخيانة .. ثم يضع الحل الوسط: “اللامركزية .. هي هديتنا لبعضنا البعض! إنها من ثروات جنسنا البشري. أن تكون مخطئاً ليس خطيئة، والخطأ هو حق من حقوق الإنسان”.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
نقلاً عن المفكرة: جاء تسلسل الكتاب (4) في قائمة لا تنتهي من الكتب التي خصصتها لعام 2024 والذي أرجو أن يكون استثنائياً بحق في جودة الكتب التي سأحظى بقراءتها فيه، وقد حصلت عليه من معرض للكتاب بإحدى المدن العربية عام 2023 ضمن (400) كتاب كانوا حصيلة مشترياتي من ذلك المعرض!
وعلى رفي (علم النفس) و (علم الاجتماع) في مكتبتي .. تصطف كتب عديدة، أذكر منها: (من أنت؟ من أنا؟ من هو؟) و (الألم النفسي والعضوي) – تأليف: د. عادل صادق / (التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور) – تأليف: د. مصطفى حجازي / (الأنا وجحيم الآخر: ديناميات العنف في المجتمعات المتشظية) – تأليف: ثامر عباس / (الشعبوية أو الخطر الداهم) – تأليف: حسن أوريد / (علم النفس المعرفي: بنية العقل وعملياته المعرفية) – تأليف: د. يوسف جلال/ (أنت البلاسيبو: العلاج الوهمي) – تأليف: جو دسبنزا / (السطحيون: ما تفعله شبكة الإنترنت بأدمغتنا) – تأليف: نيكولاس كار / (هلوسات) – تأليف: أوليفر ساكس / (الغوريلا الخفية: ماذا يمكننا أن نفعل حيال الأوهام اليومية؟) – تأليف: كريستوفر تشابريس / (المخ الأبله: ماذا يستطيع عقلك أن يفعل؟) – تأليف: دين برينت / (ربما عليك أن تكلم أحداً: معالج نفسي وحياتنا كما يكشفها) – تأليف: لوري غوتليب / (جينيالوجيا الأخلاق) – تأليف: فريدريك نيتشه / (شبكات التواصل الاجتماعي) – تأليف: روبير ريديكير / (أنثربولوجيا الحواس) – تأليف: دافيد لوبروطون / (كل المسوقين يكذبون) – تأليف: سيث جودين / (سيكولوجية العدوان: بحوث في ديناميكية العدوان لدى الفرد، الجماعة، الدولة) – تأليف: فرويد وآخرون / (هل نولد عنصريين؟ اضاءات جديدة من علم الأعصاب وعلم النفس الإيجابي) – تأليف: جيسون مارش وآخرون / (انفعالات النفس) – تأليف: رينه ديكارت / (فن الإغواء) – تأليف: روبرت غرين / (المتخفي: الحيوات السرية للدماغ) – تأليف: ديفيد إيجلمان / (تشريح التدميرية البشرية) – تأليف: أيريك فروم / (الحقيقة: لمحة مختصرة عن تاريخ الهراء) – تأليف: توم فيليبس / (الطوطم والتابو) – تأليف: سيغموند فرويد / (توتر الأعصاب: حرب على التعب) – تأليف: ولفرد نورثفيلد / (اشف نفسك ذاتياً: الأسباب النفسية للأمراض والطرق الميتافيزيقية لتجاوزها) – تأليف: لويزا خي / (التخاطر عن بعد والاستبصار: قوة العقل والإرادة) – تأليف: غاي ليون بليفير / (خمسون طريقة للقضاء على الاكتئاب من دون عقاقير) – تأليف: سارة روزينثال
من فعاليات الشهر: ومع الأمنيات التي حمّلتها العام الجديد مع انقضاء العام الفائت .. فلقد افتتحت في أول يوم قناة لطيفة على موقع يوتيوب، والتي سأخصصها لنشر مراجعات الكتب صوتياً.
ولا زلت أترقّب شحنة الكتب التي طلبتها من متجر نيل وفرات للكتب، والتي ستحمل لي أكثر من ستين كتاب. كم يبدو العام مثمراً بالخير مع تباشيره!.
تسلسل الكتاب على المدونة: 454
تاريخ النشر: يناير 12, 2024
عدد القراءات:154 قراءة
التعليقات