مراجعة صوتية .. كتاب / تاريخ القراءة
“التاريخ الحقيقي للقراءة هو في الواقع تاريخ كل قارئ مع القراءة”.
….. هكذا، ينتقل ألبرتو مانغويل -والطموح يملأ قلبه- من حكايته كقارئ، إلى القراءة كتاريخ عريق ارتبط به.
ومن الكتب وما هي عليه من القيمة الفكرية ما ترتقي بعقل القارئ وتجعله كمن قرأ مائة كتاب وهو في حقيقة أمره لم يقرأ منها سوى واحداً. هكذا أقول في حق هذا الكتاب رغم شائكية موضوعه وعمق تحليله، والذي إن دلّ، فعلى تفرّد الملكة الفكرية للمفكر البارز ادوارد سعيد (1935 : 2003) .. رحمه الله.
إنه كتاب بمثابة بحث موضوعي عن حركة (الاستشراق) التي اجتاحت الشرق مع بداية القرن الخامس عشر على أبعد تقدير وقبيل عصر التنوير الأوروبي، وهي الحركة التي ما برح الغرب ينحاز من خلالها ضد الشرق في آراء مسبقة مغرضة، تذّكيها النزعة العرقية والمطامع الاستعمارية في المقام الأول!. لم يكن هدف هذا التحايل الممنهج سوى فرض صورة نمطية شائهة عن الشرق تتناقلها الأجيال الغربية كحقيقة لا تقبل الجدال، وتمهّد للحركات الاستعمارية فيما بعد، إذ لم يألوا هؤلاء المستشرقين جهداً في نقل الصورة التي تعزز رقيّ الغرب المسيحي الحضاري مقابل تخلّف الشرق الإسلامي البدائي، تظهر في كتاباتهم التي زخرت بـ “نحن” مقابل “هم” .. “نحن” المستشرقين الأقوى الذين نكتب، و “هم” الشرقيين مادة الكتابة الذين لا يقدرون على تمثيل أنفسهم، ولا يقدّرون تاريخهم، ولا يستحقون ثرواتهم ولا يستطيعون صنع مستقبلهم .. تلك الصورة السلبية التي شابها العدوى، فطفق بعض العرب ينقدون (العقل العربي) كذلك في كتاباتهم!. على هذا، يتصدى المفكر العربي-الغربي لهذه الحركة في كتابه الأشهر (Orientalism: Western Conceptions of the Orient) الذي وضعه عام 1978، من خلال دراسة الاستشراق، نشأته وأسبابه ومراحل تطوره، ومن ثم الاستدلال بشواهد عديدة خلّفها أصحابها في دراساتهم الاستشراقية السابقة على فترات طويلة، بعضها جاء في قالب علمي مموه وبعضها جاء ضمنياً بين السطور. يأتي هذا التصدي بدافع التحليل المنهجي والحيادي، والذي يفضح بدوره الخطابات العامة والمهلهلة والساذجة والعدائية والتنميطية للاستشراق، ويطمس النظرة الغربية الفوقية-السطحية تجاه الثقافة الشرقية لاسيما العربية والإسلامية، ويدحض الأفكار الانحيازية لأولئك المستشرقين ككل، لما لها من تأثير قوي على الوعي الجمعي وعلى أصحاب القرار السياسي، ويدفع بدوره الشرقيين إلى تمثيل أنفسهم بأنفسهم في نهاية المطاف. بالإضافة إلى هذا، لابد من التأكيد على أن المفكر لم يأت بكتابه كدفاع عن الشرق أو عن الإسلام بقدر ما أتى متصدياً للهجمة الاستشراقية عليه، كما صرّح هو شخصياً في خواتيم كتابه.
على ذلك، ينقسم الكتاب إلى ثلاثة فصول رئيسية أذكرها تالياً، تندرج تحتها عدد من المواضيع ذات الصلة:
هنا يتحدث المفكر عن نشأة الاستشراق الذي لم يتعدَ بضعة كتب مخطوطة تتصور أولئك الذين يسكنون بعيداً على الشرق والجنوب من أوروبا، ثم التطور الذي لحق به لاسيما كما يصّوره كتاب (وصف مصر) الذي سجل فيه فريق العلماء التابع للحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون ما رأوه وما سمعوه -سلباً بطبيعة الحال- والذي أصبح فيما بعد بمثابة حقائق ثابتة مجرّدة. يتطور الاستشراق أكثر ليطال الإسلام كدين معاد للغرب وكنسخة مشوهة عن المسيحية، الأمر الذي يستحضر جحافل الحجاج نحو الشرق، إما كمبشرين أو مستعمرين. يتصدى الشرقيون بلا هوادة لتلك الجحافل في نضال ثوري مستميت، الأمر الذي لم يتوقعه المستشرقون والذي دعاهم إلى التمسك بالصورة النمطية الأولى التي صوروها عنهم، والتي ما برح الإعلام الغربي يتناقلها كجوهر ثابت للفرد الشرقي وهو يقبع في بيئة جغرافية لا يتغير بتغير الزمان والمكان.
أما هنا فيتحدث المفكر عن فقه اللغة الذي يتطرق فيه إلى اللغات السامية وتأثيرها على تحضر الإنسان، وقد اعتبرها المستشرقون غير ناضجة لاسيما فكرياً. تستمر جحافل الحجاج في هذه المرحلة الانطلاق نحو الشرق، لكن في صورة علماء وباحثين وأدباء ومفكرين، وعلى الرغم من اختلاف المنهج المتبع عن كل واحد منهم، فقد بقيت الصورة النمطية عن الشرق كما هي، بحيث يعمم كل استنتاج جزئي يتأتى من خلال ملاحظات شخصية في قالب شمولي.
وهنا، يستتبع القالب النمطي الذي شكّله الأجداد من المستشرقين ليكسو الطابع العام الحديث، بل في صورة أكثر قناعة من خلال ما تم التأسيس عليه من ثوابت علمية ودراسات أكاديمية.
يحظى الكتاب بثلاث نجمات من رصيد أنجمي الخماسي رغم يقيني باستحقاقه تقييماً أعلى، لكن ذلك يعود لاستيعابي غير التام له. عليه، أسرد في الأسطر القادمة ما علق في ذهني بعد القراءة، وباقتباس في نص دافئ يحمل من الشرق لذاعته (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) كما يلي:
تعرض شبكة المعلومات العالمية مواد مقروءة ومسموعة كثيرة للكتاب الذي حظي بسمعة عالمية كبرى وتُرجم للعديد من اللغات، أهمها حديث المفكر نفسه في لقاءاته المتلفزة، والحلقة الخاصة عنه في برنامجي المفضل (خارج النص) على قناة الجزيرة. لقد قرأت للمفكر كتاباً سابقاً بعنوان (خيانة المثقفين) والذي جاء كتجميع لمقالاته الأخيرة لاسيما تلك التي تتمحور حول القضية الفلسطينية والصراع العربي-الإسرائيلي.
كقارئة اعتبرني نهمة .. تُصبح (الكتب) التي أتوقع انضمامها إلى مكتبتي إحدى الفوائد التي أرتجيها من أي كتاب أقرأه. لم يخيّب هذا الكتاب ظني بالطبع، فقد جاد بالآتي: كتاب/ ترنيمة محمد وكتاب/ ديوان الغرب والشرق، لمؤلفهما: جوته – كتاب/ وداع المضيفة العربية وكتاب/ المستشرقون، لمؤلفهما: فيكتور هوجو – كتاب/ المنتخبات العربية، لمؤلفه: سلفستر دي ساسي – كتاب/ عبقرية الأديان، لمؤلفه: ادجار كينيه – كتاب/ الحج إلى المدينة ومكة، لمؤلفه: فرانسيس بيرتون – كتاب/ القانون المحمدي، لمؤلفه: ادوارد ساخاو – كتاب/ تغطية الإسلام، لمؤلفه: ادوارد سعيد – كتاب/ تاريخ كمبردج للإسلام.
ختاماً، إن هذا الكتاب بحق (رقم صعب) في أي قائمة معدّة للقراءة .. وقد يتطلّب القراءة مرات أخرى لترسيخ الحجة والغاية منه، وتبني رأيه الحيادي .. والإنساني.
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (10) في قائمة ضمت (57) كتاب قرأتهم عام 2021 تتضمن أربعة كتب لم أتم قراءتها و ثلاثة أعدت قراءتها، على الرغم من أن العدد الذي جعلته في موضع تحدٍ للعام كان أكثر بكثير، لكن حالت ظروف الحياة دون تحقيقه .. وهو آخر كتاب اقرؤه ضمن ستة في شهر يونيو، وقد حصلت عليه من متجر جملون الإلكتروني للكتب في يوليو من عام 2020، ضمن (50) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من تلك الشحنة.
ومن فعاليات الشهر: لا يوجد شيء محدد غير أنني استغرقت خلال الأشهر الماضية في عمل مكثف، فجاء هذا الشهر كمتنفس بعد الضيق المصاحب للتوقف عن القراءة.
تسلسل الكتاب على المدونة: 292
تاريخ النشر: يوليو 8, 2022
عدد القراءات:406 قراءة
التعليقات