رواياتى: مقالات وحوارات

جملون .. خيبة عربية أخرى

– – – – – – – – – – – –

7 يناير 2023

!!!

ما طارَ طَيرٌ فَاِرتَفَع … إِلّا كَما طارَ وَقَع

الشاعر العباسي/ أبو العتاهية

 

وبينما يُفيد بيت الشعر الذي قيل في العصر العباسي بمآل الأشياء إلى زوال محتّم كأحد قوانين الطبيعة وكسنة من سنن الكون السارية، يُفيد كذلك السقوط الحتمي لكل باطل تأسس عليه!

وبما أنني مع مرور الوقت أصبحت لا أملك شغفاً يُبقيني على قيد الحياة سوى القراءة، فقد كان يعنّ على خاطري متجر (جملون) الإلكتروني مع كل مرة أوشك فيها على شراء مجموعة من الكتب .. غير أنني مع بزوغ فجر هذا اليوم وجدت هذا الخاطر يلوح لي بشدّة، لا سيما عمّا أدى حقيقة إلى تداعي هذا الاسم في وقت قصير بعد صعوده في وقت قصير .. فلم أفاجئ حين وقعت عيناي على هذا التقرير الذي تم نشره بعنوان (جملون: قصة انهيار أكبر متجر كتب عربي) كأول ما ألمح على صفحات شبكة المعلومات في هذا الفجر .. والذي أترك عنه الرابط الآتي:

تقرير: جملون: قصة انهيار أكبر متجر كتب عربي

بصورة عامة، يتطرق التقرير إلى قصة انهيار المتجر بشكل تفصيلي مزوّداً بالكثير من الحقائق، والذي بدأ بمقارنة بين زبون حالي لم يستلم الكتب التي دفع عنها عشرات الدولارات ولم يستردّها في المقابل، في حين حظي زبون آخر في السابق بمجموعة كتب مجانية استلمها كهدية من المتجر!. وفي التقرير، يتحدد بداية الانهيار مع أوائل عام 2021 عندما سجّل عدد كبير من الزبائن ملاحظاتهم عن تدنيّ جودة الخدمة في توفير الكتب وصعوبة التواصل مع العاملين بالمتجر، حتى تصاعدت حدّة الشكوى خلال النصف الأول من عام 2022 حين أعلن المتجر عن خبر تصفيته خلال وقت قريب، الإعلان الذي لحقه اختفاء المتجر بشكل نهائي من على شبكة المعلومات مع حلول النصف الثاني من نفس العام.

يتفرّع التقرير في الحديث عن الفرصة الضائعة التي كانت ستجعل من جملون النسخة العربية عن أمازون .. الموقع العالمي للتجارة الإلكترونية، وتطلّعات المستثمرين مع المشروع الأردني الريادي الذي استهل أعماله بشراكة أخوية، وصفقات التمويل الخارجي وفرص الربح بعيدة الأمد، ووباء كورونا الجامح وإعادة هيكلة إدارة المتجر، واعتماد سياسة تخفيف التكلفة على الزبون مقابل تحمّل المتجر للنفقات مع بداية النشاط، ومن ثم تكبّد الخسائر شيئاً فشيئاً والتعثّر في سداد الالتزامات المالية وإيفاء طلبات العملاء وحقوق دور النشر في نهاية المطاف … التخطيط الاستثماري اللامدروس الذي أتى على جمل جملون بما حمل!.

أما عني! فيعزّ عليّ كثيراً أن أسجل تجربتي مع

متجر جملون التي لا أجدها تختلف عن تجارب معظم الزبائن الذين تعاملوا مع المتجر في السابق وقارنوا بين ما أمكن تسميته بـ (عهد جملون الذهبي) حيث خدمة توفير الكتب على أعلى مستوى من الجودة، من ناحية الطباعة والتكلفة  والسرعة والشحن والتواصل والذوق والمصداقية والمهنية ….، إلى النقيض مما ذُكر تماماً حيث السقوط الساحق! ففي ديسمبر من عام 2019، كنت قد استلمت أولى شحنة كتب عن طريق المتجر والتي تضمنت 35 كتاب .. تلتها ثاني شحنة استلمتها في شهر يوليو من عام 2020 أي بعد ستة أشهر فقط من الشحنة الأولى، وبعدد 50 كتاب في هذه المرة .. ومن بعدها الشحنة الثالثة التي طلبتها بعد مرور ستة أشهر أخرى، أي في ديسمبر من نفس العام وبعدد 85 كتاب .. أما رابع شحنة فقد استلمتها في فبراير من عام 2021 التي حملت 20 كتاب، ثم في يوليو من نفس العام وبنفس العدد من الكتب .. وقد كانت هذه الشحنة خاتمة علاقتي مع أكبر متجر عربي للكتب -كما كان يروّج له- والذي أصرّ على قطع شعرة معاوية بينه وبين زبائنه المخلصين!

ففي آخر طلبين، بدأت المماطلة غير المبررة من طرف العاملين بالمتجر مع كل رسالة كنت أستفسر فيها عن سبب تأخر الشحن، المماطلة التي كانت تصل بعد حين محمّلة بتبريرات تتعلق بظروف الوباء العالمي وما فرض من قيود وما تسبب بطبيعة الحال من إرباك لعمليات الشحن .. غير أن المماطلة قد تمادت إلى حدّ تجاهل الرسائل والاتصالات بل واستخدام أسلوب (الاستغفال) عن الشحنة التي استغرقت وقتاً ممدوداً بين رسائل تتساءل عن وقت استيفاءها يقابلها تحايل مقيت ومماطلة مزعجة ووعود كاذبة!

أكون أكثر حظاً من بعض الزبائن الذين لم ينالوا بلح الشام ولا عنب اليمن .. فلم يتمكنوا لا من الحصول على الكتب المطلوبة ولا من استرداد أموالهم التي دفعوها مقدّماً ثمناً عنها، حيث اضطررت إلى استخدام لغة عنيفة في آخر مراسلاتي مع العاملين، فضلاً عن تحذيرهم من نشر ما واجهته من سوء خدمة عبر وسائل التواصل الاجتماعي .. الأسلوب الوحيد الذي كان مع الأسف (الكي كآخر علاج) في سبيل استرجاع أموالي والخلاص من تجربة ثقيلة مع متجر تعس .. فلم أتواصل معهم بعد ذلك، بل وألغيت متابعة حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي.

ولا أعرف لماذا لا زلت أحتفظ بآخر تلك المراسلات التي تمت بيني وبينهم على أرشيف بريدي الإلكتروني، والتي جاءت مطوّلة! والتي وجدتها -عندما أعدت قراءة أجزاء منها أثناء إعدادي هذه التدوينة- قاسية حد الأسى.

رغم ما سبق، وكزبونة سابقة للمتجر العربي الذي ومض نجمه ومضة في سماء الكتب ثم خبا، أرجو أن يتمكّن أصحاب المتجر وبمبادرة جريئة من رجال الأعمال العرب، في تبني مشروع إحياء المتجر العربي، والاستفادة من تجربة التعثر السابقة ككبوة جواد عربي أصيل، سيقف وسينطلق في الميدان من جديد، حتى يصل -كما كان يرسم طموح جميع القرّاء والعملاء والمستثمرين- إلى مصاف المتاجر العالمية .. بل خير وأبقى!.

 

 

 

 المترجم في العمق

—————————————–

   1 ديسمبر 2022

مع أولى قطرات الغيث في أروقة مجتمع رديف المتّقد

والشكر موصول للمؤسس الفاضل والأعضاء الأعزاء

 همى الغيث

Hma-Algaith.Com

 

 

لا يخفى على إنسان الألفية الثالثة ما للترجمة، كنشاط حيوي مارسته البشرية منذ قرون بعيدة، من دور رائد في صناعة المجتمع الحضاري، علمياً واجتماعياً وثقافياً واقتصادياً وسياسياً وغيرها من أوجه النهضة الحديثة، غير أن المترجم -رغم دوره الفاعل- لا يظهر ضمن هذا الخضم سوى كجندي مجهول أبخسه القدر حقه، أو كشمعة احترقت لتُنير للغير المسير.

تراودني تلك المشاعر من الغُبن كلما قرأت كتاباً مترجماً -لا سيما وإن ماثلت جودة محتواه احترافية ترجمته- يحتل عنوانه نصيب الأسد فوق الغلاف الأول، متبوع باسم مؤلفه الذي لا يقل في البهرجة عن عنوانه، في حين تُذيّل حافته باسم المترجم وعلى استحياء، إن لم يُقذف على ظهره تكرّماً، فضلاً عن الحضور المغمور الذي يلفّه على شبكة المعلومات العالمية!.

تتبع هذه الخاطرة التي تعتمل في داخلي سلسلة من التساؤلات حول مدى روح الشغف الضاربة في أعماق المترجم، وأصل الحبور المصاحب له وهو يعمل في الظل، والمحرّك لنقله قول من لسان إلى لسان، والحافزية التي تُبقيه على قيد الترجمة! ليس الصدد بهذه التساؤلات هو تحديد صفات المترجم المعتمد كإتقان اللغة وسعة الاطلاع وأمانة النقل والخبرة العملية، أو التنظير في الأهداف العامة لمهنة الترجمة ككل، كالمساهمة الفعّالة في شبكة التواصل العالمي ودفع عجلة الاقتصاد وتعزيز السياحة المحلية وتغطية عجز التكنولوجيا المفتقرة للترجمة الدقيقة ….، وغيرها من مظاهر مثالية لا تعدو عن كونها حشو نظري مستهلك، فضلاً عن الدافع المادي الذي لا يُعد عامل تحفيزي في براعة المترجم على الإطلاق .. إنما تأتي هذه التساؤلات لتسبر غور المترجم وفي العمق عن شغف يمدّه بطاقة إبداعية.

فليكن أولاً (الفضول المعرفي)! إن النهم نحو تناول كل ما يستجد على البسيطة بالشك والتحري والبحث، فضلاً عن أنه سجية قد لا يولد بها جميع البشر، لهو الدينامو الذي يحرّك طاقة الفضول لدى المترجم إن توفرت لديه .. وهو إذ يستكشف خارطة ثقافية لا تشبه بيئته، يُصبح الجديد الذي تعلّمه كالكنز الذي يثري حصيلته المعرفية، وكالسر الذي يبوح به، وهذا ما يقود إلى (كونية الانتماء) ثانياً. إذ قد يحظى المترجم بمساحة ذهنية منفتحة تنعتق عن سجن التعصّب وتتجاوز الهويّات وتعبر الحدود الجغرافية، بحيث يُصبح الإنسان لديه ولا أحد سواه جوهر المعرفة الأول في الكون، وما يحدّه من حرية ووعي وخُلق وقيم ووجود وعالم فسيح .. الروح الكونية التي تُبلور الإنسانية في كيان واحد، فتقود بدورها إلى (التبادل الثقافي) ثالثاً. هنا، يضع المترجم بصمته على الطريق المؤدية للتواصل بين البشر على اختلاف ثقافاتهم. وفي سبيل استبدال التنافر الواقع الذي يعود منشأه للجهل بالآخر كعامل مؤثر، يسلّط المترجم الضوء على المشترك العام وعلى خصوصية البيئة وعلى فهم التنوع الذي يعمل بأجمعه على بناء نُظم معرفية جديدة بين الشعوب.

قد يكون للمترجم علاوة على ما سلف من سيمياء عامة، رسالة خاصة لا تقلّ عنها في النُبل، كأن يمازج بين ثقافتين تعايشتا تاريخياً وطُبع كل منها في الحاضر بصبغة تُشبه صبغة الآخر، فيكون المترجم بهذا رسولاً .. أو كأن يتصدّى بما أوتي من معرفة عن ثقافة وأخرى، للحملات الدعائية المغرضة التي تُعرف عالمياً بالـ (بروباغندا) تستهدف فيها أحدهما الأخرى، لا سيما في صراع القوي مع الضعيف، فيكون المترجم بهذا مناضلاً .. كذلك، كأن يتبنى ظاهرة أخلاقية مسكوت عنها في مجتمعات تكتسي بالمحافظة ويحيط بها تابوهات من عقائد وأعراف، فينقل لها تجارب مجتمعات مغايرة نزعت ذلك الكساء الرثّ وحطّمت أغلال تلك التابوهات الصدئة، وتصدت على الملأ للظاهرة، فسنّت القوانين ووضعت الأنظمة وفرضت الحلول .. فيكون المترجم بهذا مصلحاً.

بهذا، قد يكون أدنى حق مكفول لمترجم أي كتاب هو تخصيص مساحة للتعريف به شخصياً، إما على غلاف الكتاب الأخير أو في خاتمته .. وذلك كأضعف الإيمان، إلا أن حقّه الكامل يتمثّل في تخصيص صفحات له من أجل كتابة مقدمة تتعلق بمحتوى الكتاب الذي عني بترجمته، ومجهوده فيه، والأسباب التي دعته لاختياره أو للموافقة على ترجمته. كذلك، لا بد من توفير فرص للتواصل مع المترجم مباشرة لا عن طريق دار النشر، فلا ينبغي له أن يكون أجيراً ولا لمهنته أن تكون مجرد (أكل عيش) .. وتبعاً لدوره الوسيط الفاعل في تناقل وتبادل الثقافات العالمية، لا بد وأن يكون حاضراً على منصات التواصل الاجتماعي كعضو مؤثر في المجتمع يُحتذى به، وكنموذج مضاد لما تموج به بعض مواقع تلك المنصات من محتويات هابطة وبضائع كاسدة لصنّاعها الخائبين.

على مستوى شخصي، يبدو لي المترجم مشيج من أمزجة! فتارة هو مطبوع على الكرم فيُنفق مما أوتي من علم على من لا علم لديه .. أو هو ربما لا يكتم سراً فتراه يُحدّث بما علم كيفما جاء حسناً أو سيئاً .. أو أنه سبّاق يطمح للريادة في نقل كل ما هو جديد .. ماذا لو كان مجرد موظف؟ وماذا لو كان محب للمعشر مهذاراً؟ فليكن .. ففي كل الأحوال، أراه قد صاحب الكتاب، يعلوه وهو منغمس فيه .. سمت المفكّرين.

وفي الختام أقول: تأتي هذه التدوينة الأولى التي خصصتها لـ (إبداع المترجم) كُرمى للسيد/ يونس بن عمارة، على فرصة التعارف الكريم وإتاحة المجال للتواصل البنّاء .. مع خالص الشكر.

همى الغيث

 

…………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………

سوف يكون الاشتراك في مجتمع رديف تجربة ثرية، بين جودة المواد وتنوع الخدمات وأعضاء فاعلين وقائد يتبنى كل طموح

الرابط: اشتراكات مجتمع رديف

 …………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………

 

بتصرف .. نقلاً عن رفيقة مقهورة

 

لا أعلم مدى مصداقية خبر الكنيف المذهّب

بأربع وعشرين قيراط

الذي يقال في حقه أنه جاء كهدية أمير لابنته الغضّة

 بمناسبة الزفاف

ضمن ما أهداها بطبيعة الحال

غير أني لم أكذّب عيني التي سطع على شبكيتها

انعكاس سطح رولكس حرّ

يسوّر معصم أجيرة

من بني الأصفر

تقبع في شموخ بمحاذاة مخدومتها الأميرة

والتي كانت تتواضع (مثلنا)

وتتنظر بدورها دورها عند طبيب الأمعاء المضطربة

ليت شعري إن مصارين علية القوم كأمعائنا

عوراء تتشنج في عصاب

ركنت -في استصغار- ما شغلني في قطع ملل الانتظار

ليصبح شغلي الشاغل الرولكس المحظوظ

لأحملق به مرات ومرات

تمحيصاً

وتفادياً لتأثيم الظن

حتى نودي بإسمي!.

نهضت وأنا أرفع شريط حقيبتي البربري

وقد ارتخى منذ أن أكل عليهما الدهر وشرب

أحملها وتحمل هي ذكرى هدية تخرجي السحيق

في كلية للعلوم

من جامعة تجاور السوربون

لأدخل وأخرج في عجالة .. لا أعرف كيف!!.

في الوقت الذي دفعني فضولي

لإلقاء النظرة الشرعية الأخيرة

ناحية ردهة الانتظار

وألمح الأميرة وهي لا تزال في محراب تواضعها تنتظر

نودي باسم معاليها

لتهرع ابنة الأصفر

وهي لا تزال في زيف شموخها

نحو سان لورانها تحمله

وقد مدت ذراعها المزدان

ليضرب بريقه من جديد شبكية عيني

فأعتدل وانطلق أدراجي نحو الصندوق

وقد ارتخى الشريط البربري من على كتفي مجدداً

فتركته يهوي كما شاء

وددت لو رأيت الأميرة المحجّلة في هالة تواضعها

تتواضع بحق

وتبعثر تلك الأثمان  

مما زاد عن نصيبها المفروض

إلى المشردين في الخيام

والطلبة المتأخرين تأخر سداد الأقساط

والأحياء الساكنين حي القبور

وبائعي المناديل والكستناء

وكانسي الطرقات

وفارشيها بالحصائر

تعلوها الخردوات

وأخوة

الفقر

والجوع

والمرض

والغبار

وأبدالهم في الشقاء

بدل المفردة الصفراء التي كفاها شرف القول المأثور:

“كلب الأمير .. أمير”

رحلت بعد أن دفعت أجرة حكيم الأمعاء القهرية

الذي ظنّ أن التوابل وحدها علّة الهيجان

ومع ذكرى عن تواضع مختلف

لا يمت (لتواضعنا) بشيء

 

الحر: … تلك هي مشكلتهم معي!

العبد: بل هي مشكلتك معهم، والحل في متناول يدك! كن ذكياً .. إنهم الأسياد، غير أن التحايل ينفع للتعايش

الحر: لا أتغافل  .. لا أجامل .. لا أنافق مثقال ذرة

العبد: كم أنت متخلف! ألم تستمع للعالم كولمان وهو يتحدث عن (الذكاء العاطفي)؟

الحر: تقصد (الاستحمار العاطفي)؟

العبد: سمّها ما تسمها، غير أن محصلة الذكاء أو الاستحمار (إن شئت) هو حصولك على مبتغاك!

الحر: تتحدث بالميكيافيلية؟

العبد: لا ضير! إن الغاية فعلاً تبرر الوسيلة

الحر: وما بال الكرامة؟

العبد: ماذا تقصد؟

الحر: عزة النفس؟

العبد: لم أفهم الأولى؟

الحر: الحرية؟

العبد: يبدو أنك تتحدث بلغة أعجمية!

الحر: إذاً لن تفهم قولي

العبد: إذاً انتهى الحوار

وَإِذا الجَبانُ نَهاكَ يَومَ كَريهَةٍ … خَوفًا عَلَيكَ مِنَ اِزدِحامِ الجَحفَلِ

فَاِعصِ مَقالَتَهُ وَلا تَحفِل بِه وَاِقدِم … وَاِختَر لِنَفسِكَ مَنزِلًا تَعلو بِهِ

سلفي: تأديب ربّاني

مؤمن: اختبار وتمحيص

فيلسوف: حكمة وعظة

معسّر: صبر مضاعف

مبشّر: معافاة

متفائل: خيرة

واقعي: تعقّل

قوي: تحدي

روحاني: كارما

تنموي: بداية وعي جديد

متصوّف: تسامح وسلام ذاتي

محلل: غربلة

بائع: تصفية وحصاد

مغدور: تمييز العدو من الصديق

جبان: قلق وخوف

متشائم: تباعد وغربة

مكتئب: فقد الأحبة

كسول: خمول وركود

خاسر: لا مال لا عمل

فقير: بؤس وفقر

ظلامي: تعاسة وحزن

اتكالي: فشل وأحلام مؤجلة

طبّاخ: طبق ببهار زائد

نباتي: ليمونة مرة

عطّار: نبتة صبّار

رسام: لوحة مخيفة لم يرسمها بيكاسو

موسيقار: معزوفة الشيطان

قارئ: صفحة منزوعة من كتاب

مجتهد: سحب ورقة امتحان مبكراً

طالب: سبورة من غير معلم

محاسب: مراجعة حسابات

طبيب: مرض وألم

عالم: تجارب علمية

متفلسف: تشريح روحي

مجبّر: تكسير وتجبير

طبيب أسنان: سوسة بين أسنان بيضاء

صيدلاني: دواء على الرف منتهي الصلاحية

كيميائي: معادلة كيميائية غير متكافئة

ممرض: درجة حرارة فوق الأربعين

جرّاح: ورم سرطاني

مخدّر: تخدير عام

مدمن: جرعة زائدة

حاقن: حقن ولقاحات

معالج: صدمة كهربائية

نفساني: وسواس قهري

روائي: قصة رعب

سينمائي: خيال علمي

راصد: دوامة إعصاريه

عرّاف: مفاجأة غير متوقعة

كثير: سياسة قذرة

 

ومن عوفي فليحمد الله

“فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا”

لكن القادم أجمل!

هنا مراجعات مطوّلة لكتب قرئتها .. راقت لي .. ونشرتها

…………………………………………………………………………………..

 

(1)

كتاب / التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور

مبحث في ملامح المقهور النفسية وألوان دفاعه

كتاب قد يُصنّف ضمن علم اجتماع الفضائح، والذي يعرّي ما يعتمل في باطن إنسان المجتمع النامي من غصص وقهر وكبت، وهو متوارٍ تحت أعراف وقوانين وشرائع دينية وألوان من قيود أخرى ما أنزل الله بها من سلطان. إنه الواقع لا محالة! فالمجتمعات الشرقية تعيش في استسلام شبه متناهٍ وهي ترزح تحت سطوة إقطاعية مستبدة تربّع على عرشها زمرة من طغاة تستفرد بالقضاء والقدر كآلهة شر، ويخضع الأفراد لجبروتها خانعين كأمة من المقهورين، قد أبلسوا من رحمتها، لا حول لهم في ذلك ولا قوة.

……. متابعة القراءة

 

(2)

كتاب / دموع الملح

قصة طبيب (إنسان) في المقام الأول 

سيرة ذاتية .. قد تُعرّف بصاحبها لا من خلاله، بل من خلال الآخرين الذين كرّس مسيرة حياته في خدمتهم بما استطاع، وفوق ما استطاع في بعض الأحيان!. هنا يتحدّث (بيترو بارتولو – 1956 Pietro Bartolo) .. طبيب من جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، والذي جعل منها نقطة تجمّع للاجئين الذين عقدوا الأمل على حياة خلف البحر فركبوه، حتى لَفَظَهم على شاطئه ولم يبتلعهم غدراً كما غدرت بهم أوطانهم وابتزّهم المهربون .. فتوّلى مهمة استقبالهم كما عكف منذ تأسيس عيادة الجزيرة عام 1991 كحالات طارئة، بغية إسعافهم فور وصولهم، حتى استحق وبجدارة لقب (طبيب المهاجرين).

……. متابعة القراءة

 

(3)

كتاب / حديث العصافير: مقالات حبيسة الأدراج تنفست الصعداء

مقالات في أروقة الأدب وأحوال القلوب ودروب الحياة

في هذا الكتاب القصير الذي ضمّنه الكاتب مجموعة مقالات تبعثرت في أدراج مكتبه المقفل حتى حين، يجده القارئ وقد تنقّل بين أروقة الأدب العربي وهو يسرح مع نسائم الحب المحلّقة بأصحابها، ويطرق في مسيره العذب هذا أبواب من الواقع المرّ لم يكن من مرّه بد! تتوقف تلك المقالات بين نبضات الكاتب، ليجود فيها من بعض خواطره، قد يجدها القارئ -وبشيء من العجب- تُشبه خواطره. يقول في ثنايا الكتاب: “لا تسألوا عقل الكاتب عن جفاف أفكاره، فما تقرؤونه ليست حروفاً ذات مدة صلاحية! هي أجزاء من قلبه قررت الذوبان، ولا زالت تسيل قطرة قطرة”.

……. متابعة القراءة

 

(4)

كتاب / الرحلة الداخلية

إبحار في أعماق النفس البشرية 

كتاب غزير مثقل بلآلئ الحكمة، يُبحر في أعماق النفس البشرية متخذاً الجسد مطية لمغامرة العوم تلك ورحلة التأمل الروحي. تسترسل الرحلة على هيئة أحاديث عفوية أدارها الحكيم الهندي أوشو مع مريديه، في إحدى مراكز التأمل الواقعة في مدينة (كوجرات) بالهند. إنه إذاً أوشو .. أو تشاندرا موهان جاين (1931 : 1990) الذي تنقل شبكة المعلومات العالمية عنه أنه ولد في الهند البريطانية ودرس الفلسفة ودرّسها في الجامعات المحلية، وتدرّج من ثم في العلوم الصوفية ليُصبح (غورو) أو معلم روحاني فاقت شهرته حدود وطنه، ليصل إلى العالمية ويُلقّب بـ (زوربا البوذي)، إشارة إلى توجهاته الانفتاحية رغم دعوته الروحية!

……. متابعة القراءة

 

(5)

كتاب / مذكراتي في سجن النساء

لكلمة الحق ضد الطغيان ثمن يُستوفى خلف القضبان 

لا تفاجئ د. نوال زينب السعداوي قرّائها كثيراً! ففي جرأة وصدق وبلاغة وبيّنة معتادة، ينقل قلمها الرشيق كرشاقة قامتها، في تدفق سلس متناغم، صور لأحداث عاصرتها لا تفارق مخيلتها، بين أنماط بشرية وحشرات زاحفة وطعام رديء وأجواء رمادية، ومشاعر اختلطت فيها الرهبة من المجهول والإصرار على المواجهة والحفاظ على روح متّقدة .. خلف القضبان! وكل ذلك كان بلا ادعاء، بلا تهمة، وبلا قاضٍ، استقطعت أوصالاً من شبابها آنذاك!

……. متابعة القراءة

 

(6)

كتاب / أديان العالم

الإيمان بالله وبتعدد كتبه ورسله .. مما قصّ علينا ومما لم يقصصّ

كتاب يُبحر بقارئه في رحلة روحانية متعمقة نحو أديان العالم الكبرى، ليكشف عن روح كل دين وجوهر الحكمة وراء فلسفته وطقوسه وتعاليمه، في لغة تخالف التقليد العلمي السائد القائم في الأساس على عرض كل دين في قالب أكاديمي صرف، بكتبه المقدسة ومعلميه ومعتنقيه ومذاهبه وتعاليمه الرئيسية ومدى انتشاره … الخ، والذي يكون في العادة معززاً بالبيانات والجداول والإحصائيات!

……. متابعة القراءة

 

(7)

كتاب / العرب: وجهة نظر يابانية

صورة العرب في مرآة يابانية 

كتاب على قدر وافٍ من الحيادية يدور محوره حول أمة العرب، سُطّر بقلب مستعرب ياباني أمضى ما يقارب الأربعين عاماً من عمره بين أبنائها وعشائرها، ويرى أن (عشرته) الطويلة تلك تعطيه نصيب من الحق في التحدث وبصدق عن قوم ألفهم وألفوه، كما كان يقول: “أنني أعطيت القضية العربية عمري كله، فمن حقي -ربما- أن أقول شيئاً”. لا يتحدث المستعرب نوبوأكي نوتوهارا (1940) في مقدمة كتابه عن نفسه كثيراً، فيكتفي بعرض مسيرته مع اللغة العربية، والتي ابتدأها عام 1961 حين افتتحت جامعة طوكيو للدراسات الأجنبية قسماً للدراسات العربية فيها، فالتحق به وتخرج بعد أربع سنوات.

……. متابعة القراءة

 

(8)

كتاب / المخ ذكر أم أنثى؟

عقل الذكر وعقل الأنثى .. لا امتياز لأحدهما على الآخر

كتاب غزير علماً وفكراً وإيماناً، يسلّط الضوء على الكثير من الحقائق العلمية التي تكشف عظمة الخالق في إبداع خلق الزوجين الذكر والأنثى، ويُنهي ذلك الجدل البيزنطي السمج حول امتياز أحدهما على الآخر. رغم هذا، وعلى نفس الوتيرة العلمية والموضوعية، يبشّر الكتاب بمستقبل أنثوي واعد حين استفاض في إنصاف الأنثى على طول صفحاته، من خلال التأكيد على ما تتميز به من استعدادات فطرية، وملكات أخلاقية، ومنظومة سلوكية، تنمو جميعاً بنموها في مختلف مراحلها العمرية.

……. متابعة القراءة

 

(9)

كتاب / تدمر شاهد ومشهود: مذكرات معتقل في سجون الأسد

صنوف تعذيب وحشية لوحوش بشرية 

يقضي محمد سليم حماد -الطالب الأردني في كلية الهندسة بجامعة دمشق- عقد من الزمان خلف قضبان سجن تدمر، بعد أن يتم اعتقاله في اليوم الثامن من شهر أكتوبر لعام 1980 وهو على باب كليته، فتعصب عينيه وتوثّق يديه قبل أن يتمكن من التقاط أنفاسه! يأتي هذا الاعتقال إثر شبهة أحاطت به ليصبح (شاهداً) وآلاف السجناء على دموية السجن والسجانين، ويُصبح كل عمل وحشي جرى على مرأى أعينهم (مشهوداً)، يضاف إلى قرائن الإدانة!.

……. متابعة القراءة

 

(10)

كتاب / الألم النفسي والعضوي

إن هنالك أبعاداً وجدانية للآلام الجسدية 

هل يمكن للألم العضوي أن يُستثار فيتضاعف، أو يُهمل فيخبت؟ إن هذا التفاعل المتناقض ليس سوى انفعالاً وجدانياً مصدره (العقل) وحده، يصبّ في حقيقة (الألم) كمعنى، أو بالأحرى معنىً خاص يتشكّل بصورة أو بأخرى لدى كل إنسان على حدة، حسب الشخصية أو الموقف أو التوقيت أو الاستعداد …، وحسب عوامل أخرى في قائمة لا تنتهي! من خلال هذا المعنى، يعرض المؤلف رأيه العلمي في لغة عذبة مستخدماً أسلوب السهل الممتنع رغم مادة الكتاب العلمية، والتي تفرض على القارئ في نهاية المطاف قدر عالٍ من التصالح النفسي والسلام الداخلي. غير أن الكتاب لا يصلح للقارئ “الموسوس” الذي قد تلحق به علّة ما من حيث لا يحتسب، تعود لهواجسه وحسب، والتي من شأنها أن تحيل كل مرض عضوي لسبب نفسي، ظاهر أو خفي!.

……. متابعة القراءة

 

(11)

كتاب / الأندلس: بحثاً عن الهوية الغائبة

العودة إلى أندلس الماضي .. للتبصّر، ولاستشراف مستقبل أكثر تعايشاً

كتاب يلّفه الإبهار .. وهو يجمع في شمولية بين التاريخ والدين والحضارة والسياسة والقانون، قد عمد فيه الكاتب جاهداً إلى سبر أغوار ماضي وطنه الإسباني الذي ترعرع في ظل الخلافة الإسلامية، الماضي الذي يقوده مستبصراً نحو تسليط الضوء على الحاضر بتحدياته المحلية والدولية، ومن ثم استشراف المستقبل في رؤية أكثر تعايشاً. ومما يرفع من قيمة الإبهار، التمجيد الذي حظيت به الحضارة الإسلامية في الأندلس بقلم الكاتب غير المسلم، وهو يدين لها بالفضل الكبير لما هي عليه إسبانيا الحالية، وهو الأمر الذي أضفى على الكتاب روح المصداقية والحيادية والإنصاف. ومما يمعن في هذه الروح التوقيت الذي وضع فيه الكاتب كتابه هذا، حين كان الإسلام يواجه هجمات مغرضة في دعاوى إرهاب وتخلّف، حيث تصدى لها منكراً، بل وموضحاً وجهة النظر الأخرى.

……. متابعة القراءة

 

(12)

كتاب / النباهة والاستحمار

في الفكر الحر وعورة الفكر الرجعي

كتاب وجيز في طرحه، عميق في مضمونه، مثير للجدل عند مناقشته، وقاتل عند محاولة تطبيق ما جاء به! قد يكون مدعاة للعجب أن يسبق د. علي شريعتي (1933 : 1977) أوانه وزمانه، لا سيما في وقت طغى على الشرق الإسلامي ثقافة الجهل المقدس أو كما وصمه هذا النابغة بـ (الاستحمار)، فكان كمن يسبح عكس التيار حينها .. غير أنه ليس من دواعي العجب على الإطلاق أن يتم اغتياله غدراً، وإن يتم تغليف الحادثة بموت مفاجئ ناجم عن أسباب صحية، فذلك من لوازم ثقافة (الاستحمار) السائدة آنذاك، والتي لا تزال حاضرة حتى اليوم في العديد من الأوجه!.

……. متابعة القراءة

 

(13)

كتاب / لا سكوت بعد اليوم: مواجهة الصور المزيفة عن الإسلام في أميركا

دفاع صادق عن الإسلام بقلم سياسي أمريكي

في تحليل موضوعي حول الصورة النمطية الشائعة عن الإسلام والمسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية، وكمحاولة جريئة للتصدي للزيف الممنهج حولهما، في أمريكا وفي العالم أجمع، يقدّم السياسي المحنك (بول فندلي2019 : 1921 Paul Findley) العضو في الكونجرس الأمريكي، عصارة خبرته في حيادية، ومن خلال معايشة واقعية لأفراد مسلمين وغير مسلمين داخل المجتمع الأمريكي وخارجه!.

……. متابعة القراءة

 

(14)

كتاب / شارع الرشيد

شارع الرشيد وأجواء عبقة بذكريات الماضي

كتاب توثيقي يحتضن بدفء ذكريات من التراث العراقي، والذي يُعد (شارع الرشيد) خير شاهد على ما تكتنزه تلك الذكريات الحميمة من حضارة ومعمار وحِرف وأحياء وأزقة وأحداث وأسماء وأعلام، ترسم الثقافة العراقية ماضياً وحاضراً في أبسط صورها وأعرقها على الإطلاق!.

……. متابعة القراءة

 

(15)

كتاب / دفاتر فلسطينية

سنابل قمح ترويها دماء فلسطينية

لأنها دفاتر تخص شاب فلسطيني خطّ نصوصها خلف القضبان، فهي توحي للوهلة الأولى أنها تصف نضال أودع على إثره أحد سجون الاحتلال، إلا أنها مع نضاله تسجلّ موقفه كمعتنق للشيوعية، حين اعتقلته السلطات المصرية في سجونها على أعقاب مظاهرات منتصف القرن الماضي!.

……. متابعة القراءة

 

(16)

كتاب / خيانة المثقفين: النصوص الأخيرة

الكلمة الأخيرة لمفكّر فلسطيني حر

كتاب يجمع بين دفتيه مقالات المفكّر الفلسطيني الأخيرة، والتي تركّزت بشكل أخص حول القضية الفلسطينية والصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، إضافة إلى قضايا عامة تخص الشأن العربي والإسلامي، وينتهي برسائل الود والتقدير التي كُتبت بأقلام أعلام المثقفين في رثائه، بعد وفاته بسرطان الدم رحمه الله!. 

……… متابعة القراءة

 

(17)

كتاب / العبودية المختارة

الحرية كفطرة في مواجهة آلة الاستعباد البشري

كتاب قصير في سرده عميق في مضمونه، يترجم الكثير مما تحمله مقولة (كما تكونوا يولّى عليكم) من مسئولية الإنسان في صنع أقداره! إنها حقيقة موجعة لا مفر من نكرانها، فمن سوى البشر يصنع الطغاة ومن ثم يستمرئ العبودية، حتى يُخيّل لبعضهم أنها (شرف) يُراق على جوانبها الدم؟ إن الحرية حق والعبودية اختيار، وبينهما تتجلى معادن البشر.. إما في ثورة كرامة أو في خنوع مستلذ!. 

……… متابعة القراءة

 

(18)

كتاب / أنثى الكتب

وكل ما في الأنثى أخّاذ .. حتى شجونها

في نصوص مهموسة أشبه بمقطوعة موسيقية، جادت قريحة شهرزاد بما يخاطب قلب قارئتها الأشبه في مكنونه بقلبها، في لحن تتوارد فيه المشاعر والعواطف والخواطر والأشجان والذكريات بتناغم ساحر بينها .. فتارة تعيدها إلى زمن مضى، وتارة تجنح بخيالها إلى أرض لم تطئها، وتارة تباغتها بأحلامها الموؤدة، وتارة تهوي بها إلى قعر أحزانها الدفينة، وتارة تفاجئها بقراءتها هي بذاتها وهتك سرها .. وتارة توقظها على واقعها فتراها تتلفّت حولها وتلك النصوص بين يديها!. 

……… متابعة القراءة

 

(19)

كتاب / ولدت هناك ولدت هنا

فلسطين في سيرة أديب .. لا في رواية تاريخية

لا يترك الأديب الفلسطيني أرضه ليروي تاريخها الملوك والضبّاط والأحداث الكبار، فلا يلبث أن يُركن على الرف ويُهجر ويعلوه الغبار ويمضي طي النسيان، إنما يصرّ على رواية التاريخ كما ينبغي له أن يُروى.. تاريخ أبناء الأرض فرداً فرداً، وسيرة الوقائع والحواس والأجساد، التي قد تبدو لكل غشيم -حسب تعبيره- رواية مفككة، تافهة المعنى والمضمون، بل يؤكد أنه تاريخ حكاياتهم الصغيرة التي تحتضن الأعين والخيالات والأرواح، وهو يقول في إصرار: “سنروي الرواية كما يجب أن تروى.. سنروي تاريخنا الشخصي فرداً فرداً”. 

……… متابعة القراءة

 

 

(20)

رواية / عفة القلب: مريم العذراء

العذراء والمسيح في تجليات صوفية

تستلهم الروائية من قصة السيدة مريم ابنة عمران -أم المسيح عليهما السلام- ما لم يخطر على قلب بشر، في تصوير الجمال والجلال وفناء القلب حيّاً في ملكوت الله، وهي تستشعر ما كان يخطر على الفؤاد من لطائف، وكيف كان سحرها يعمل عمله على الجوارح، والألم الذي تكبّده كل من اختُص بتلك النفحات الإلهية.. اصفياء الله وخلصائه، وهم في مواجهة قومهم الذين لا يعلمون. وكل ذلك في لغة عذبة قلّما يستنطقها لسان بشر، ما لم يترقَ في نور المسالك الربانية، كما فعلت الروائية وكما حباها الله من بركة فتحه ولدن علمه. 

……… متابعة القراءة

 

(21)

كتاب / الطب السردي والعلاج السردي بالعربية

عندما يتحدث الطب بلغة الأدب

في هذا الكتاب الفريد من نوعه في المكتبة العربية، يكتسي الطب حلّة وجدانية في ارتياده على نحو مثير للانتباه أروقة الأدب، بفروعه الإنسانية المتشابكة في اللغة والشعر والنفس والرواية والاجتماع، ليظهر الطب فيها منسجماً وهو يضفي بعداً إنسانياً في علاقة الاستشفاء بين الطبيب ومريضه! ومع استحداث فرع (الطب السردي) في الجامعات الغربية كتخصص أكاديمي، أصبح لزاماً استحداث مثيله في الجامعات العربية بما يتفق وهويته الثقافية. لذا، يجتهد مؤلف الكتاب في طرح مفهوم (الطب السردي) من خلال بحث موضوعي يستعين فيه بالمراجع العربية في الطب والأدب، بغية محاكاة التوجه العالمي الحديث. 

……… متابعة القراءة

 

(22)

كتاب / بغداد: ملامح مدينة في ذاكرة الستينات

بغداد في ذاكرة عاشق مغترب

كتاب يعبق بذكريات وأطياف ومشاعر دافئة، بثّها الكاتب وهو يسترجع من ذاكرته ملامح مدينة بغداد في ستينيات القرن الماضي، حينما كان يومها طفلاً يلهو بين طرقاتها، ويستشعر بساطة الحي وألفة الجيران ودفء البيوت ولفح الأجواء وعراقة التاريخ، وهو يتطرّق إلى تفاصيل الحياة في المدينة العتيقة التي كانت آسرة بالمباني والعمارات والأنصبة التي صممها مهندسون أجانب إلى جانب مهندسين عراقيين آنذاك.. وهي المدينة التي جمعت التناقض على الناصيتين! فبينما تمسّكت هنا بالقيم المحافظة وفضائل الأخلاق، وحافظت على تأدية طقوس العبادات وإقامة شعائر الدين في المساجد والحسينيات، لاحت من هناك مباني السينما ودور الكتب والمقاهي الشعبية التي كانت تحتفي بحوارات المثقفين فيما بينهم، وترصد كذلك تسكّع من لا عمل لهم، في الوقت الذي اصطفت فيه على الناحية الأخرى بارات الخمور ومراقص السهرات وبيوت الدعارة، لا سيما في الطرق الجانبية أو الخلفية للمدينة. 

……… متابعة القراءة

 

(23)

كتاب / التقمص: أحاديث مع متقمصين

سرمدية الروح في حيوات لامتناهية

التقمص هو مصطلح يعني لغوياً (ارتداء القميص)، وفلسفياً يعني (تناسخ الأرواح)، وعقائدياً يعني (خلود الروح بعد فناء الجسد)، أما علمياً فقد عنيّ المؤلف بما أوتي من علم وخبرة وتجربة لإثبات يقينه الراسخ بفكرة الحياة بعد الموت. لذا، يأتي كتابه فريداً من نوعه وهو يتناول بإسهاب حقيقة انتقال الروح من جسد إلى آخر في تعاقب مستمر ومن خلال حيوات متتالية، وهو موضوع أزلي قد شغل فكر الفلاسفة وعلماء النفس ورجال الدين منذ القدم، ابتداءً من حكماء اليونان في فترة ما قبل الميلاد، وحتى الأديان الشرقية كالبوذية والهندوسية والطاوية. 

……… متابعة القراءة

 

(24)

كتاب / سعيدة بكوني امرأة: دليل النساء لحياة ناجحة

التحفيز نحو استقلالية، وموضوعية، وحب للذات أكبر

هو كتاب عن المرأة وللمرأة.. تحريضي وتحفيزي، يهدف إلى خلق تلك الحالة الإدراكية اللازمة لكل امرأة وهي تمضي قدماً مع وتيرة القرن الحادي والعشرين المتلاحقة ضمن هدير ما يشهد من تغيرات لا تلبث أن تتقرر حتى تتغير.. الوعي اللازم لإحداث التغيير المطلوب في كيانها كإنسانة أولاً، ثم في دورها الرائد ككائن فاعل في المجتمع الإنساني. فهو كتاب جدير بشحذ همة كل امرأة واعدة تمضي نحو طريقها الرئيسي في الحياة، وبتجديد عزيمة كل امرأة قطعت شوطاً نحو ذاتها الحرة، باستقلالية وموضوعية واعتزاز بالنفس أصدق وأعمق وأحكم. 

……… متابعة القراءة

 

(25)

كتاب / زنزانة: عادة مدى الحياة

الإنسان وهو أسير عاداته .. عليه فك أغلالها

قد يخلق الإنسان من عاداته زنزانة يحصر نفسه بين زواياها المعتمة. وبينما يكون من العادات ما هو حسن محمود، يأتي بعضها كنتاج سطوة موروث ديني أو عرف اجتماعي لا أصل لهما، ترديه في قيد يأسره مدى الحياة، فيعيش كمن لا عاش حياة! تبدو العادة وكأنها جندي مجهول يسيّر الإنسان ضمن جملة أفكار وأفعال تشّكل من هو، رغم أنه قد يكون في سريرته على خلاف ما يُظهر. في هذا الكتاب، يشير الكاتب إلى تلك الأغلال بأصبع الاتهام، في محاولة جادة للتحريض على فكّها والاستمتاع بالحياة ضمن حدود شرعية وأخلاقية واجتماعية، بلا إفراط ولا تفريط، وهو لا ينسى أن يحرّض في نفس الوقت على التمسك بالعادات الحسنة، والإصرار على تحويلها من عادة إلى عبادة، إذ إن الإنسان حين ينتقي من (العادة) أحسنها ويستحضرها مع النية الخالصة، تصبح (عبادة)، فيضرب مثلاً في صلاة الخاشع قلبه ويقول: “أصبحت الصلاة عادته وسرور قلبه وقرة عينه لا يشعر بثقلها بل بمتعتها. حتى الخشوع يكون عادة بعد المجاهدة الطويلة”. 

……… متابعة القراءة

 

(26)

كتاب / أجمع الذكريات كي أموت

حالة السوداد أو السويداء في الشعر البرتغالي

البرتغال .. أرض الشعراء، كانت وما زالت! لم يكن الشاعر والأديب والفيلسوف فرناندو بيسوا (1888 : 1935) والمصنّف عالمياً ضمن أبرز الشخصيات الأدبية في القرن العشرين، أعظم شعراء البرتغال كما قد يتراءى للناظر من الخارج، وإن كان يملك الاسم الأكثر حضوراً على خارطة الشعر البرتغالي، إذ أن البرتغال “بلد شعري بامتياز”، والذي تحتل الدواوين الشعرية لأي دار نشر متوسطة فيه ما يعادل النصف من إصداراتها السنوية، وهي تُطبع عادة في حوالي ثلاثة آلاف نسخة تنفذ في غضون أسابيع معدودة من طرحها في المكتبات. 

……… متابعة القراءة

 

(27)

كتاب / الثقوب السوداء والأكوان الناشئة

عقل فيزيائي يسع الكون الفسيح

وإن جاء مبسّطاً، فهو كتاب يصعب قليلاً أو كثيراً على غير أهل الاختصاص! 

يضم كتاب (الثقوب السوداء والأكوان الناشئة) بين دفتيه مجموعة مقالات علمية تتطرق في مجملها إلى أصل الكون والمستقبل المحيط به، والثقوب السوداء المتناثرة في فضائه إلى جانب البيضاء منها ووقودهما النووي، وفيزياء الكم المعقّدة، ونظرية أينشتين النسبية، وإمكانية السفر عبر الزمن، وذلك الزمن المتخيل ……، وموضوعات أخرى تنتهي بالحديث عن الجبرية وعن خلق الله للكون والسؤال الملحق به بالضرورة: هل كل شيء محتمّ أم أن للإنسان الاختيار؟  

……… متابعة القراءة

 

(28)

كتاب / تاريخ القراءة

وإن للقراءة تاريخ عريق

كتاب عبقري يكتبه كاتب “موسوعي” في أدق تعبير.. و “متيّم” على أقصى سكرات العشق!

يصطحب هذا المغرم قارئه في رحلة سحرية عبر التاريخ.. لا بين الحدود ولا في معترك الحروب، بل في مدينة عجائب، جدرانها وأبوابها ومائها ونارها وأرضها وسمائها وإنسها وجنّها، مسبوكون من حبر وورق! يبدو وكأنه يحكي أسطورة تحكي عن فرسان يتجولون بين جبال من كتب، بعضها يُحشر في الجيب لصغره، وبعضها مجلدات يُحمل فوق ظهور الجمال، بعضها من البردي وآخر من الجلود، بعضها حيّاً حاضرا، وبعضها الآخر أثري يقرأ طلاسم عصور ما قبل التاريخ … وفيها جميعاً، يجد القارئ طيف من روحه.  

……… متابعة القراءة

 

(29)

كتاب / المرأة الأندلسية: مرآة حضارة شعّت لحظة وتشظّت

امرأة الأندلس .. أسوة وعبرة

يقول أبو البقاء الرندي في مرثية الأندلس، متسائلاً وجلاً: أعندكم نبأ من أهل أندلسٍ .. فقد سرى بحديثِ القومِ رُكبانُ؟

وإن في هذا الكتاب من نبأ أهل الأندلس ما يسر تارة وما يحزن تارة وما يثير العجب تارات أُخر، فهو يتحدث عن أندلس المرأة التي قلّما يتطرق لها الكتّاب أو تروي عنها الأدبيات، فضلاً عن المؤرخين! إنها المرأة العربية الجذور، الأندلسية الموطن والهوى.. الطبيبة والشاعرة والخاطّة والكاتبة والصانعة والماشطة والمعلمة والفقيهة، بل (وصاحبة نبوة) كما كان يتدارس رجال الأندلس عنها في مجالسهم، في دليل حي على رقي مكانتها آنذاك. غير أن هذا الوضع لم يكن يخلُ من شوائب تمس مكانتها كامرأة، دينياً واجتماعياً وأدبياً.. فقد كانت إضافة إلى ما سبق، جارية ومحظية ومغنية ونائحة وشاعرة متبجحة في لون من الشعر، أشبه بالإباحي.  

……… متابعة القراءة

 

(30)

عشرة كتب عن فلسطين

فلسطين في مكتبة ألف

لا يضاهي متعة التجول بين أروقة المكتبة أي متعة أخرى مهما استطابت، أو هكذا يظن كل قارئ على الأقل! ففي صباح أحد الأيام المشرقة منذ فترة ليست ببعيدة، وجدتني أقصد مكتبة تقع في مدينة الدوحة، شاهقة كحرف الألف تتصدر -كصدارته الأحرف- ما يحيط بها من فضاء رحب.. تُدعى (مكتبة ألف).

وعلى الرغم من أنني حين دخلتها للمرة الأولى في ذلك اليوم لأجل كتاب بعينه، فقد خرجت بحصيلة ثرية لم تكن في الحسبان! كم يطيب لي الحديث عن كل كتاب صار في حوزتي، لكنني آثرت الحديث عن عشرة منها فقط.. تتحدث بشوق عن فلسطين.  

……… متابعة القراءة

 

قراءة في كتاب

………………………………………………………………………………………

 

 (1)

كتاب / خزانة الكتب الجميلة

 

القراءة وأهلها .. وأحوال الكتّاب

إني لا أعلم شجرة أطول عمراً ولا أطيب ثمراً ولا أقرب مجتنى من كتاب“. لم يكن قول الأديب العربي الجاحظ مجرد إطناب، بل جاء يحاكي واقعاً عايشه بين كتب لازمها وأعلام أخذ العلم عنهم في زمانه. يأتي هذا الكتاب القصير يترجم شيئاً من ذاك المعنى، وهو يضم بين دفتيه مجموعة من المقالات تتناول بالبحث والتحليل عدد من الأدباء العالميين، فتعرض جانباً من سيرهم الذاتية بما فيها من أخبار .. عن أشهر مؤلفاتهم، عاداتهم اليومية، أساليبهم الأدبية، طقوس كتاباتهم، ظروف إبداعاتهم، الكتّاب الذين تأثّروا بهم، الكتّاب الذين أثّروا فيهم، الأثر الذي أحدثوه على الساحة الأدبية، النقد الذي لحق بإصداراتهم … وغيرها الكثير من أمور، إضافة إلى ما توصي به من كتب وروايات متنوعة تم تصنيفها ضمن الأعمال العالمية الخالدة. 

……… تتمة المقالة

 

 (2)

كتاب / قصة الطب ودور الطبيب: إظهار لجمال النفس وانتصار للحياة

 

ثنائية العلم والأخلاق في مهنة الطب

يولد الإنسان عادة وقد حباه الله بنعمة الصحة التي قد يُغبن فيها ما لم يوفِ حقها بالحمد وحسن الاستغلال! بيد أن قدر الإنسان يفرض مواجهة تحديات الحياة التي قد يوقف عجلتها المرض بما يخلّفه من آثار صحية ونفسية واجتماعية، تتطلب إحاطتها برعاية وحب ونبل يمنحها أبطال مهنة الطب ويتقبّلها المريض .. في تحدٍ يعيد للجسد عافيته وللنفس جمالها وللحياة الانتصار. يوجّه هذا الكتاب (قصة الطب ودور الطبيب: إظهار لجمال النفس وانتصار للحياة) حديثه في المقام الأول للمهنيين في المجال الطبي، وللإداريين كمساهمين فاعلين في تلك المنظومة، ويقدّم إهدائه “إلى المريض .. المعلم الأول للطبيب” .. والذي يدين له المؤلف بالفضل قائلاً: “لولاه ما تعلمنا”. 

……… تتمة المقالة

 

 (3)

كتاب / أديان العالم

 

الإيمان بالله وبتعدد كتبه ورسله .. مما قصّ علينا ومما لم يقصصّ

كتاب يُبحر بقارئه في رحلة روحانية متعمقة نحو أديان العالم الكبرى، ليكشف عن روح كل دين وجوهر الحكمة وراء تعاليمه، في لغة تخالف التقليد العلمي السائد القائم في الأساس على عرض كل دين في قالب أكاديمي صرف، بكتبه المقدسة ومعلميه ومعتنقيه ومذاهبه وتعاليمه الرئيسية ومدى انتشاره. 

……… تتمة المقالة

 

 (4)

كتاب / العرب: وجهة نظر يابانية

 

صورة العرب في مرآة يابانية

كتاب على قدر وافٍ من الحيادية يدور محوره حول أمة العرب، سُطّر بقلم مستعرب ياباني أمضى ما يقارب الأربعين عاماً من عمره بين أبنائها وعشائرها، ويرى أن (عشرته) الطويلة تلك تعطيه نصيب من الحق في التحدث وبصدق عن قوم ألفهم وألفوه، كما كان يقول: “أنني أعطيت القضية العربية عمري كله، فمن حقي -ربما- أن أقول شيئاً”. 

……… تتمة المقالة

 

 (5)

كتاب / دموع الملح

 

قصة طبيب (إنسان) .. طبيب المهاجرين

سيرة ذاتية تُعرّف بصاحبها .. لا من خلاله، بل من خلال الآخرين الذين كرّس مسيرة حياته في خدمتهم بما استطاع، وفوق ما استطاع في بعض الأحيان!. هنا يتحدّث (بيترو بارتولو) .. طبيب من جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، الذي جعل منها نقطة تجمّع للاجئين عقدوا الأمل على حياة خلف البحر فركبوه، حتى لَفَظَهم على شاطئه ولم يبتلعهم غدراً كما غدرت بهم أوطانهم وابتزّهم المهربون .. فتوّلى مهمة استقبالهم منذ تأسيس عيادة الجزيرة عام 1991 كحالات طارئة ينبغي إسعافهم فور وصولهم، حتى استحق وبجدارة لقب (طبيب المهاجرين).

……… تتمة المقالة

 

 (6)

كتاب / حديث العصافير: مقالات حبيسة الأدراج تنفست الصعداء

 

مقالات في أروقة الأدب وأحوال القلوب ودروب الحياة

في هذا الكتاب القصير الذي ضمّنه الكاتب مجموعة مقالات تبعثرت في أدراج مكتبه المقفل حتى حين، يجده القارئ وقد تنقّل بين أروقة الأدب العربي وهو يسرح مع نسائم الحب المحلّقة بأصحابها، ويطرق في مسيره العذب هذا أبواب من الواقع المرّ لم يكن من مرّه بد! تتوقف تلك المقالات بين نبضات الكاتب، ليجود فيها من بعض خواطره، قد يجدها القارئ -وبشيء من العجب- تُشبه خواطره. يقول في ثنايا الكتاب: “لا تسألوا عقل الكاتب عن جفاف أفكاره، فما تقرؤونه ليست حروفاً ذات مدة صلاحية! هي أجزاء من قلبه قررت الذوبان، ولا زالت تسيل قطرة قطرة”. 

……… تتمة المقالة

 

 (7)

كتاب / الأندلس: بحثاً عن الهوية الغائبة

 

العودة إلى أندلس الماضي .. للتبصّر، ولاستشراف مستقبل أكثر تعايشاً

كتاب يلّفه الإبهار .. وهو يجمع في شمولية بين التاريخ والدين والحضارة والسياسة والقانون، قد عمد فيه الكاتب نحو سبر ماضي وطنه الإسباني الذي ترعرع في ظل الخلافة الإسلامية، ليقوده مستبصراً إلى الحاضر بتحدياته المحلية والدولية، ومن ثم استشراف المستقبل في رؤية أكثر تعايشاً. ومما يعزز من قيمته، التمجيد الذي حظيت به الحضارة الإسلامية في الأندلس بقلم الكاتب غير المسلم، وهو يدين لها بالفضل الكبير لما هي عليه إسبانيا الحالية، الأمر الذي أضفى على الكتاب روح المصداقية والحيادية والإنصاف. 

……… تتمة المقالة: جزء (1)جزء (2)

 

(8)

كتاب / بضع جمل قصيرة عن الكتابة

 

(ما قل ودل) كمنهج نحو الكتابة الإبداعية

كتاب يعرض فيه كاتبه جملة من الخواطر تحيط بأجواء الكتابة، اعتمد فيها لغة فلسفية تسبر جوهر الكاتب، وفعل الكتابة، والكلمات، وما بين السطور! ففي استهلاله، يفترض أن كل ما تم التعارف عليه عن “كيفية عمل الكتابة” ليس إلا “تصورات خاطئة” بل “وضارة أيضاً”، حيث يعتقد أن معظم الناس يظنون أن ثمة “طرائق خفية غير منظورة” تتم من خلالها عملية الكتابة! بيد أن الأمور التي تعرض لهم في أدمغتهم دون التيقن من مصدرها وكيفية حدوثها، تكون محل ثقة كبرى لديهم .. ما يدلّ على وجود إشكالية كبرى حول مفهومي “الإبداع والعبقرية”.   

……… تتمة المقالة

 

(9)

كتاب / هل نولد عنصريين؟

 

العنصرية كاستعداد فطري وخلق مكتسب .. ووسائل مواجهتها

كتاب يتناول العنصرية كظاهرة شهد عليها المجتمع الإنساني منذ القدم، والتي لا تزال جاثمة بثُقلها فوق جسد الألفية الثالثة رغم الجهود الحثيثة التي تم بذلها حتى الآن من أجل تجاوزها إلى مرحلة ما بعد العنصرية! يبحث هذا الكتاب في أصل العنصرية كاستعداد فطري يولد بولادة الإنسان، وكخُلُق مكتسب يُفعّله التدخل البشري وتؤسس له ثقافات الشعوب المختلفة باختلاف مذاهبها ومشاربها، وذلك من خلال عرضه الكثير من التجارب والدراسات والأبحاث التي تناولت هذه الظاهرة.   

……… تتمة المقالة

 

(10)

كتاب / الألم النفسي والعضوي

 

إن هنالك أبعاد وجدانية للآلام الجسدية

هل يمكن للألم العضوي أن يُستثار فيتضاعف، أو يُهمل فيخبت؟ إن هذا التفاعل المتناقض ليس سوى انفعالاً وجدانياً مصدره (العقل) وحده، يصبّ في حقيقة (الألم) كمعنى، أو بالأحرى معنىً خاص يتشكّل بصورة أو بأخرى لدى كل إنسان على حدة، حسب الشخصية أو الموقف أو التوقيت أو الاستعداد …، وحسب عوامل أخرى في قائمة لا تنتهي!. 

……… تتمة المقالة: جزء (1)جزء (2)

 

(11)

كتاب / مميز بالأصفر

 

كلمات بيضاء لحياة مفعمة بالألوان

كتاب يتّصف بأنه (مميز بالأصفر)، ويضم بين دفتيه الصغيرتين تجميع لاقتباسات وعظات وخواطر وحكايات، تعزف ألحاناً عذبة تتناغم وطاقة التفاؤل والحب والجمال والسعادة التي تحيا بها الحياة بأغلى ما فيها، أو بواقعها الذي ليس للتعايش معه من بد في بعض الأحيان!. 

……… تتمة المقالة

 

(12)

كتاب / دفاتر فلسطينية

 

سنابل قمح ترويها دماء فلسطينية

لأنها دفاتر تخص شاب فلسطيني خطّ نصوصها خلف القضبان، فهي توحي للوهلة الأولى أنها تصف نضال أودع على إثره أحد سجون الاحتلال، إلا أنها مع نضاله تسجلّ موقفه كمعتنق للشيوعية حين اعتقلته السلطات المصرية على أعقاب مظاهرات، منتصف القرن الماضي!. 

……… تتمة المقالة: جزء (1)جزء (2)

 

(13)

كتاب / خيانة المثقفين: النصوص الأخيرة

 

الكلمة الأخيرة لمفكّر فلسطيني حر

كتاب يجمع بين دفتيه مقالات المفكّر الفلسطيني الأخيرة، والتي تركّزت بشكل أخص حول القضية الفلسطينية والصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، إضافة إلى قضايا عامة تخص الشأن العربي والإسلامي، وينتهي برسائل الود والتقدير التي كُتبت بأقلام أعلام المثقفين في رثائه، بعد وفاته بسرطان الدم رحمه الله!. 

……… تتمة المقالة

 

(14)

رواية / عائد إلى حيفا

 

الوطن كقضية حب

رواية يتضاعف فيها الأسى.. أسى احتلال الأرض، واحتلال ابن الأرض! كلمات حارقة بين أب وابنه اختزلت عمراً كاملاً من الفقد واللوعة والترقبّ في أمل لم الشمل العائلي الأصغر الذي يحتضنه شمل الوطن الأكبر. ليس الوطن ذلك النسب المرتبط بالدم أو اللون أو العشيرة، إنما هو القضية والمبدأ الذي لا يحيد. في هذه الرواية عرض للتناقضات التي ما برحت تعتمل في النفس البشرية الأشد تناقضاً.. بين بنوة الدم وقضية تمس شرف الأرض الأم. 

……… تتمة المقالة

 

(15)

كتاب / الذكاء العاطفي: أنت بالفعل تمتلك قوة خارقة

 

الذكاء العاطفي حين يتفوق على الذكاء العقلي

تموج الساحة العالمية في الوقت الحاضر بتيار هادر من برامج توعوية تستهدف في طابعها العام صالح الإنسان كعنصر أساسي في عملية التطوير المطلوبة، سواء كان ذلك على مستوى التنمية البشرية ومتطلبات اكتساب الخبرات الفعّالة لتلبية الحوائج المادية، أو على مستوى تنمية الذات الذي يركّز في الأساس على اكتساب مهارات الحياة العامة كالقيادة والاتصال وإدارة الوقت، أو على المستوى الروحي في تعزيز القيم العليا وفضائل الأخلاق والسعي نحو الارتقاء النوراني كغاية أسمى!. 

……… تتمة المقالة: جزء (1)جزء (2)

 

(16)

كتاب / عدالة السماء

 

القصاص الإلهي .. ولو بعد حين

“وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ”. يجمع هذا الكتاب القصير بين دفتيه نزر من وقائع شهدت على ظلم بني البشر حين جاءت عواقبها من جنس جورها مصداقاً لوعيد الله تعالى، حيث وقع القصاص العادل على من طغى وبغى جزاءً وفاقا، ولو بعد حين. 

……… تتمة المقالة

 

(17)

كتاب / تهويد المعرفة

 

ومع هيمنة اليهود العالمية .. تتهوّد المعرفة

كتاب يتحدث عن اليهود كأباطرة تزييف التاريخ وإعادة صياغته، بل وتزوير المعرفة على المستوى العالمي لا سيما العلمية والأكاديمية منها، بغية صبغها بكل ما هو يهودي! إن معشر اليهود يجاهدون في إلحاق نسب كل فرد ذو شأن في الحياة إلى عرقهم، حيث يذكر التاريخ محاولتهم استمالة العالم الفيزيائي ألبرت اينشتاين ومعه الممثل الكوميدي شارلي شابلن للالتحاق بنسبهم، العرض المغرض الذي قوبل بالرفض من الاثنين، وكذلك محاولتهم الفاضحة في تزييف الأنساب وإلحاق الشاعر طاغور والناسك بوذا لليهودية، ومن قبل عيسى عليه السلام بل والدين المسيحي ككل!. 

……… تتمة المقالة: جزء (1)جزء (2)

 

(18)

رواية / دم لفطير صهيون

 

اليهود بين العقيدة المحرّفة والحقد المتأصل

على الرغم من قصرها، تسلّط هذه الرواية الضوء على حادثة قتل نكراء جرت أحداثها في القرن التاسع عشر وطوى التاريخ صفحتها كحقيقة منسية أخرى من التاريخ الدموي لليهود على أرض المسلمين! بعد نكسة حزيران 1967 ومن وزارة العدل في دمشق، تصل إلى يد الروائي والطبيب المصري د. نجيب الكيلاني (1931-1995) صور من محاضر تحقيق ترجع لعام 1256ه-1840م، عن اختفاء رجل دين مسيحي على حين غرّة في حارة اليهود، أسفرت عن مقتله غدراً على يد عدد من وجهائهم بعد أن تم استدراجه إلى حيّهم بتحريض من حاخاماتهم، وذلك من أجل خلط دمه بعجين لصنع فطير مقدس في عيد الفصح له أثر السحر في صنع المعجزات، حسب ما تورده نصوص التلمود، وقد أتبعوه بخادمه عندما قدم عليهم يتقصّى أثره!. 

……… تتمة المقالة

 

(19)

كتاب / ولدت هناك ولدت هنا

 

فلسطين في سيرة أديب

لا يترك الأديب الفلسطيني أرضه ليروي تاريخها الملوك والضبّاط والأحداث الكبار، فلا يلبث أن يُركن على الرف ويُهجر ويعلوه الغبار ويمضي طي النسيان، إنما يصرّ على رواية التاريخ كما ينبغي له أن يُروى.. تاريخ أبناء الأرض فرداً فرداً، وسيرة الوقائع والحواس والأجساد، التي قد تبدو لكل غشيم -حسب تعبيره- رواية مفككة، تافهة المعنى والمضمون، بل يؤكد أنه تاريخ حكاياتهم الصغيرة التي تحتضن الأعين والخيالات والأرواح، وهو يقول في إصرار: “سنروي الرواية كما يجب أن تروى.. سنروي تاريخنا الشخصي فرداً فرداً”.  

……… تتمة المقالة: جزء (1)جزء (2)

 

(20)

كتاب / تاريخ القدس القديم: منذ عصور ما قبل التاريخ حتى الاحتلال الروماني

 

حين تتحدث الآثار عن القدس

يبدو أن تاريخ القدس في حد ذاته يفتح أبواباً واسعة على مجالات غامضة تستعصي على البحث، وهي لا تزال مثار جدل بين المختصين حتى الوقت الحاضر! إذ يعتقد المؤرخ مؤلف الكتاب أن هذا التاريخ يتداخل من جهة مع ظهور المستوطنات الرعوية والزراعية في حقبة ما قبل التاريخ، ومن جهة أخرى مع الهجرات الأولى لشعب الآموريين إلى بلاد الشام، ومن جهة ثالثة مع هجرات الكنعانيين واستيطانهم أخيراً أرض فلسطين. والمؤرخ إذ يعرض لهذه الهجرات، فهو يحذّر من الوقوع في فخاخ المرويات التوراتية التي تحلّق بالتاريخ بعيداً نحو الملاحم والأساطير والحكايات الشعبية، والتي من شأنها إعاقة تمييز ملامح التاريخ الحقيقي .. وهو يرى أن هذه المرويات قد أطاحت بآراء أكثر العلماء جدية ورصانة!. 

……… تتمة المقالة

 

(21)

كتاب / التوراة

 

التوراة وفرية اليهود

بينما يوجز الحديث الصحيح المعنى الوارد في قول النبي الأكرم ﷺ: “وَحَدِّثُوا عن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ”، يتكفّل هذا الكتاب بالشهادة على صدقه فيما يعرض من جبلة اليهود وما هي عليها من صفاقة وتضليل وتدليس، كحقيقة لا لبس فيها! كطبيعة بشرية جُبلت على تقديس قوة عظمى تعلوها، يصبح من الصعوبة بمكان المس بالذات التي تم تنصيبها كرمز سامٍ أو كمثل أعلى، بل وقد كانت تُشن الحروب عندما تسبق دابة قبيلة بهيمة الأخرى، حتى تأتي التوراة بأشنع ما يمكن تصوره في حق صفوة خلق الله، بل في ذاته تبارك وتعالى “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا”. 

……… تتمة المقالة

 

(22)

كتاب / تلمود العم سام: الأساطير العبرية التي تأسست عليها أميركا

 

كنعان العماليق وأرض كنعان الجديدة

عبر الكلاسيكيات العبرانية التي حرص مؤدلجوها على رسمها بعناية خلال القرنيين الماضيين، يعرض كتاب (تلمود العم سام: الأساطير العبرية التي تأسست عليها أميركا).. (فكرة إسرائيل) ومولدها على أرض فلسطين مع طلائع الاحتلال البريطاني للقدس في التاسع من ديسمبر لعام 1917، وهي تتضمن المهمات الأساسية الثلاث التي لا تتحقق إلا بالعنف وحده، وهي: “احتلال بلاد الآخرين. استبدال سكانها بسكّان غرباء واستبعاد من يعصي منهم على الاستبدال. استبدال ثقافتها وتاريخها بثقافة المحتلين الغرباء وتاريخهم”. 

……… تتمة المقالة

 

(23)

كتاب / تاريخ اليهود في بلاد العرب: في الجاهلية وصدر الاسلام

 

أخبار العرب واليهود قديماً

جاء كتاب (تاريخ اليهود في بلاد العرب: في الجاهلية وصدر الاسلام) عن رسالة لنيل درجة الدكتوراه حول تاريخ اليهود في شبه جزيرة العرب، والتي وضعها المستشرق اليهودي إسرائيل ولفنسون (1899-1980) والملقب بـ (أبو ذؤيب) في إحدى الجامعات المصرية وتحت إشراف عميد الأدب العربي د. طه حسين. وُلد المستشرق في فلسطين ثم انتقل إلى مصر ودرس اللغتين العبرية والعربية ودرّس في جامعاتها، ثم عاد إلى فلسطين وأصدر العديد من الكتب أشهرها الذي بين أيدينا. ولأن إصدار الكتاب جاء في عام 1927، أي قبل احتلال فلسطين بما يقرب العقدين من الزمان، ما يجعله في منأى عن تحيزات الرأي بطبيعة الحال، إلا أنه لم يخلُ من نبرة تعظيم لكل ما هو يهودي، من مكانة رفيعة أساسها شعب الله المختار، وفضل يدين لهم الإسلام وأمة العرب به! رغم هذا، فقد اعتمد المستشرق منهجاً استدلالياً مستعيناً بالمصادر العربية والإسلامية إضافة إلى المراجع العبرية وأبحاث المستشرقين السابقة. 

……… تتمة المقالة

 

(24)

كتاب / إسرائيل النازية ولغة المحرقة

 

النازية الإسرائيلية ومحرقة أرض الميعاد

على الرغم من مرور أكثر من عقدين من الزمان على صدور كتاب (إسرائيل النازية ولغة المحرقة) للمفكر الراحل د. مصطفى محمود، إلا أن الأحداث التي عرض لها لا تقل دموية عن الأحداث الدائرة في طوفان الأقصى منذ شهور، إن لم تكن الأخيرة أشد بطشاً وأثقل وطأة في التخاذل وقلة الحيلة! يبدأ المفكر بمقالة (النبوءة) التي شهدت صعود ظاهرة عالمية يُطلق عليها (الإسلام)، من بنوك واستثمار وأزياء وصحافة، إضافة إلى الجهاد كما في أفغانستان والشيشان وجنوب لبنان، والتي تقرأ ظهور ثانٍ للإسلام يحشد القوى لمواجهة الظهور الثاني لدولة إسرائيل، كما في وعد الآخرة القرآني، وذلك بعد أن يزيل ما تبقى من “الأراجوزات الكبار” ويلحم الجبهة العربية بعد طول تمزق وفرقة. 

……… تتمة المقالة

 

(25)

كتاب / هذه روايتنا: لماذا طوفان الأقصى؟

 

طوفان الأقصى يرويه الحماس الفلسطيني

لقد صاحب الطوفان الجامح الذي أثاره صناديد كتائب عز الدين القسام منذ السابع من أكتوبر الماضي ضد العدوان الإسرائيلي في قطاع غزة، مشاهد حية تصف النضال الصادق وتفضح دموية الاحتلال، حتى حان الوقت لسرد رواية هذا الطوفان ككلمة حق في وجه السطوة العالمية الجائرة! ففي الحادي والعشرين من يناير هذا العام، نشر المكتب الإعلامي لحركة المقاومة الإسلامية حماس بياناً رسمياً يضع فيه نقاط ضخمة على حروف سيكتبها التاريخ، عن حقيقة ما جرى وأسبابه وسياقه المتصل بالقضية الفلسطينية مع دحض الادعاءات الصهيونية، وهو يهديه إلى أهل فلسطين المرابطين، والشعبين العربي والإسلامي، وإلى أحرار العالم أينما كانوا. 

……… تتمة المقالة

 

(26)

كتاب / جدد حياتك

 

مبادئ الإسلام مقابل توصيات مفكر أمريكي

كتاب تفاؤلي تكمن روعته في الدعوة للانفتاح على الحياة من خلال ما ورد فيه من آراء واقتباسات، توقظ العقل وتعزّز الشعور الصادق والكامن في الفطرة الإنسانية، والتي ولا عجب، حملها من يختلف عنّا عرقاً وعقيدة وثقافة. هذا ما فعله الداعية المجدد د. محمد الغزالي عندما أفرد قلمه ليسطّر ما استلهمه من خواطر الكاتب الأمريكي الرائد عالمياً في تنمية الذات (ديل كارنيجي)، في كتابه الأشهر (دع القلق وابدأ الحياة)، لكن بمنهج إيماني خالص، وبأسلوب يبتعد عن التعصب أو رفض الآخر. 

……… تتمة المقالة: جزء1  جزء2  جزء3  جزء4

 

(27)

كتاب / الأمن الوطني

 

ومن جديد “حلل يا دويري”

في خضم ما يواجه الأمة العربية من أزمات وتهديدات وتحديات تتسارع وتيرتها بشكل ملحوظ لا سيما مع أحداث الآونة الأخيرة، مقابل ما تشهده من تراجع وانحدار وانقسام وتبعية وما يلحق بها بالضرورة من تداعيات لا تُحمد عواقبها، يأتي هذا الكتاب في وقته ليلبي طموح الإنسان العربي الذي تُعقد عليه الآمال في إعادة الربيع الغائب لأوطانه ضمن المسار الصحيح، وضمن ترسيخ مفهوم (الأمن الوطني) كحاجة أساسية للفرد وللمجتمع وللوطن، كل على حد سواء. 

……… تتمة المقالة: جزء1  جزء2

 

(28)

كتاب / مكتباتهم

 

المكتبة كسؤال وجودي تجيب عنه الفلسفة

كتاب فريد من نوعه يدور في فلك الكتب، وما يلفّ حوله من آداب في مهارتي القراءة والكتابة، وما يلحق بهما من فنون الاستنباط والاستقراء والنقد والتحليل، بطبيعة الحال. ففي كتاب (مكتباتهم) الصادر عن (منشورات تكوين)، يستعرض المؤلف (محمد آيت حنّا) باقة من حصيلة اطلاعاته على أعمال عدد من الكتّاب العالميين، بما فيها سيرهم وأفكارهم وفلسفاتهم وتوجّهاتهم ومكتباتهم والمقولات المأثورة عنهم، وما استلهمه في المقابل من عبر وحكم وخواطر ورؤى وتأملات وإسقاطات، شكّلت في مجملها جانب مما هو عليه اليوم من ثقافة. 

……… تتمة المقالة

 

(29)

كتاب / رسائل من القرآن

 

القرآن الكريم .. كتاب فيه ذكركم

كم جميل أن يتلقّى المرء في يومه رسالة أو أكثر تحمل عبارة حب أو شكر أو تفاؤل أو أمل، غير أن ما يفوقها جمالاً هو ما جاء منها ضمنياً يتقاسمه السحر والمعنى، وليس أبلغ في هذا من كلامه عز وجل الذي ينفد مداده وإن كان بحراً ولا ينفد، والذي يُبطن من إعجازه معانٍ أخرى مع ما يظهر، فيستنبط القلب الذي أقبل عليه ما خفي من لطائفه وتدركه البصيرة.. وهكذا حصل مع هذا الكتاب ومؤلفه. 

……… تتمة المقالة

 

(30)

كتاب / منارات

 

مسارات .. شيّدت نحو الحق منارات

﴿لَقَدْ كانَ في قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الألْبابِ﴾.. قصص خلّدت أصحابها في صفحات التاريخ، ومدّت من خلَفَهم بدروس تستحق التبصّر! هكذا يعبّر مؤلف كتاب (منارات: قصص إنسانية صارت لهم تاريخاً ولنا دروساً) في مقدمته، فليس التاريخ سوى أخبار الأولين التي تُضرب فيها الأمثال، وجملة من حقائق وعلوم وأخبار، كما يُخبر ابن خلدون.. وليست هي معين للترف الفكري بل مدعاة لاستلهام العبر وانتهاج مساراتها. 

……… تتمة المقالة

 

(31)

كتاب / التحرش النفسي في الوسط المهني

 

ومن المرض النفسي .. ما له سبب مهني

على الرغم من أن الانتهاكات التي يتعرض لها الفرد في محيط عمله تُعد إحدى السلوكيات التي لازمته منذ القدم، إلا أن إحصائيات الأبحاث الأكاديمية الحديثة تشير إلى اضطراد تلك الانتهاكات حول العالم، وهي التي تظهر أساساً في سوء استخدام رب العمل للسلطة الممنوحة له، بغية فرض سيطرته على أعضاء فريق العمل وإلزامهم قسراً بالانصياع إليه، مستخدماً كافة أشكال الضغوط المتاحة، كالتهديد المباشر واستمرارية التوبيخ وتعمد الإهانة، والتي قد يصل بعضها إلى حد العنف الجسدي. 

……… تتمة المقالة: جزء1جزء2

 

(32)

كتاب / العقلية الصهيونية ولاهوت الإبادة

 

عن القضية والكيان .. دراسة أعدت في السجن

يقدّم كتاب (العقلية الصهيونية ولاهوت الإبادة) مجموعة من أربع دراسات موضوعية تتناول باستفاضة الحركة الصهيونية بما ترتكز عليه من إيديولوجيا أخلاقية وعقائدية وتاريخية وعسكرية، في صراعها كطرف معتدي في القضية الفلسطينية، وهي الدراسات التي تسعى في الأساس إلى دحض السردية الصهيونية مقابل التأسيس لرواية فلسطينية حقيقية تثبت الحق التاريخي لأصحاب الأرض. 

……… تتمة المقالة: جزء1جزء2

 

(33)

كتاب / محمد كريشان يروي: وإليكم التفاصيل

 

ولدى كريشان تفاصيل لم تُبث

كالشعاع الأبيض الذي يُسفر عن سبعة أطياف إذا خضع للتحليل الضوئي، كذلك السياسية التي إذا حُسر الستار عن كواليسها، أسفرت عن صور لا تعكس بالضرورة ما عُد واقعاً على مسرحها!

ينبري إعلامي مخضرم لإزاحة طرف من ذلك الستار الثخين، ليكشف عن خبايا أحداث ومواقف وشخصيات وعوارض وقفشات كذلك، جالت في أروقة السياسة العربية .. كشاهد من أهلها! إنه (محمد كريشان) الأشهر من نار على علم الجزيرة، وهو المولود في صفاقس تونس عام 1959، والذي أخذ منه الإعلام مأخذاً في صغره حتى توّجه بإجازة جامعية في الصحافة وعلوم الأخبار بعد تفوقه في الثانوية العامة، ما فتح الباب أمامه على مصراعيه في تلقي المهام وتولي المناصب، من محرر صحفي في بلاده، إلى مراسل إخباري في قنوات عربية، ثم إلى مذيع ومقدم برامج في قناة الجزيرة الإخبارية حتى الوقت الحاضر، وقد عني بالشأن الفلسطيني ولا يزال، ككاتب عمود في صحيفة القدس العربي. 

……… تتمة المقالة: جزء1  جزء2  جزء3

 

(34)

كتاب / ER Nurses-True stories from the frontline

 

الوجه الآخر لمنقذي الأرواح

تأتي هذه المجموعة القصصية (ER Nurses: True stories from the frontline) عن وقائع ومواقف وأحداث جرت حقيقة في ردهات المستشفيات، يرويها أبطالها الحقيقيين من طاقم التمريض كخط دفاعي أول في تلك الصروح المعنية بإنقاذ الأرواح، لا سيما في غرف الطوارئ المضاءة بالنيون الأحمر على الدوام، ووحدات العناية المركزة الأشد حرجاً.. وهي المجموعة التي لم تخلُ من خواطر وهواجس وتأملات وجدانية، جادت بها مكنونات القلوب البشرية التي لم يبالِ أصحابها في معاينة الموت وجهاً لوجه في كل لحظة، من أجل كل إنسان ليحيا. 

……… تتمة المقالة

 

(35)

كتاب / الغباء البشري

 

عالم يحكمه الأغبياء .. ولا غرابة!

بحسبة بسيطة وبنظرة تحليلية سريعة، يتبين أن العالم لا يحكمه سوى الأغبياء! فعلى الرغم من قصر الكتاب وقدمه الذي يعود إلى ربع قرن من إصداره، فهو يتناول ظاهرة اجتماعية تتعايش والحياة اليومية كواقع بات مألوفاً، ألا وهي سيطرة (الأغبياء) على مرافق الحياة -فضلاً عن تواجدهم أصلاً بأكثر مما يُعتقد- اجتماعياً وأكاديمياً وعلمياً وثقافياً واقتصادياً وسياسياً، وغيرها من مراكز صنع القرار، ما يجعل من تأثيراتها السلبية تطال الفرد والمجتمع على حد سواء.. فلا الفطناء العقلاء النبهاء حول العالم من أمسك بزمام الأمور، بل إنهم الجهلاء البلهاء السخفاء، والذي اتضح أن منهم من تقلّد منصب رئاسة بلد، ومنهم من أصبح استاذ جامعي أو قسيس راع، ومنهم من حصل على جائزة نوبل العالمية، وهكذا مع تصاعد السلم الاجتماعي من بين ذوي النخبة في أي مجتمع، حتى حمّلوا الأمم جميعاً خسائرهم فوق خسائرها!. 

……… تتمة المقالة

 

(36)

كتاب / قضية فلسطين: أسئلة الحقيقة والعدالة

 

العدالة لفلسطين

يأتي كتاب (قضية فلسطين: أسئلة الحقيقة والعدالة) كمراجعة نقدية شاملة لتاريخ القضية الفلسطينية الذي يبدأ بالنكبة وينتهي بصفقة القرن، وهو يتوقف عند أبرز المحطات التي ساهمت في تطور القضية وما صاحبها من حركة وطنية مضادة للاستعمار الاستيطاني، وتأثيرها في المسار المستقبلي والخيارات المتاحة له. ومع الإشكالية التي صاحبت ترجمة الكتاب الصادر منذ عامين، والمتعلقة بحرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، فقد ارتأى الباحث إلحاقه بكتاب آخر، ليستكمل معالجة القضية الفلسطينية حتى الساعة، وقد جاء بعنوان (الطوفان: الحرب على فلسطين في غزة). 

……… تتمة المقالة

 

(37)

كتاب / الطوفان: الحرب على فلسطين في غزة

 

بداية النهاية .. وأول الغيث طوفان

يصدر كتاب (الطوفان: الحرب على فلسطين في غزة) في غمرة الأحداث الدامية التي تجتاح قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، والتي أخذت طابع (حرب إبادة) لا وفق المفهوم الشائع وحسب، بل وفق التعريف الاصطلاحي في القانون الدولي، والذي بموجبه تم رفع قضية جرائم إبادة أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي! وقد حرص الباحث تضمينه رؤيته الحيادية رغم دوافعه ومنطلقاته القيمية، إضافة إلى تناوله القضايا ذات الصلة من وجهة نظر فلسفية لاسيما الموقف الأخلاقي من الحرب ككل، والتي لا بد وأن تبرهن على التحليل الموضوعي لقضية فلسطين واستنتاجاته في كتابه السابق!  

……… تتمة المقالة

 

قراءة في كتاب

…………………………

(1)

كتاب/ ابتسم أنت في بغداد – المؤلف/ د. طه جزاع

مقالات تخلق من الهموم طرفة

 

مع أولى قطرات الغيث
في أروقة (المشرق العراقية) الغراء
والشكر موصول
للزملاء الأعزاء أعضاء أسرة التحرير

(( مع وافر الامتنان للفاضل الأستاذ الدكتور طه جزاع في سعيه الكريم وإتاحة هذه الفرصة الكريمة ))

همى الغيث

 

 

كتاب يدعو عنوانه القارئ للابتسام، فما يلبث أن تخنقه مقالاته بالعبرات .. جاءت بقلم ابن الأرض الذي عاصر وقائعها كشاهد من أهلها .. وليس الخبر كالعيان!. إنه أ. د. طه جزاع، الأستاذ المحاضر في علوم الفلسفة، وكاتب الأعمدة الصحفية في الجرائد والمجلات والمواقع الإلكترونية، والذي شغل منصب (رئيس التحرير) لعدد منها، وله عدد من الإصدارات الفكرية وقد فاز بالجائزة الأولى لمسابقة (ناجي جواد الساعاتي) في دورتها التاسعة عن عام 2018، عن كتابه الأخير في أدب الرحلات. يصدر هذا الكتاب عن (دار دجلة للنشر والتوزيع)، ويضم عدد من المقالات التي نشرها الكاتب في جريدة المشرق العراقية بعد انقطاع لردح من الزمان، وبعد مناورات لحوحة من أقرانه الصحفيين. وقد شبّه فترة انقطاعه تلك كحالة خرس روحاني لصوفي مخضرم، بين ما كان في حقبة من قرن مضى، وما استجد في حقبة من قرن جديد. وعلى الرغم من أن المقالات في مجملها تمسّ الواقع العراقي وفي الصميم، إلا أنه لن يضيرها استبدال (بغداد) بأي مدينة عربية على امتدادها من المحيط إلى الخليج، على طريقة أمير شعرائها أحمد شوقي في قوله: (كلنا في الهم شرق).

لقد أصبح الفرد العربي في معاشه اليومي بحاجة إلى تحويل واقعه المرّ في بعض أوجهه إلى طرفة، ليس على سبيل السخط أو السلبية أو السخرية، بل لأنها قد تكون (الأخف) تعبيراً فيما يحوطه من قسوة وبؤس وشقاء، كما كان يفعل الكوميدي العالمي شارلي شابلن، وكما كان يقول: (أنا أصنع من ألمي ما يضحك الناس، لكنني لا أضحك من ألم الناس).

يأمل الكاتب من خلال نشر مقالاته هذه أن يصل بمعاناة شعب العراق -الذي ما برح يقاسي ويلات الاحتلال الأمريكي الممنهج منذ ابريل 2003- إلى أخوته في الوطن العربي الفسيح، مؤكداً أن هذا الشعب في عراقته وشموخه وعزيمته -وقد فُقد منه الملايين بين مهاجر ونازح وقتيل- قادر على أن ينهض من جديد ليعمل ويبني وينتج، ويكون كما كان دائماً البدر المنير في الليلة الظلماء، وكما تغنّى شاعره العظيم مصطفى جمال الدين في رائعته الخالدة: (مرت بك الدنيا وصبحك مشمس .. ودجت عليك ووجه ليلك مقمر).

يعرض فهرس الكتاب تسعة عناوين رئيسية لعدد من المقالات في الأدب الساخر تتفرّع عنها، جادت من رشاقة الكلمة وغزارة المعنى ما يُعين على طيّ الجلدة الأخيرة للكتاب خلال سويعات. هي: 1. ابتسم أنت في بغداد / 2. مقبرة الشرف الرفيع / 3. بلاد العرب أوطاني / 4. لعنة الفراعنة / 5. صناعة التاريخ على سطح المريخ / 6. دع القلق وأبدأ الحياة / 7. لائحة حقوق الحمار / 8. (فيسبوكيات) وفضائيات راقصة / 9. باشوات الصحافة وثيرانها.

ومن المقالات المضحكة المبكية التي جاءت تترجم المأثور العربي الضاحك من شر البلية، اختار ما علق في ذاكرتي منها ما يلي:

  • تتخذ عملية تفتيش المركبات ذهاباً وإياباً صباحاً ومساءاً شكل من أشكال إثارة الغثيان، والإمعان في نكد المواطن الغلبان، إذ بين كل سيطرة بوليسية وأختها تتناسل سيطرات وتتوالد وتتكاثر، مضافاً إليها الوقت المهدر في استخدام أجهزة السونار لفحص المركبات، رغم ثبوت عدم جدواها في الكشف عما هو أدهى وأمر من حشوات الأسنان وطلاء الأظافر.
  • في مذكراتها عن بغداد الستينات، لا بد وأن يضحك القارئ على الجدة الهولندية (يوديت) وهي تمتلئ رعباً من أرطال اللحم في السوق الشعبي والذي كان لا يُرى أساساً وقد التف حوله سرب من الذباب. ويستمر في ضحكه وهي تصوّر عملية بيع اللبن الصباحية طازجاً على الطريقة البغدادية، إذ يحظى الزبون بزيارة البقرة الحلوب مع صاحبتها لتقف عند عتبة بابه برسم الخدمة على طريقة (التوصيل للمنازل) .. فيحلب ويشرب، في التو واللحظة.
  • الشقاوات العراقية .. أخوة الفتوات المصرية (في الكار)، قد شوّه التراث المنقول سيرتهم، إلا أنهم في حقيقة الأمر على مذهب الإنجليزي روبن هود .. أشداء على الطغاة رحماء على المستضعفين، يتتبعون الظالم حتى ينتزعوا منه حق المظلوم عنوة .. وبلطجة أحياناً. وقد كان (عبد المجيد كنه) أشهر الشقاوات البغدادية، إذ قاوم ورفاقه الاحتلال البريطاني، وساهم في الحركة الوطنية من خلال التهديد العلني بالقتل ضد كل من يتواطأ مع جيش الاحتلال، وقد نال شرف (شقاوته) بالإعدام شنقاً عام 1920، إذ شيّعته الجماهير ونصّبت له سرادق العزاء .. رحمه الله.
  • وبينما يفخر الكاتب بعلم بلاده المرفوع بيد العدّاءة البطلة (دانا حسين)، ومن خلفها الوفد الرياضي العراقي على أرض ملعب جزر العجائب بلندن عام 2012، تحت صيحات الحماس الجماهيري المنقطع النظير، ينتقد افتقار العراق نشيد قومي موّحد. ويسترجع في هذا التصنيف الذي جاءت به صحيفة التلغراف البريطانية عن النشيد الوطني العراقي كواحد من بين أسوأ عشرة أناشيد في تلك الدورة الأولمبية، والتي ضمّت 200 نشيد وطني للدول المشاركة. ومن جانب آخر، لا ينسى الكاتب ذلك المواطن الأصيل الذي اتصل بالإذاعة فرحاً مهنئاً بنتائج إحدى المباريات، رغم أنه شهد صباح ذلك اليوم تفجيرين في منطقته ببغداد، وردّ المذيع العراقي الأكثر أصالة ووطنية بـ: “عفية”.
  • وفي مقالته (العراق الأفريقي)، يقترح الكاتب نقل العراق إلى دول خط الاستواء الأفريقي بعد ثبوت تورّط عدد من الدول الكبرى في التلاعب بمناخه، إذ من المتوقع أن ترتفع درجة الحرارة فيه لتصل إلى 70 درجة مئوية خلال الثلاث سنوات القادمة، وما سيترتب عليها بالضرورة من تغييرات ديمغرافية في الشكل واللون والسحنة، إضافة إلى التغيرات الطبيعية الأخرى.
  • وعلى غرار سخرية القدر، يتهكم الكاتب على الخبر الذي أورده مدير الزراعة لإحدى المحافظات وهو يُنبئ عن وصول أفواج من طيور الأروي الملونة والهاربة من صقيع سيبيريا، لافتاً الانتباه إلى ما تحمله (الهجرة) من رمزية البحث عن الدفء والرزق والأمن وسائر متطلبات الحياة .. المتطلبات ذاتها التي يهجر فيها العراقي أرضه إلى أرض الله الواسعة، بحثاً عنها!.
  • يسترجع الكاتب بعض القفشات التي وقعت حينما تم استقطاب عدد من الممرضات الهنديات في فترة من القرن الماضي، وما صاحب ذلك من صعوبة في التخاطب على الرغم من رواج الأفلام الهندية بين العراقيين آنذاك. إذ حرص البعض على تعلّم عدد من الجمل الهندية البسيطة لاستخدامها في بعض المواقف، مثل (ما اسمك) عند التعارف، و (أنت جميلة) كنوع من الكياسة، و (لن أنساك) وقت الوداع. إلا أنه يذكر تورّط أحدهم عندما لقّنه صاحبه مقولة: “موست شادي كارونجي” على أنها مرادفة لعبارات الشكر عند الوداع، وهو لا يعلم عندما قالها لأحدى الممرضات وقت خروجه من المستشفى بأنه يعرض عليها (الزواج).
  • ولا تزال جورجيا الاقتراح الأول عند العراقيين لقضاء إجازة صيف ممتعة واقتصادية، بعد أن دمّر الربيع العربي صيف وشتاء المنتجعات السياحية في معظم البلاد العربية وساكنيها من عرب عاربة ومستعربة.
  • وعن ظاهرة تفشي حبوب الهلوسة وأخواتها بين أفراد المجتمع العراقي، تشير القاضية العراقية أن الأمر تطور إلى درجة توفيرها كخدمة علاجية على هيئة حقن دوائية من خلال عيادات وعلى أيدي معاونين طبيين، في حين أن معظم بلاد العالم تقننّ عملية صرف الأدوية من خلال وصفات طبية، وإن كانت بسيطة كالبنادول والأسبرين.
  • وفي محاولة لاستنباط درس تاريخي يتقاطع بين الهند والعراق رغم البون الشاسع بينهما، يترحّم الكاتب على المناضل (غاندي) وقد اعتصر قلبه الألم لحظة ما أعلن رفيق دربه (محمد علي) استقلال الباكستان عن الهند عام 1947، وعلى أساس ديني محض، رغم تعدد الطوائف العقائدية والمذهبية بين أبناء الهند أجمعين. فكيف اجتمع الشامي بالمغربي؟ وما أشبه العراقي بالهندي!.
  • بينما لا تشجّع الأمم المتحدة عودة اللاجئين العراقيين إلى أرضهم في الوقت الراهن، يعتّصر قلب الكاتب ألماً وقهراً على ما آلت إليه أوضاع شعب كان عزيزاً فذل، فاصطف في طوابير طويلة مهينة أمام شبابيك سفارات بعض الدول يستجدي لجوء إنساني، في حين تصدّ أبواب السفارة العراقية عنهم -وبوجوه مكفهرة- أوسع أبوابها، وتصبح تصريحات -بل قل تطبيلات- الأمم المتحدة أصلح للنقع والعبّ.
  • تستوقف القارئ سيرة (شارل ديغول) الزعيم التاريخي لفرنسا .. مصلحها وواضع دستورها، وسياسته في التعامل مع معارضيه، إذ لم يذكر التاريخ أنه كمم أفواه أو صادر آراء أو اعتقل أو سجن أو سحل أو شنق أو حرق أو اغتصب أو سرق …، معتبراً أنه من الصعوبة بمكان إرضاء الناس جميعاً وعلى الدوام، مبرراً ذلك بمقولته الشهيرة: (كيف يمكنك أن تحكم بلداً فيه 246 نوعاً من الجبنة)؟
  • وفي تشبيه مبطّن، عقد الكاتب مقارنة ذكية بين سكان بلاد الواق الواق ونظرائهم في بعض بلاد الجوار! فالثروة الفائضة من الذهب جعلت لكلابهم وقرودهم أطواقاً من ذهب كما ذكر العالم (محمد بن زكريا الرازي) في مؤلفاته عن تاريخها، ولديهم من القواسم المشتركة الأصيلة في الدين واللغة والأعراف ما تكفل وحدتهم. غير أن السلطة الحالية تقبض على تلك الثروة بالدم والنار والحديد ومن يتنازع عليها من المتملقين، في حين أن القواسم المشتركة لبقية أفراد الشعب هي التشرذم والكذب والغدر والسرقة، والانغماس في شهوة الأكل والجماع والنوم والغناء والرقص وجمع المال، والنزوع إلى الثرثرة والخلاف والصراخ لأتفه الأسباب في كل حين. فلا غرابة أن يعاني سكان هذه الجزر الواقعة في بحر الهند والذين (تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى) من الفقر المدقع في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والتكنولوجيا …الخ. رغم هذا، فهم يتميزون بعدم وجود هيئات ومفوضيات ومجالس ولجان ومداهمات واعتقالات ومظاهرات واغتيالات وإعلام …. تشنّها السلطة عليهم، خلاف ما يتميز به أهل سكان الجوار أولئك!.
  • في نقده لرضوخ المواطن العربي لبرمجة عقله وطلسمة فكره تجاه ما يُملى عليه من أعلى، وبما هو مدعاة للاستسلام والتسليم والخضوع والخشوع، يأتي مصطلح (الاستحمار) الذي استحدثه المفكّر (علي شريعتي) كتشبيه حرفي بليغ لا يحيد.
  • وبشيء من التعجب، يستعرض الكاتب رأي صاحبه الحماسي في الحاجة لتدريس مهارات الفساد الإداري والمالي كظاهرة عالمية، والتي تم تلخيصها في قصيدة (احترامي للحرامي) التي أذيعت على لسان شاعرها الأمير السعودي (عبدالرحمن بن مساعد)، ومُنعت عندما أنشدتها المطربة المصرية (آمال طاهر) في مدينة الدوحة!. تأتي هذه الحاجة الملحاحة لحماية المبتدئين وصغار الفاسدين الذين لا يزال يعتور ضمائرهم شيء من النزاهة وحسن النوايا، وللاستفادة أيضاً من خبرات سرّاق الأوطان وكبار المحترفين في الفساد والإفساد، لا سيما في الدول التي تتصدر تقرير المؤشر الدولي السنوي للفساد، كالصومال وأفغانستان وتشاد … والعراق.
  • يتحدث الكاتب بنبرة صادقة عن تفشي ظاهرة العنوسة بين النساء في الوطن العربي ككل، والتي جاءت كاختيار حرّ للمرأة العربية في سبيل علمها وعملها وكفاحها ونجاحها .. المجالات التي أبدعت فيها وأبهرت، مضحيّة بالفطرة البشرية في الارتباط والاستقرار. أشاطر الكاتب الرأي في أن هذه العنوسة “وردية” طالما أن الوعود قبالتها زائفة، وارفض معه كلية تشبيه المرأة الحرة الأبية بالرجل، سواء كان فرداً أو يشكّل من العدد عشرة .. فليس الرجل مضرب مثل عنتري ولا نموذج يُحتذى به في البطولة!.
  • يقرأ الكاتب على (الرجال) السلام، في أمة تنتحر فيه الفتاة اليافعة والمرأة الناضجة على حد سواء، كرد فعل أوحد أمام جبروت وطغيان وقهر الرجال -بل أشباه الرجال ولا رجال- المتفنن في كافة صنوف العنف والتمييز، كالزواج القسري، الحرمان من التعليم، الضرب، القذف، التهديد، الخطف، الاغتصاب … وغيرها من الكبائر المحصّنة بالقانون أو بالعرف العشائري.
  • على الرغم من اقتضاب المقال، فإن جرائم الشرف ضد المرأة التي لا تزال في اضطراد والتي لا تشمل تلك التي تم اقترافها تحت جنح الظلام، كفيلة بأن تجعل الحليم -وهو في الألفية الثالثة- حيران .. وكأنه مواطن جاء على غفلة من أمره متأخراً إلى عصور الظلام.

علاوة على ما ذُكر، يطيب لي أن اقتبس بعض ما ورد في الكتاب من جميل القول (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):

  • في مقالة (يا طويل العمر) يعرض الكاتب من خلال إحدى الميثولوجيا الشعبية مدى جهل الإنسان المجبول على الطمع حين اختار أن يطيل الله في عمره خلافاً للحيوانات التي طالبت بتقليص أعمارها بعد أن وعت حجم الشقاء الذي ينتظرها، فينصح قائلاً: “الأعمار بيد الله لكن حذار من أن تسمح لأحد أن يدعو لك بطول العمر، فإنه إنما يدعو لك بطول المعاناة في حياة كلها منغصات ومخاوف ووساوس وهلوسات وفوضى ومفخخات وعبوات ولاصقات وكاتمات واغتيالات .. يا طويل العمر”.
  • يعرّي الكاتب في مقالة (زوجة صينية) سوأة العقلية الذكورية التي مسّها من نقصان العقل والدين ما جعلها تستميت في الحصول على زوجة آلية تطيعه إذا أمر بكبسة زر على جهاز الريموت كنترول، فيقول بعد أن انتشر مقطع فيديو طريف عن إعلان لها: “وانتشر هذا المقطع مثلما يقال انتشار النار في الهشيم في هواتف الرجال النقالة من العزاب والمتزوجين، وتداولوه بين هواتفهم نكاية بالزواج والزوجات، وانتصار للفكرة الأزلية التي تعشش في أذهان الذكور ولا أقول الرجال، عن زوجة مطيعة لا حول لها ولا قوة، ولا رأي لها ولا فكرة، تستطيع أن تطويها وتحتفظ بها في دولاب الملابس متى شئت، أو أن تبرمجها على كلمات محددة ….”. وأعقّب بدوري: لا حرج على رجولة عرجاء أرادت تجبير عاهتها بين الأمم فربضت فوق حق النساء!.
  • يختم الكاتب مقالة (ولم يغرق الحب) التي تطرّق فيها لقصة نجاح (سيلين ديون)، صاحبة الصوت الملائكي الذي ظل يتردد صداه رغم غرق التيتانيك واستقرارها في قاع المحيط، بكلمات من لؤلؤ: “الحب الصادق يبقى ويستمر إلى الأبد. هو سباح خرافي لا يغرق ولا يموت، حتى وإن غرقت جميع السفن والزوارق، وغرق كل من على متنها من عشاق مجانين وسباحين ماهرين”.

ختاماً .. لطالما شغفني العراق العظيم منذ صغري .. أرض الحضارات ومهد الأنبياء وموطن الأولياء .. سمائه وتربته، أنهاره وأشعاره، أطياف شعبه الممتزجة ألواناً وأسماءً وأعراقاً واعتقاداً ولهجة ولحناً وثقافة. شاء الله أن تصبح أحلك أحقاب أرض السواد نصيب أعمارنا التي كلما تقدمت بنا، تقدم الشر المحدق بها، ليحيلها من أرض سواد في تراصّ نخلاتها الباسقات، إلى أرض سواد في هرجها ومرجها، مدلهم نهارها كليلها. “وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس” .. ولأن (دوام الحال من المحال)، أرجو للكاتب الفاضل د. طه جزاع أن يمنّ الله عليه بمديد العمر، فيتحفنا بمقالات (مضحكة مبكية) جديدة .. تبكينا فرحاً ونضحك معها زهواً، وتدعونا لنبتسم من جديد أمام واقع أكثر جمالاً وسلاماً وتحديداً في بغداد .. مدينة السلام، كما خصّها الكاتب في عنوان كتابه.

سيبقى هذا الكتاب يحمل وجدانياً ذكرى مختلفة، فقد جمع بين كاتبه وكاتبة هذه السطور في صداقة توطدت بإهدائها مجموعة إصداراته الثرية التي نشرها بعد هذا الكتاب بسنوات طوال .. وهو الكتاب الأول الذي حظيت بنشره من خلال صحيفة المشرق العراقية الموقرة .. وأول الغيث قطرة.

يسعدني تواصلكم معي على: hma-algaith.com

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 9 مارس 2022 – جزء (1) صفحة (10):

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/03/5070.pdf

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 10 مارس 2022 – جزء (2) صفحة (10):

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/03/5071.pdf

 

……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..

(2)

كتاب/ أديان العالم – المؤلف/ د. هوستن سميث – المترجم / سعد رستم

الإيمان بالله وبتعدد كتبه ورسله .. مما قصّ علينا ومما لم يقصصّ

 

 

كتاب يُبحر بقارئه في رحلة روحانية متعمقة نحو أديان العالم الكبرى، ليكشف عن روح كل دين وجوهر الحكمة وراء فلسفته وطقوسه وتعاليمه، في لغة تخالف التقليد العلمي السائد القائم في الأساس على عرض كل دين في قالب أكاديمي صرف، بكتبه المقدسة ومعلميه ومعتنقيه ومذاهبه وتعاليمه الرئيسية ومدى انتشاره … الخ، والذي يكون في العادة معززاً بالبيانات والجداول والإحصائيات.

لا تأتي هذه اللغة المختلفة عن هوى أو من فراغ، إنما هي عصارة ممارسات إيمانية حيّة وعميقة لتعاليم تلك الأديان، انهمك فيها المؤلف نحو خمسين عاماً، وأخلص لها إخلاص المؤمن الحقّ. بهذا النهج المتفرّد، لا يعرض المؤلف شيء من آرائه أو انطباعاته الشخصية كباحث في هذا المجال على الرغم من اعتناقه لكل هذه الأديان وممارسة شعائرها طويلاً فوق أراضي معتنقيها، بل جاء عرضه حيادياً بالكلية. أيضاً، لا يعمد المؤلف إلى التجريح أو التهكم مهما حمل أي دين من معتقدات أو ممارسات غير مألوفة قد تدعو لذلك، بل يظهر متصديّاً في بعض الأحيان أمام ما يحوم حول كل دين من أقاويل وشبهات، فيعمد إلى تصحيحها منطقياً وفلسفياً. عليه، يتحلّى الكتاب بالصدق والمصداقية معاً، فالمؤلف تلقّى علوم كل دين من مصدره المباشر، وألّف مؤلَّفه بعد أن اعتنقه ومارسه!

يخصّ الكتاب في ختامه صفحتين لتسطير شيء من سيرة مؤلفه الذاتية. إنه الناسك الروحي البروفيسور د. هوستن سميث (1919-2016). وُلد ونشأ في الصين لأبوين أمريكيين نصرانيين يعتنقان البروتستانتية ويعملان في التبشير، البيئة التي تفتّحت عليها مدارك العالِم الصغير نحو تنوع الأديان وفلسفاتها، وهو الأمر الذي دعاه للالتحاق ببرامج الفلسفة في الجامعات الأمريكية بعد عودته لوطنه وهو في الخامسة عشر من عمره، ليتوّج مسيرته الفكرية بالحصول على درجة الدكتوراة في الفلسفة من جامعة شيكاغو عام 1945، ومن ثم الانخراط في سلك التدريس في عدد من جامعات بلاده العريقة. استمر في اعتناق المسيحية رغم إعجابه الشديد بالحكمة الشرقية، وقد تتلمذ على أيدي رهبان الهندوسية، ومارس الزن من خلال معلمي البوذية، وقد صرّح في إحدى المقابلات بأنه يُديم الصلاة خمس مرات يومياً باللغة العربية منذ ست وعشرون عاماً. عمل على إنتاج سلسلة من الوثائقيات المتلفزة خلال الستينات من القرن الماضي، وله العديد من المؤلَفات في نفس المجال، أشهرها الكتاب الذي بين أيدينا والذي لا يزال يُصنّف عالمياً بالمرجع العلمي الأول في الأديان، وقد وصلت مبيعاته إلى المليون والنصف نسخة كما تشير هذه الطبعة!.

تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الثالثة للكتاب الصادرة عام 2007 عن (دار الجسور الثقافية)، في ترجمة مباشرة للكتاب عن لغته الأصلية (The World’s Religions – By: Huston Smith) والتي عنيّ بها المترجم د. سعد رستم، وهو أكاديمي وباحث سوري حاصل على درجة الدكتوراة في الدراسات الإسلامية بعد أن تحوّل في مرحلته الجامعية عن دراسة الطب البشري إلى هذا الفرع من العلوم. يعيش حالياً في تركيا، وله إسهام كبير في ترجمة الدراسات العلمية الإسلامية، العقائدية والمذهبية.

يعرض فهرس الكتاب عشرة مواضيع رئيسية، بالإضافة إلى مقدمتي المؤلف والمترجم، تبدو أهمها على الإطلاق: (الهندوسية، البوذية، الكونفوشية، الطاوية، اليهودية، المسيحية، الإسلام، الأديان البدائية) ويتفرّع عن كل منها عدد لا بأس به من المسائل التي لا تقل شأناً في الأهمية. من ناحية أخرى، تترافق أوجه الشبه بين مشروع المؤلف وبين أحد علماء التشريح الذي اعتاد أن ينبّه طلاب كلية الطب في اول محاضرة لهم قائلاً في بصيرة: “في هذه المادة سوف نتعامل مع اللحم والعظام والخلايا والأعصاب، وستأتيكم أوقات تبدو لكم فيها كل هذه الأشياء باردة لا حقيقة لها. ولكن لا تنسوا! إنها حيّة تتحرك”.

ومن عبق الروحانيات، أبثّ نفحات مما علق في روحي كما يلي:

  • في إسقاطات لمعنى تمثال ذو أذرع متعددة تعكس رمزياً براعة الإله الواسعة عند الديانة الهندوسية، يرى د. سميث أن فعّالية القصص والأساطير أقوى في أثرها على الإنسان من قوة القوانين والأحكام الرسمية، إذ تنطوي على قيم تنقل بقدرتها اهتمامه من العالم المادي المحيط إلى التفكر في الله وتمجيده والتضرع إليه والنظر في إبداعه .. ومحبته آخراً. من ناحية أخرى، لا يتردد المستشرق ماكس موللر في الإشارة إلى (الهند) كإجابة عن سؤال وُجه إليه حول الأرض التي شهدت أعمق التأملات العقلية وأتت بجملة من الحلول في مسائل الحياة تعني بالإنسان، وتثير كذلك اهتمام من درس فلسفتي كانت وأفلاطون! ولا يتردد من الإشارة إلى (أدب الهند) للإجابة عن سؤال آخر حول الأدب الذي صحّح مفاهيم تشرّبها الإنسان من الفكر اليوناني والروماني ومن ثم عمل على تغذية روحانيته، في سبيل حياة أكثر شمولية وعالمية وإنسانية، ليس في الحياة الآنية فقط بل في الحياة الأبدية كذلك.
  • وعن قوة الاعتناق، ينافس الهندوسي (سوامي) نظيريه البوذيين (دائي) و (لائي). ففي حين سيواصل الأخيران المقرفصان تأملهما اليوم ساعة استيقاظهما في الثالثة فجراً حتى الحادية عشرة ليلاً بغية سبر أغوار بوذا داخلهما، سيواصل الأول تأمله الذي ابتدأه منذ خمس سنوات مقرفصاً صامتاً في قعر داره الواقع فوق قمة جبل الهملايا، مستثنياً ثلاثة أيام في العام يتحدث فيها. وفي نفس هالة النور وعن أولئك الذين ترقوا روحياً في مراتب من الإدراك والوعي والتجلي، تأتي سيرتهم لتعكس نموذجاً أسمى في النوع الإنساني، فهم حكماء، متحررون، أقوياء الشخصية، فائقو السعادة، ما من شيء في الحياة كفيل بأن يعكّر صفوهم العقلي، أو يُقلق طُمأنينتهم، أو يقودهم للصراع، أو يأسرهم، أو يُرعبهم، أو يُحزنهم .. إنهم مبتهجون على الدوام، يجودون على من اختلط بهم بأنوار من قوة وطُهر وانبساط. لذا، ومن طرف آخر، يتصدى أحد اللا أدريين ليناكف أحد الهنود المتنورين، بأنه كان سيجعل للصحة عدوى بدل المرض .. لو كان ربا! فيفحمه الأخير بأن الشكّاك لا يمكنه استيعاب أن الفضيلة هي فعلاً معدية للرذيلة، والسعادة معدية للتعاسة .. كما العدوى بين الصحة والمرض.
  • تتجلى معاني الصيام الإسلامي في الانضباط الذاتي وكبح الشهوات، وفي تذكير الإنسان بضعفه وحاجته الدائمة إلى الله. كما يولّد عنده الشعور بالشفقة والإحساس بالآخرين، إذ لا يشعر بالجوع إلا من جاع فقط، ومن راض نفسه على الصيام تسع وعشرون يوماً يكون أكثر تسامحاً وتفاعلاً مع من يقصده من الجائعين. وفي استنباط لافت للنظر، يشير د. سميث إلى كلمة (القراءة) كمعنى مشتق لكلمة (القرآن)، وبأنه الكتاب الأكثر تلاوة وحفظاً وتأثيراً على مستوى العالم. فلا عجب أن يكون (معجزاً) كما سمّاه نبيه وأتباعه من بعده.

ومن عبق الروحانيات كذلك اقتبس شذرات تثري الروح (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):

  • يحفل الأدب الهندي بالاستعارات والتشبيهات والصور البيانية التي توجّه أنظار الإنسان نحو “الوجود المطلق اللانهائي” في الكون الفسيح، والكامن عميقاً بين ثنايا وجدانه. تقول إحداها: “إننا مثل شبل أسد فقد أمه بعد ولادته، فعاش صدفة بين مجموعة من الخرفان، فصار يرعى ويأكل العشب معهم ويثغو مثلهم، ظاناً نفسه خروفاً كأقرانه! إننا مثل العاشق النائم الذي يحلم في منامه أنه يجوب الدنيا بحثاً عن حبيبته دون أن يجدها، غافلاً عن كونها مستلقية على الفراش إلى جانبه”. وهو لا يزال في هذه الأجواء، ينتقد د. سميث ربط التماثيل الهندوسية بمعاني الوثنية أو الشرك أو تعدد الآلهة، بل يعتقد بإنها مسارات تتنقل خلالها الحواس البشرية نحو “الأحد” أو “تطير من الأحد نحو الأحد”. ويضرب في هذا مثلاً بكاهن القرية الذي يعتقد بأن حدود إمكانياته البشرية تسببت له بثلاث خطايا يرجو غفرانها، فيفتتح صلواته بدعاء: “يا رب! اغفر ثلاثة خطايا ناجمة عن حدودي البشرية .. أنك في كل مكان لكني أعبدك هنا .. إنك من غير شكل ولا جسم، ولكني أعبدك في هذه الأشكال .. أنك لا تحتاج إلى الثناء والمديح ولكني أقدم لك هذه الصلوات والتحيات .. رب! اغفر ثلاثة خطايا ناجمة عن حدودي البشرية”.
  • تتجلى معاني الوحدانية الإلهية في ترانيم الطاوية، فـ: “هناك كائن رائع وكامل .. وُجد قبل السماء والأرض .. كم هو هادئ .. وكم هو روحي .. يبقى وحيداً لا يتغير .. يوجد قريباً وبعيداً .. هنا وهناك .. ومع ذلك فهو لا يعاني من هذا التواجد .. يلف كل شيء بحبه كثوب يغطي كل شيء .. ومع ذلك فلا يدّعي شرفاً أو مقاماً ولا يطلب أن يكون سيداً .. أنا لا أعرف اسمه ولذلك اسميه (طاو) الطريق .. وأبتهج بقوته”. وفي لغة صوفية تحلّق بعيداً عن رحب ميدان رياضة اليوغا وتتقاطع مع العشق الرومي، تنساب الوصية عذبة بأن: “كل ما يجب علينا فعله في هذه اليوغا أن نحب الله حباً جما، لا مجرد أن نقول بلساننا أننا نحب الله، بل نحبه حقاً، ونحبه وحده، ولا نحب شيئاً غيره إلا لأجله، ونحبه لذاته لا لغرض آخر أو هدف أبعد، حتى ولا انطلاقاً من الرغبة بالخلاص والتحرر، بل نحبه للحب فقط. نجاحنا في ذلك يمنحنا بهجة وسعادة، لأنه ما من تجربة يمكن أن تقارن بتجربة من يعيش حباً تاماً صادقاً. علاوة على ذلك، كلما قوي تعلقنا بالله واشتد حبنا له، كلما ضعفت سيطرة العالم علينا. نعم قد يحب القديس العالم، بل هو يحبه فعلاً أكثر من محبة المدمن له، لكن حبه للعالم يختلف تماماً عن حب الآخرين له. إنه يحبه لأنه يرى فيه انعكاساً لمجد الله الذي يعبده”.
  • وفي إنصاف وحيادية معهودة، يؤكد د. سميث على الحرية الدينية التي تمتع بها اليهود والنصارى والهندوس إبان الحكم الإسلامي شرقاً وغرباً. وفي مقارنة بين سماحة المسلمين الأتراك مع النصارى عند فتح القسطنطينية، وبين جرائم محاكم التفتيش التي نصّبها الصليبيون الأسبان لتعذيب المسلمين بعد سقوط الأندلس، يعتقد المسلمين أن “سجل المسيحية هو السجل الأكثر سواداً في هذا الصدد”، بينما يتفق المؤرخون المنصفون بأن “سجل الإسلام في استخدام القوة لم يكن أبداً أظلم من سجل المسيحية”. وأختم في مسك بقول د. سميث عن لغة القرآن، حيث يقول مقتبساً بدوره: “لا يوجد شعب في العالم تحركه الكلمات، سواء المقولة شفهياً أو المكتوبة، كالعرب. من النادر أن يكون لأي لغة في العالم تلك القدرة على التأثير على عقول مستخدميها كالتأثير الذي لا يُقاوم للغة العربية” ثم يُعقب قائلاً: “يمكن للجماهير في القاهرة أو دمشق أو بغداد أن تُلهب مشاعرها وتُثار إلى أعلى درجات الإثارة العاطفية ببيانات، إذا ما تمت ترجمتها تبدو عادية”.

عجباً كيف تختلف الأديان برمتها، لكنها تصبّ انتهاءً في عبادة الله وحده التي تحقق السكينة الروحية كمطمح أزلي. إن هذا الكتاب يدفع بالفضول نحو المزيد من البحث حول كل دين، لا سيما أن الطرح يكتنفه قدر من الصعوبة قد يعود إلى النظرة التحليلية الفلسفية التي يتأسس عليها الكتاب في تناوله للأديان، أو الصعوبة المتعلقة بجوهر كل منها، أو للترجمة في أحايين قليلة. ومن جانب شخصي، لا يغفل المؤلف عن إسداء جزيل الشكر والعرفان لزوجه التي لم تدّخر جهداً في تنقيح ومراجعة كتاب زوجها بكل سعادة، الذي لم يكن متوقعاً له تحقيق أعلى نسبة في المبيعات قبل طرحه .. في لفتة شاعرية منه بل وروحانية.

إنه ليس كتاب ترويجي ولا تبشيري ولا مقارن ولا نقدي، بل روحاني بالدرجة الأولى، يقدّم للقارئ خلاصة ما اكتسبه مؤلفه من معرفة وجدانية وتجارب روحانية عاش بها ولها ومعها، يجود فيه على القارئ بأنوار من فكر وأبعاد من إدراك، ووعي وحكمة وبصيرة، وأفق أكثر رحابة، نحو تصور جديد للحياة وجوهر وجود الإنسان فيها، بما يحيطه من مصاعب وآلام وتحديات، وطرق مواجهتها من زوايا دينية أكثر اتساعاً من ذي قبل .. لتصبّ جميعها في نهاية المطاف في فضاء الحقيقة المطلقة: (الله الأحد).

ومسك الختام .. (لا إله إلا الله) بها نحيا وبها نموت وبها نلقى الله.

 

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 16 مارس 2022 – جزء (1) صفحة (10):

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/03/5076.pdf

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 17 مارس 2022 – جزء (2) صفحة (10):

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/03/5077.pdf

 

……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..

(3)

كتاب/ العرب: وجهة نظر يابانية – المؤلف/ نوبواكي نوتوهارا

صورة العرب من خلال مرآة يابانية

 

 

كتاب على قدر وافر من الحيادية بل والمصداقية يدور محوره حول أمة العرب، سُطّر بقلم وعين وقلب مستعرب ياباني أمضى ما يقارب الأربعين عاماً من عمره بين أبنائها وعشائرها، ويرى أن (عشرته) الطويلة تلك تعطيه نصيب من الحق في التحدث وبصدق عن قوم ألفهم وألفوه.

لذا، لا بد أولاً من التعريف بالكاتب كـ (مستعرب) لا كـ (مستشرق)، إذ أن (المستشرق) يكون عادة غربياً تناول الثقافة الشرقية كمادة للبحث والدراسة وهو قطعاً لا ينتمي للشرق لا عرقياً ولا جغرافياً ولا ثقافياً، كالإنجليزي آرثر جون آربري الذي عنيّ بترجمة معاني القرآن الكريم، والمؤرخ الفرنسي إرنست رينان الذي درس سيرة الفيلسوف المسلم ابن رشد. بينما يكون (المستعرب) هو من تناول الثقافة العربية وتأثر بها وهو لا ينتمي لبني العرب لكنه جاورهم وساكنهم، مثل الأمازيغ والموريسكيين الأسبان في المغرب العربي والأكراد في مشرقه.

لا يتحدث المستعرب نوبوأكي نوتوهارا (1940) في مقدمة كتابه عن نفسه كثيراً، فيكتفي بعرض مسيرته مع اللغة العربية، حيث ابتدأها عام 1961 حين افتتحت جامعة طوكيو للدراسات الأجنبية قسماً للدراسات العربية فيها، فالتحق وتخرج فيه بعد أربع سنوات. عمل بعد تخرجه كأستاذ مساعد في جامعة طوكاي، ثم معيداً في جامعته الأولى عام 1969، ليحصل عام 1974 على منحة خاصة من الحكومة المصرية للالتحاق بجامعة القاهرة كطالب مستمع، حيث استهل ابداعه الحقيقي من خلال الانكباب على القراءة والكتابة والترجمة، بالإضافة إلى الانخراط مع الفلاحيين في الدلتا. يتوّج مسيرته بعد ذلك في الارتحال إلى بادية الشام ومعاشرة البدو ردحاً من الزمان، في تجربة غنية لم يعايشها من ذي قبل كياباني تخلو أرض آبائه من بادية. يسترجع نوتوهارا في خاتمة كتابه وبحميمية ذكرياته مع أصدقاء مسيرته العرب الذين يكنّ لهم الكثير من الإعزاز والامتنان في مصر واليمن وسوريا والمغرب، وتجمعه بهم روابط مشتركة وذكريات دافئة رغم بون ثقافة مختلفة لا تشبهه في شيء!.

ينتقد المستعرب في الكتاب وبشكل رئيسي الأوضاع السلبية الجسيمة التي تعاني منها المجتمعات العربية في العموم، حيث القمع، الحاكم المعمّر، انعدام الديمقراطية، هدر حقوق الإنسان، السجناء السياسيين، تهميش المواطن، انعدام الشعور بالمسئولية، غياب العدالة الاجتماعية، حقوق المرأة، عدم توظيف الدين الإسلامي بشكل صحيح، تتبع النمط الأوحد، رهاب قول الحق، الطغيان وفوقية أصحاب السلطة على القانون ….. وغيرها الكثير. وما يضاعف من مرارة هذه الحقيقة الدامغة هو أن القارئ العربي (المحايد) لا يملك إلا أن يومئ برأسه -ولو على استحياء- إيماءة إقرار واعتراف لما عرضه (مستعربنا) من عار وشنار، في الوقت الذي يبرر موقفه مردداً: “رحم الله امرئ أهدى لي عيوبي”.

وفي منأى عن العاطفة التي تتملك المستعرب نحو أصدقائه العرب، فإنه يعزز قيمة الموضوعية التي حرص عليها في كتابه من خلال “تجربة صعبة ومريرة” واجهها كياباني مع قومه أجمعين! فعندما سيطر العسكر على مقاليد البلاد ورقاب العباد وزجّوا بهما في حروب طاحنة ضد دول الجوار، آلت اليابان إلى دمار شامل على يد الولايات المتحدة الأمريكية في أعقاب الحرب العالمية الثانية. لقد دفع الشعب الياباني الثمن باهضاً الأمر الذي دفعه لأن يكون أكثر وعياً وأن يعترف بالخطأ ويستفيد من الدرس، فأبعد العسكر عن السلطة، وبنى ما دمّره القمع السياسي، واستغرق الإصلاح أكثر من عشرين عاماً عانى فيها اليابانيون الأمرّين. فمن الدروس التي لا ينساها الشعب الياباني كما يقرّ المستعرب هي “إن القمع يؤدي إلى تدمير الثروة الوطنية وقتل الأبرياء ويؤدي إلى انحراف السلطة عن الطريق الصحيح والدخول في الممارسات الخاطئة باستمرار. لقد ضحى اليابانيون جميعاً بأشياء كثيرة تحت سلطة القمع العسكرية، ولكن كان هناك فئة تربح دائماً ولا تخسر شيئاً هي فئة التابعين للسلطة العسكرية، أعنى حاشية السلطة وأعوانها ومخبريها”. وإن اللبيب من الإشارة يفهم.

تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الأولى للكتاب والصادرة عام 2003 من منشورات الجمل، والتي يتطرق فيها الكاتب إلى سبعة مواضيع رئيسية في بلاد العرب. فيُثني على جمال الأدب العربي الذي تعلّمه وعلّمه ويطري عدد من الأدباء العرب، ويتحدث بإسهاب عن ثقافة البدو الذين عاش معهم فترة لا بأس بها من الزمن حيث يرى أن البادية العربية هي الموطن الأصلي للعرب، وهي الأرض الخصبة للتأمل والفلسفة ونشوء العقيدة، ويتفاعل ويتعاطف كذلك مع القضية الفلسطينية ويؤازرها بصدق حيث يرى أن الإعلام مضلل فيما يتعلق بها، كما يطري الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، ويمنحه لقب “الأديب الشهيد”. وبدوري، أتطرق في الأسطر القادمة مع شيء من التعمق إلى أبرز ما جاء في الكتاب من قول صريح موجع، وباقتباس يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) كما يلي:

  • يسود الشعب العربي حس منعدم بالمسئولية لا سيما تجاه مقدّرات الوطن، فإنما هي أملاك الحكومة لا أملاكه. ففي تلك المجتمعات التي يحرص فيها كل فرد على التميّز إما بكنية أو قبيلة أو منصب أو درجة علمية في ظل غياب العدالة وسيادة القمع وذوبان الاستقلالية الفردية، يُصبح غياب “الوعي بالمسؤولية” نتيجة حتمية وسمة بارزة. “ولذلك لا يشعر المواطن العربي بمسؤوليته عن الممتلكات العامة مثل الحدائق العامة والشوارع ومناهل المياه ووسائل النقل الحكومية والغابات، باختصار المرافق العامة كلها، ولذلك يدمرها الناس اعتقاداً منهم أنهم يدمرون ممتلكات الحكومة لا ممتلكاتهم هم”. إن غياب هكذا شعور بالمسئولية العامة يولّد مظهراً آخراً أشد خطورة، وهو غياب الشعور بالمسئولية تجاه أفراد المجتمع بعضهم ببعض. يضرب المستعرب في هذا مثلاً بالسجناء السياسيين في البلدان العربية الذين ضحّى بهم الشعب، رغم أنهم ضحّوا بمصيرهم وبشجاعة من أجله. يعقّب المستعرب مستنكراً: “فلم نسمع عن مظاهرة أو إضراب أو احتجاج عام في أي بلد عربي من أجل قضية السجناء السياسيين. إن الناس في الوطن العربي يتصرفون مع قضية السجين السياسي على أنها قضية فردية وعلى أسرة السجين وحدها أن تواجه أعباءها”. ومن ناحية أخرى، وعن التقديس الأبوي، يصف المستعرب (أبوة) الحاكم العربي (لأبنائه) من الرعية بـ “الظاهرة الغريبة”، إذ يعتبر اليابانيون كلمة “يا أبنائي ويا بناتي” التي يخاطب بها الحاكم العربي شعبه عادة “إهانة بالغة”. فيرفضها كياباني قائلاً: “نحن لا نقبل بهذه الصيغة! نحن نقول لرئيس الوزراء أنت حر في بيتك، ولكن خارج البيت نحن لا نسمح لك”. ومن جملة الاستنكار، يهزأ من ثقافة (مدح السلطان) الضاربة بجذورها في تاريخ العرب، حيث: “نحن نستغرب ظاهرة مديح الحاكم كما نستغرب رفع صوره في أوضاع مختلفة كأنه نجم سينمائي أو مطرب ذائع الصيت”.
  • يستمر المستعرب ليصرّح بأن فضيلة الحرية هي أساس الحياة الكريمة والبوابة إلى العمل والإنتاج والإبداع، ويشبّه القمع بداء عضال ينبغي قهره حتى لا تفقد البشرية الكثير من معانيها. فيقول ضمناً: “وفي سياق الكلام عن الحقيقة فأنني أضيف أن الناس في الوطن العربي يخبئون الحقائق التي يعرفونها حق المعرفة”. يستشهد في هذا بـ (سجن تدمر)، الذي وعلى الرغم من زيارته لمدينة تدمر خمس مرات وزيارة متحفها الشعبي هناك إلا أنه لم يكن يعلم بوجود سجن شهير فيها يحمل اسمها، ولم يكن بالطبع يعرف موقعه! ولهذا مبرر سيكولوجي، حيث “إن الخوف يمنع المواطن العادي من كشف حقائق حياته الملموسة، وهكذا تضيع الحقائق وتذهب إلى المقابر مع أصحابها”. ومع ذكر هذا المتحف، يُعرب الياباني عن استغرابه -ولا أستغرب- وهو يتجول في (السوق السوداء) للآثار العربية، حين يهمس له بالإنجليزية أحد موظفي متحف على حدود إحدى البوادي العربية بـ: “أن اشتري سراً بالطبع قطعاً أثرية. لم أصدق أذني في البداية ولكنه أكدّ لي بوضوح أنه يستطيع أن يؤمن لي قطعاً نادرة، ولم ينس أن يؤكد أننا لن نختلف على السعر”. يستهول المستعرب الياباني إثم خيانة الوطن والضمير والشرف، فيعقّب متعجباً: “شيء لا يصدق” .. غير أن أبناء العرب أنفسهم يصدّقون، بل وبإمكانهم تخمين في أي متحف أو (سوق) عربي كان يتجول!.
  • أما في ثقافة المجتمع العربي الذي يبدو إقطاعياً، فلا يُنكر القوم سلوك طفل ربط عنق عصفور بحبل يجرّه فوق التراب بينما العصفور يرفرف في بؤس مستنجداً، فهو مشهد طبيعي تألفه العين ويتكرر في الحياة اليومية، وإنما هو “طفل يتسلى بلعبة” أو مجرد “ضعيف تحت سيطرة قوي”. يكمل المستعرب قائلاً: “والناس يقبلون سلوك المسيطر القوي ويرضخون له، أي يسمح المجتمع أن تسيطر قوة على أخرى أضعف منها”. ومن المواقف التي شهدها المستعرب تصبّ في ثقافة الغالب والمغلوب، الفتى ذو العشر سنوات صاحب عربة الخردوات، والذي تصدمه بسيارتها إحدى معارف المستعرب وهي تقلّه بعد حضوره مؤتمر في ذكرى ميلاد الكاتب طه حسين، فيسقط وتتبعثر أشيائه الصغيرة في حين ترمقه تلك بشرارة حارقة وماطرة بوابل من شتائم كـ “الحيوان المتخلف الغبي”. يعتصر لحظتها قلب المستعرب ألماً ممزوجاً بالعجب ويقول: “أنا لم أتوقع منها هذا السلوك اللاإنساني الفظّ تجاه شاب فقير يسعى لكسب رزقه في ظروف صعبة وعلى عربة خشبية بسيطة! إني أرى سلوكها سلوكاً عنصرياً تجاه من هم أقل مرتبة في سلم الغنى لأنها تملك سيارة”. وفي خضم حديثه عن الجيل يتحدث عن التعليم، وهو حديث يجده المستعرب ذو شجن، حيث ينتهي المطاف بالفتيان والفتيات النوابغ في البادية إلى حال الأفراد العاديين في ظل غياب الاهتمام والرعاية الاجتماعية. فيتحدث عن ابن صديقه السوري، جاسم الهادئ الصامت، الذي “يشع من عينيه ذكاء خاص وشرود يشبه شرود المتأمل. كان دائماً يراقبني بهدوء ويتحدث معي بالطريقة نفسها. كل شيء في ذلك الطفل كان يوحي بأنه سيصبح كاتباً أو شاعراً لو كان طفلاً في اليابان. بعد عشر سنوات رمى جاسم موهبته كلها وأصبح راعياً نموذجياً كما يتوقع منه المجتمع”. وأتساءل بدوري في شجن أعمق: كم من عالم ومفكّر وكاتب وشاعر في وطننا الفسيح يقطن البوادي ويرتدي زي الرعاة ويرعى القطعان حتى الممات؟
  • ينتقل المستعرب بعد ذلك ليتحدث عن ظاهرة الفوضى الجماعية التي يدور رحاها يومياً عند مواقف الحافلات في المدن المصرية، حيث تكتظ الحشود ويختلط الحابل بالنابل في سعي حثيث نحو الركوب أو (الشعبطة) بأي ثمن كان، فيستنكر معقّباً: “وفي هذا الازدحام المحموم ينسى الكثير من الرجال والنساء السلوك المحتشم الذي يوجبه عليهم الإسلام كمسلمين”. وفي فطنة يابانية، يستغل المستعرب ثقافة (الحلال والحرام) ليواجه بها احتيال بعض العمّال أثناء إقامته الطويلة في مصر مقابل إصلاحات منزلية، فيتوعد هؤلاء قائلاً: “ألا تخاف الله؟ أنا سأطالبك بالنقود الزائدة التي أخذتها مني يوم القيامة”. ليخلص أن “الجميع كانوا يخافون فعلاً ويأخذون أجرهم في حدود ما كانوا يسمونه الحلال”. وهو لا يزال يتعرّض للسلوك الاجتماعي عند العرب، يفرّق المستعرب في شاعرية بين غضّ النظر وتذوق الجمال، مستشهداً بقول عنترة بن شداد: (وأغض طرفي إن بدت لي جارتي .. حتى يواري جارتي مأواها). ولا يزال يستنكر حجب المرأة بعد أن علم أن: “على المرأة أن تخبئ جسمها لأنه عورة أو لأنه فتنه. وفي الريف على المرأة الجميلة أن تختبئ هي أيضاً في البيت وكأن الجمال لعنة أو ملكية ضيقة ليست للظهور أبداً”.
  • وعن الازدواجية، وكإسقاط لشخصية (أحمد عبدالجواد) في (ثلاثية نجيب محفوظ) الثلاثي الأبعاد في البيت والحي والماخور، يتحدث المستعرب عن انطباعه حول معلماً مصرياً زار طوكيو لفترة، وقد كان رغم كونه لطيفاً واجتماعياً “لاهياً إلى أقصى الحدود ومنغمساً في الملذات انغماساً لا يعرف الارتواء”، ولم يكن يتورع عن التصريح بمذهب اللذة الذي كان يعتنقه. زاره المستعرب بعد ذلك في منزله في إحدى أحياء القاهرة الشعبية، وقد هاله “التبجيل المضخم” المقدم لـ (حضرته) من قبل زوجته وابنتيه، فيُعلق قائلاً: “ولقد بدى لي الأب الذي يمثل الاستقامة والأخلاق الصارمة والحفاظ على كل مظاهر الشرف”. وقبيل الغداء، لاحظ المستعرب صاحبه وهو يراوغ لسحبه خارج الدار خلسة نحو خمّارة، ليبدئا بشرب الخمر قبل الوجبة على عادة اليابانيين. وعودة على رواية (سي عبدالجواد)، فقد كانت مهمة تسمين البنات وظيفة الخادمة الأساسية باعتبار أن السمنة النموذج المرغوب به للزوجة الموعودة. عليه، كانت الزوجة والبنتان يرزحن تحت وطأة أرطال من الشحم واللحم، وقد اشتكت البنتان له صدمتهما الثقافية بعد انخراطهما في الجامعة وسط عالم النحيفات، وقد وجدتا النحافة بالنسبة لهما: “شبه مستحيل في ذلك البيت، لأنهم يحافظون على نظام الطعام المليء بالشحوم والدسم والمشويات ونظام القيلولة الطويل”. فيحذًر المستعرب بقوله: “وما لم يتغير النظام نفسه فإن البنات سيعانين من مشاكل السمنة اجتماعياً على الأقل”. ويكمل في صراحة مزعجة قد تثير عنصرية ذوي النزعات الذكورية، إذ يقول: “ليس صديقي وحده مزدوجاً! إن معظم الرجال العرب الذين قابلتهم لهم قيمتان، واحدة في البيت وأخرى في الحياة العامة. الرجل العربي في البيت يلحّ على تثمين قيمته ورفعها إلى السيطرة والزعامة، أما في الحياة العامة فأنه يتصرف وفق قدراته وميزاته ونوع عمله. وهذان الوجهان المتناقضان غالباً ينتج عنهما أشكال لا حصر لها من الرياء والخداع والقمع”.
  • ومن حافة بعيدة، كان البيت المتهالك على أطراف مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في دمشق يقطنه رجل خمسيني، وقد برّر تهالكه للمستعرب قائلاً: “هذا بيت مؤقت. بيتي الحقيقي هناك في فلسطين. نحن نسكن هنا بصورة مؤقتة وسنعود إلى ديارنا عاجلاً أم آجلاً، وإذا وضعنا سقفاً بشكل كامل فهذا يعني إننا نتنازل عن العودة”. استأذن العجوز ثم عاد يحمل معه مفتاح بيته في فلسطين وقد اعتبره شيئاً نفيساً، واستطرد قائلاً: “كلنا نحتفظ بمفاتيح بيوتنا. نحن هنا بصورة مؤقتة”.

وقبل الختام، لا بد لهذا الكتاب الناقد أن يحظى بشيء من النقد الأدبي لا سيما من قرّائه العرب وقد خصّهم. إنه كتاب سليم اللغة واضح المفردات، جاءت كلماته على سجيتها عكس ما تميل إليه بعض كتابات المستشرقين/المستعربين من استخدام ألفاظ ممعنة في الفصاحة استخرجوها من بطون قواميس لغة الضاد، تستعصي على فهم أبناء يعرب أنفسهم. وهو كذلك مسترسل بانسيابية في سرد الأفكار حول موضوعاته المختلفة، ومثير في أسلوبه الأدبي لعاطفة القارئ، سواء سلباً أو إيجاباً. غير أنه بالفعل جاء خصب الخيال في إيراد الكثير من الأمثلة لتوضيح فكرته وتعزيز رأيه، كما أنه مباشر وجذاب في عنوانه، حيث يُقرأ الكتاب منه، بل ويثير الفضول نحو قراءته فعلاً ولربما التحفظ بعد قراءته! بالإضافة إلى هذا، فهو كتاب موضوعي حيادي رغم العاطفة المتأصلة بين الكاتب والعرب الذين جعلهم موضوع كتابه، وكما كان يؤكد باستمرار “أنني أعطيت القضية العربية عمري كله، فمن حقي -ربما- أن أقول شيئاً”.

أخيراً، أختم في أسى وأنا أشاهد قومي العرب كما شاهدهم المستعرب من خلال مرآته اليابانية صامتون ذاك الصمت الذي يجهر مدوياً في جلّ حركاتهم وسكناتهم! وأتساءل معه تلك التساؤلات “البسيطة والصعبة” وقد طويت الكتاب لكنها رافقتني كما رافقته من ذي قبل: “لماذا لا يستفيد العرب من تجاربهم؟ لماذا لا ينتقد العرب أخطائهم؟ لماذا يكرر العرب الأخطاء نفسها؟ وكم يحتاج العرب من الوقت لكي يستفيدوا من تجاربهم ويصححوا أخطائهم ويضعوا أنفسهم على الطريق السليم؟” .. وما أشبه الليلة بالبارحة!.

كتاب يبدو أنه كان محظوراً عند إصداره، وقد وصل إلى مكتبتي من مدينة لندن حينها. وأنها لمفارقة أن يتطرق المستعرب في كتابه إلى التعسف السياسي العربي الواضح من خلال إحكام الرقابة، ومصادرة الكتب، وتكميم أفواه الكتّاب!.

قرأته .. وأعدت قراءته بعد أعوام للمرة الثانية .. وقد أقرأه للثالثة، علّ تاريخ العرب في الثالثة لن يعيد نفسه!.

 

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 23 مارس 2022 – جزء (1) صفحة (10):

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/03/5079.pdf

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 24 مارس 2022 – جزء (2) صفحة (10):

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/03/5080.pdf

 

……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..

(4)

كتاب/ الألم النفسي والعضوي – المؤلف/ د. عادل صادق

إن هنالك أبعاداً وجدانية للآلام الجسدية

 

 

هل يمكن للألم العضوي أن يُستثار فيتضاعف أو يُهمل فيخبت؟ إن هذا التفاعل المتناقض ليس سوى انفعالاً وجدانياً مصدره (العقل) وحده، يصبّ في حقيقة (الألم) كمعنى، أو بالأحرى معنىً خاص يتشكّل بصورة أو بأخرى لدى كل إنسان على حدة، حسب الشخصية أو الموقف أو التوقيت أو الاستعداد، وغيرها من عوامل في قائمة لا تنتهي. في هذا المعنى، يعرض المؤلف رأيه العلمي بلغة عذبة مستخدماً أسلوب السهل الممتنع رغم مادة الكتاب العلمية الخالصة، والتي تصل بالقارئ في نهاية المطاف إلى قدر عالٍ من التصالح النفسي والسلام الداخلي. غير أن الكتاب لا يصلح للقارئ “الموسوس” الذي قد تلحق به علّة ما من حيث لا يحتسب تعود لهواجسه وحسب، والتي تحيل كل مرض عضوي لسبب نفسي، ظاهر أو خفي!.

وعن المؤلف، فهو د. عادل صادق (1943 : 2004)، تعلّم وتخرج في كلية الطب عام 1966 نزولاً على رغبة والده، رغم ميله نحو الأدب والفن الموسيقى، ثم حصل على درجة الدكتوراة في الأمراض العصبية والنفسية عام 1973، وعمل أستاذاً للطب النفسي والأعصاب بكلية طب عين شمس. شغل مناصب أخرى منها رئيس تحرير مجلة الجديد في الطب النفسي، وأمين عام اتحاد الأطباء النفسيين العرب، وافتتح عام 2000 مستشفى يحمل اسمه لعلاج الإدمان والأمراض النفسية لا يزال تمتد شهرته على مستوى الشرق الأوسط. عُرف بالنبوغ منذ صغره وبدماثة الأخلاق وإخلاصه للعمل وسعيه الحثيث نحو رفع وعي المجتمع بالمرض النفسي وسبل علاجه، وذلك من خلال مؤلفاته وأبحاثه التي تجاوزت الثلاثين إصدار، والتي أهلّته عام 1990 للحصول على جائزة الدولة في تبسيط العلوم.

يعالج المؤلف من خلال كتابه القصير سبعة مواضيع رئيسية. فيبدأ في الفصل الأول -وبشيء من فلسفة- بالحديث إجمالاً عن الألم، كإحساس وكانفعال وكعقاب للذات وكوخز للضمير وكبديل للصراع وكتعبير عن العدوان وعن الحب أيضاً، لينتقل في الفصل الثاني إلى الحديث تفصيلاً عن الأمراض النفسية وارتباطها بالألم، كالقلق والهستيريا والفصام والاكتئاب والتوهم المرضي، في حين يعرض في الفصل الثالث أنماط الشخصيات من منظور علاقتها بالألم، كالشخصية القهرية والشخصية الهستيرية والشخصية القلقة. أما الفصل الرابع فيوّضح فيه المؤلف ماهية الأمراض النفسجسمية متطرّقاً إلى الآلام المصاحبة لها، كالصداع والروماتيزم وآلام الوجه وآلام أسفل الظهر، بينما يخصّ الفصل الخامس للمرأة وللحديث عن آلامها كأنثى وكأم، وعن آلامها المرتبطة بطفلها تحديداً وقد أسماها بـ (المحيّرة). وقبل الختام، يُفرد المؤلف الفصل السادس لطرق العلاج، ومن ثم يختم في الفصل السابع حديثه عن معنى الحياة، وكيف أن الحياة بلا ألم إنما هي حياة بلا معنى .. أو بكلمة أخرى هي (الموت).

تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الثانية للكتاب والصادرة عام 2015 عن دار الصحوة للنشر والتوزيع، وهي تستلهم من كنوز المؤلف المعرفية ما يبعث على الأمل، وتقتبس منها نزراً يسيراً بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر)، كما يلي:

  • المخ مركز الإحساس بالألم، وبدونه لا شعور للألم .. وكأنه سيد الأعضاء، على الرغم من أن المخ لو قُطع بسكين لما شعر الإنسان بشيء “ومن العجيب أن نعرف بعد ذلك أن المخ هو الذي يدرك الألم الصادر عن أي مكان في الجسم”. ومن العجيب كذلك أن يتم إدراك الألم في عضو ما دونما أي استثارة لنهاياته العصبية، فقد يسمع إنسان ما صوت جرس دون وجود جرس حقيقي، كما يستشعر مريض ما ألماً في رجله رغم بترها. إذاً إن للعقل دور حيوي، إذ يتدخل فيجعل من الألم (عملية وجدانية)، إما أن يستشعر الألم ويضخّمه، أو أن يستبدله بشيء من الرضا والمرح، وكل هذا يعتمد في الأساس على استعداد الإنسان وعلى انفعالاته وتوقّعاته وتاريخه مع الألم. عليه، لا بد وأن يتعاطف الإنسان مع ألمه، فينحاز أو يميل، إذ أن حيادية المشاعر تعني التبلد .. تعني الموت، ولا يصاب بهذه الحيادية إلا المريض العقلي.
  • إن المسار الحقيقي للألم يبدأ من العقل وينتهي في الجسد .. من الوجدان إلى العضو، إما حقيقة أو وهماً، وقد تكثر الأوهام وقد يتمسك بها المريض طالما أنها تحقق له منفعة ما .. قد نكون فعلاً نحتاج لآلامنا! ومن هذه الحقيقة يرى المؤلف أن الألم يرتبط وبقوة بالحب، فقد يحتاج إنسان ما لحظة موته إلى الحب، فيبثّ عقله ألماً إلى جسده فوراً، فينادي على من يحب ليحصل على آخر جرعة حب .. الألم هو النداء، وهو استعادة لخبرة حب أو لحظة حب أو موقف حب .. وقد يموت شريك عمره أو رفيقه العزيز، فتزوره آلام في نفس الأعضاء التي تألم منها شريكه، كنوع من التعبير عن الأسى! يستمر المؤلف وهو يكشف جانباً من الإنسان يحرص على إخفائه، فقد يكبر أحدهم ويتعلم وينضج ويوصف بالمتزن والعاقل، غير أنه في لحظة ضعف إنساني واحدة كخوف أو وحدة أو تعب أو تهديد، يفزع الطفل في داخله فيصرخ منادياً على من يحب أن: “كن بجانبي وابعث الدفء في وحدتي”.. ألم داخلي يمتزج بألم خارجي! أيهما الأصل وأيهما الصورة يا ترى؟ لكنه يبدو من ناحية أخرى ألماً ضرورياً، حيث يأتي الألم أحياناً ليحمي الإنسان بشكل ما .. إنه حقاً ضروري كالأكسجين! فعند موت إنسان عزيز لا بد وأن تكون معاناة الألم عند شريكه أقوى من معاناة الفقد، وإلا فقد عقله، فمن غير الأكسجين تموت خلاياه ومن غير الألم تموت نفسه. لكل منا عزيز، يرقى ارتباطه به ليصبح كرباط الجسد، ويصبح موته كفقد جزء من هذا الجسد. يقول د. صادق: “إنه شكل من أشكال التوحّد التي لا غنى للإنسان عنها في رحلة حياته .. وإلا مات الإنسان”.
  • يتوقع المؤلف أن حياة بعض المرضى ستضطرب لو أن عقاراً سحرياً شفاهم كلية من أمراضهم التي عانوا منها سنيناً طوالا، حيث إن هذا الألم كان في حقيقة أمره (دعامة) وعامل استقرار لهم، فلما زال، زال الأمان، وأصاب حياتهم بالارتباك! يستطيع الجسد تحمّل آلاما جمّة، لكن النفس لا تستطيع حمل صراعات الهزيمة والفشل والموت، فيأتي الجسد ليحيط بالنفس كالمظلة. يقول د. صادق: “الجسد مظلة تحيط بالنفس .. مظلة تتلقى أشعة الشمس الحارقة فتكتوي بها وتمنعها عن النفس”. وفي حديثه عن الاكتئاب، يعترف له أحد أساتذته بأن الاكتئاب يسبح في دمه، ويحيله ناراً يشعر بلسعها في جسده وفي ملابسه، تكاد أن تصيبه بالجنون. يقول د. صادق: “معظم الناس تنسى أنها ستموت” ويستطرد ليقول: “المكتئبون يرحبون بالموت”. لذا، عادة يشير المريض العضوي إلى ألمه، لكن لا يستطيع المريض النفسي فعل ذلك! إن مرضه أفدح فتراه يشير إلى السماء.
  • يشرح المؤلف حالة أم لم تجد ابنتها في نهاية يوم دراسي وهي تنتظرها كعادتها عند بوابة المدرسة، فصعدت الدماء إلى رأسها عندما نهشتها أوهاماً مخيفة كاختطاف ابنتها أو قتلها، ما أصابها بالصداع المزمن من وقتها، على الرغم من أنها وجدت ابنتها أمامها في لحظة أوهامها تلك! لا تزال تلك الأم تعتقد أنها مصابة بورم في المخ بسبب هذا الصداع المزمن. وفي حالة أخرى يصف المؤلف صاحبها قائلاً: “ينفجر رأسه بالصداع أو يشتعل بطنه بالأوجاع” .. إنه صاحب الشخصية القهرية، حيث أن القلق هو أهم حالة نفسية تصيب الإنسان بالصداع، وقد يتزامن بتزامن القلق في حياة الإنسان، وفي أسوأ الحالات يصيب حياته بالشلل .. فلا تفكير ولا تركيز ولا عمل. يقول د. صادق: “وفي حالة القلق المزمن يألف الإنسان الصداع بحكم العشرة وتمضي حياته والصداع في رأسه أو على رأسه”. وعلى الرغم من أن أصحاب الشخصية القلقة ترعبهم فكرة الموت، إلا أنهم يعيشون زمناً أطول عن أصحاب الشخصيات الأخرى، وذلك حسب آخر (مفارقات) التقارير العلمية. ومن ناحية علمية كذلك، لم يُعرف حتى الآن سبباً قاطعاً للصداع النصفي، ويُعتبر الأذكياء والطموحين والمثقفين أكثر عرضة للإصابة به، وعندما يصيب الصداع الرأس، تتأثر الأوعية الدموية والأغشية والعضلات ماعدا المخ! عجباً له، فهو كالسيد، يصدر عنه الألم لكنه لا يشعر به. واستكمالاً لأنماط أخرى من الشخصيات، فإن الشخصية الهستيرية تقيم مجزرة ضد دبوس لا يرى بالعين المجردة قد اقترب منها عن غير قصد وأحدث جرحاً بريئاً، كما أن الويل والثبور قد يطول من حضر الحادثة الشنعاء ولم يبدِ تعاطفاً. تتأثر هذه الشخصية بالإيحاء، كما أن الافتقار إلى التحليل الموضوعي هو أحد سماتها، وهي شخصية تستمر بالصراخ حتى بعد انقضاء الألم. بعد كل هذا، يؤكد المؤلف أن عذاب الإنسان في حقيقته مركب، فيبدأ بنقطة باهتة تنتهي إلى جبل شاهق، وهو يستمر يخلق لنفسه سلسة من عذاب تلو عذاب يلفها بيديه حول عنقه، في حين يتصارع مع ذاته ومع رغباته التي قد تتعارض مع الدين والعرف، فتُكبت تلقائياً في اللاشعور.
  • يزداد الألم النفسي عندما يرتبط بألم المفاصل الذي يعوق الحركة ويعيق الحياة بأكملها، فيضيف الألم النفسي حملاً آخراً على المفاصل، ويزيد من حدّة ألمها. قد ينجم مرض الروماتيزم عن فورة غضب أو فقد عزيز أو خسارة صديق، فيؤثر هذا الانفعال على جهاز المناعة والذي يؤثر بدوره على المفاصل. ويحدث أن “يتيبس” أحدهم في مشاعره كما “تيبست” مفاصله، إذ يصبح أكثر حدّة وأكثر بعداً حتى عن المقربين منه. وفي صورة أخرى، قد تؤدي آلام أسفل الظهر إلى إصابة أحدهم بالعجز الجنسي، والعكس وارد أيضاً، فقد يؤدي العجز الجنسي في التسبب بالحرج الذي يصيب بالتالي أسفل الظهر بالألم، فيصبح هذا الألم شمّاعة عجزه وليس العكس. وفي حالات أخرى، قد تتفوق الزوجة علمياً وعملياً ومادياً واجتماعياً على زوجها، فيُقصم ظهره كحيلة لمداراة عجزه الجنسي الناشئ عن نفوره من زوجته، والذي هو في حقيقته نفور بسبب فشله أمامها.
  • وعن الأمراض النفسجسمية، تشير التقارير إلى أن 50% من المرضى الذين يعانون من آلام في البطن والصدر لا يعانون فعلياً من أي مرض عضوي، فهي آلام تعود لأسباب نفسية. وتسجّل التقارير أيضا 40% من الحالات التي تضطرب فيها وظائف الجهاز الهضمي لأسباب نفسية، دون العثور على أي مرض عضوي مباشر. غير أن للنفس أفاعيل أخرى، حيث ترتسم “كلمة الحب” على وجه المحب تلقائياً .. إنها أعصاب الوجه الخاصة بالعاطفة والتي تتغذى بالإحساس والوجدان. يقول الحبيب عندما قرأ كلمة “أحبك” على وجه حبيبته قبل أن تنطقها: “وحين امتلأ وجدانك حباً استرخت عضلات وجهك بالبهجة واتسعت عيناك بالسرور واجتمع الشوق مع الفرحة ليسيطرا على شفتيك فخرجت من بينهما الكلمات راقصة بفرح”. ويعقّب د. صادق قائلاً: “وما زال العلم عاجزاً عن تفسير ذلك النور الذي يملأ الوجه حين يشعر الإنسان بالحب والسلام والطمأنينة”. لكنه يقول في موضع آخر: “سالت دموعها فرحة أنه لم يعرف أنها تتألم، وسالت دموعه فرحاً أنه جعلها تشعر أنه لم يعرف أنها تتألم” …. في تعبير مؤلم لقصة أكثر إيلاماً أوردها في كتابه.
  • إن لحظات الولادة أشبه بلحظات تتويج ملكة! الألم هناك في رحمها فقط، لكن عقلها ووجدانها يهتزان فرحاً. تبكي وقد يبكي وليدها لبكائها، لكنها تستعجل ولادته لا للخلاص من آلامها بل ليكتمل زهوها به. وهناك ثمة علاقة سادية-مازوخية .. المعتدي هو الرضيع والمعتدى عليها هي أمه!.

يختم د. عادل صادق حديثه العذب عن الإنسان وهو يقطع طريقه بين الرجاء في الحياة وبين الموت المحتّم، فما الموت إلا (رحمة) في أحيان لا يُرتجى سواه، فيقول بيقين المؤمن: “وقد يجيء الموت في لحظة يتصاعد فيها الألم إلى أقصاه .. وفي ذلك رحمة، لأنه مع هذا الألم الشديد تهون الحياة ولا يشعر بالأسف لمغادرتها فقد كانت كلها حتى لحظاتها الأخيرة معه مصدراً لكل ألم”. وما الألم سوى (نعمة) يُعطي الإنسان -بعد أن يبرأ منه- دفقة جديدة للحياة وبمفهوم آخر عنها، فهي تستحق العيش مهما كان. فيقول: “إنه الرضى الذي يملأ النفس سروراً فيجعل للألم مذاقاً مقبولاً”.

وأختم بدوري بعبارة تستخلص الحكمة من قول الحكيم عن الألم، الذي وإن كان يُفسر علمياً كإنذار لخلل بيولوجي أصاب أحد أنسجة الجسم .. فإنه ألماً يعطي للحياة المعنى .. وأي معنى؟!

 

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 30 مارس 2022 – جزء (1) صفحة (10):

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/03/5084.pdf

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 31 مارس 2022 – جزء (2) صفحة (10):

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/04/5085.pdf

 

……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..

أنشر هذه المقالات في شهر ابريل 2022 والذي يصادف شهر رمضان المبارك 1443
رمضان كريم
وكل عام والجميع بخير
همى الغيث

……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..

(5)

كتاب/ القرآن المعجز – المؤلف/ د. جاري ميللر

المنطق القرآني سبباً في اعتناق عالم رياضيات للإسلام

 

 

كتاب موجز دوّنه المبشّر السابق وأستاذ الرياضيات د. جاري ميللر، حينما أراد قراءة القرآن الكريم بغية (فضح) ما به من أخطاء وتناقضات، والتي زخر بها من قبل الإنجيل المقدس عندما وقع عليها وهو يعمل كناشط في مجال التبشير المسيحي، وقد اعتقد ابتداءً أنه سيجد في هذا الكتاب وصفاً للصحراء والجمال والخيام المنصوبة فضلاً عن سيرة محمد الذاتية، الأمر الذي حمله إلى اعتناق الدين الإسلامي في نهاية المطاف. اختار اسم (عبدالأحد عمر) بعد اسلامه وعكف على دراسة اللغة العربية من أجل فهم أدق للقرآن الكريم، وأصبح ناشطاً مرة أخرى لكن في مجال التأليف وإلقاء المحاضرات حول الدين الإسلامي، وتعرض شبكة المعلومات عدداً من المواد المسموعة والمقروءة عن المؤلف وكتابه، فضلاً عن مقابلات شخصية معه. ولقد عمل بعد اعتناقه للإسلام في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن في المملكة العربية السعودية ضمن أعضاء هيئة التدريس ولعدة سنوات.

بالإشارة إلى عنوان كتابه، لا يعتقد د. ميللر أن المسلمين هم فقط من يصف القرآن الكريم بـ “المدهش”، بل أن هناك الكثير من غير المسلمين من يعتقد فيه هذه الصفة، بل والأكثر دهشة أن بعض من أولئك هم فعلياً من الكارهين للإسلام كراهية كبرى، إلا أن الشمس لا تُحجب بغربال بطبيعة الحال!.

تعتمد هذه المراجعة على الترجمة العربية للكتاب من لغته الأصلية ( The Amazing Qur’an – By: Dr. Gary Miller ) والتي عني بها موقع (إسلام هاوس) على شبكة المعلومات عام 2005. تعرض قائمة المحتويات في صفحة الكتاب الأولى إحدى وأربعين موضوعاً، تحمل عناوين ذكية مثل: (عن البحر، أدق الأشياء: العسل، اختبار عدم الزيف، علم طبقات الأرض، الوحي وأبو لهب، مفارقة مع قس، شهادة مفكر، منشأ العالم والحياة)، والتي اختار منها ما أذهل عالم الرياضيات بعد قراءته للقرآن الكريم الذي (لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ)، وباقتباس يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):

التحدي الصريح والقائم الذي جاء به القرآن الكريم في عدد من آياته ككتاب يخلو من الأخطاء، كآية: “أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا”. فيعتقد د. ميللر أن موقف التحدي هذا ليس من طبيعة البشر في شيء، حيث يشبهّه بطالب دخل قاعة امتحان وأجاب عن أسئلته، ثم ذيّل إجابته بتحدٍ للمراجع في إيجاد خطئاً واحداً بين إجاباته! بطبيعة الحال، سيتفرغ ذلك المراجع للبحث عن خطأ حتى يجده. عليه، لن ينجح أحد في هذا النوع من التحدي، لذا استخدمه الله مع المعاندين فقط. وبنفس النهج وعلى طريقة الرياضيين، يتتبع د. ميللر موقف أبي لهب وزوجه المعاند، ويعلق بمنطقية كاشفاً جانب من جهلهما قائلاً: “إن القرآن ذكر أن عم رسول الله هو وزوجته من أهل النار، وقد عاشوا بعد هذا التقرير مدة طويلة وماتوا على الكفر والعياذ بالله. فإن لم يكن ذلك وحي من الله فماذا يكون التفسير المقنع؟ لمَ لمْ يدّعي أبو لهب وزوجته الايمان فقط من أجل تكذيب القرآن؟ وقد كان يريد وزوجته اظهار كذب رسول الله بأي طريقة، ولكن هذا لم يحدث أبداً”.

عدم تطرق القرآن الكريم لسيرة النبي محمد ﷺ الذاتية، بل ظهر وهو يعمد إلى تأصيل القواعد العامة في علاقة الإنسان بالخالق وبالخلق. إذ لا وجود -على سبيل المثال- لخبر موت بنيه أو زوجه أو ما راوده من انفعالات حال تنّزل الوحي عليه، وغيرها من أمور التي لا بد وقد شغلت حيزاً كبيراً من عقل النبي ﷺ ونفسه وآلامه وسلوكه، إلا أن عدم ورود شيء من قبيل الانطباعات الشخصية لهو دليل على المصدر الإلهي للقرآن الكريم لا بشريته كما يدعّون. وفي لغة تبدو للبعض (نسوية)، يُثني المؤلف على أم المؤمنين (السيدة خديجة بنت خويلد) بعظيم الثناء وقد اطّلع على السيرة النبوية العطرة، لا سيما أوائلها حيث الصعاب التي واجهها النبي الأكرم ﷺ وتزامنها مع وفاة أكبر معين له، فيقول في استنباط شاعري: “في الواقع، فقد كانت زوجة عظيمة لأنه في بداية الوحي لجأ إليها خائفا يرتعد، فواسته وثبتته وأيدته. وأنت لا تجد حتى في أيامنا هذه أحداً من العرب حينما يكون خائفا أن يذهب لزوجته ليعلنها بهذا الخوف، ولكن لا يتم هذا الإخبار إلا إذا كانت هناك رابطة قوية جداً بينه وبين زوجته حتى يرفع تلك الكلفة بينهما، وهذا يوضح لك مدى قوتها وثقة الرسول عليه الصلاة والسلام فيها. وبالرغم من أن هذه بعض الأمثلة فقط التي تنبئ بما كان يدور في ذهن الرسول، ولكنها كافية لتوضح وجهة نظري”. ومن المدهش أن يستشف رجل أحمر -قرأ لتوه السيرة النبوية- معنى (السكن) بين النبي وزوجه، في حين لم يضع أحد بنو العرب كبرياءه جانباً على امتداد أربعة عشر قرناً ليتأسى ويركن إلى سكنه .. في حاجة وفي غير حاجة، فضلاً عن أن يصرّح بهذا (التنازل) علناً!.

دعوة القرآن الكريم قارئيه لسؤال أهل الاختصاص في أي علم كان .. في علم الأحياء، في علم النبات، في علم الجغرافيا، وغيرها، عملاً بالآية الكريمة: “فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ”. وقد كان هذا ديدن المسلمين الأوائل في انفتاحهم على علوم الغير، وانتهاج منهج البحث، وتحقيق الكثير من الاكتشافات المذهلة بناءً على ذلك. وهو كذلك يتطرق إلى عدد من الحقائق العلمية كـ (علم الأجنة) على سبيل المثال لا الحصر، حيث استعان د. ميللر في هذا برأي د. كيث موور وهو باحث أكاديمي من جامعة تورنتو مختص في هذا المجال، الذي أقرّ بأن مراحل تطور الجنين كما جاءت في سورة الحج لم تكن معروفة قبل حوالي ثلاثين عاماً. وقد جاء هذا الاستنتاج من خلال تعاون علمي تم بينه وبين مجموعة من الباحثين في المملكة العربية السعودية. ويستمر د. ميللر في حديثه عن الإعجاز القرآني وفي اختصاص أنثى النحل تحديداً بإنتاج العسل، حيث يعقد مقارنة علمية لا تخلو من طرفة بين أنثى النحل في القرآن الكريم وذكر النحل في مسرحية شكسبير، فيقول: “هل يمكنك التمييز بين ذكر النحل وأنثى النحل؟ يحتاج الأمر لخبير للتمييز بينهما! ولكن تم الاكتشاف بأن ذكر النحل لا يغادر الخلية أبداً لجمع الغذاء. ومع ذلك في مسرحية (هنري الرابع) لشكسبير يدور نقاش بين الشخصيات يوضح أن النحل عبارة عن جنود ولديهم ملك، فهذا ما كان الناس يعتقدونه في عصر شكسبير أن النحل الذي نراه يطير هو جنود ذكور يمتثلوا لأوامر ملكهم، ولكن هذا ليس صحيحاً على الإطلاق، لأن الحقيقة العلمية تؤكد انهن إناث يمتثلن لأوامر ملكتهم”.

وكمقارنة بين الأديان، يستعين د. ميللر بالإنجيل المقدس من أجل الاستدلال بمعجزة جرت على يد السيد المسيح (عليه السلام) في إحياء أحد الأشخاص بعد وفاته لأربعة أيام، فما كان من ثلة من اليهود إلا أن صاحوا في عند وافتراء: “الشيطان يساعده .. الشيطان يساعده”. وقد جاء هذا الاستدلال كتعقيب على حوار جرى بينه شخصياً وبين أحد القساوسة، والذي أشار من خلاله إلى القرآن الكريم موجهاً كلامه إلى القسيس قائلاً: “أنا أثق بهذا الكتاب” ويكمل: “ومن غير أن يعرف ماهية الكتاب الذي أشير إليه، أجاب: (إن لم يكن هذا الكتاب هو الكتاب المقدس، فهو مكتوب من أحد البشر). وكاستجابة لهذه الملاحظة قلت له: (دعني أذكر لك شيئا مما في هذا الكتاب). وأمضيت حوالى ثلاث أو أربع دقائق أسرد له بعض ما جاء فيه، وبعد هذه الدقائق، عاد وغير من لهجته قائلا: (أنت محق ليس هذا قول بشر، هذا من أقوال الشيطان، الشيطان قد كتبه)!. بالطبع هذا التعليق السريع بائس جداً لأسباب كثيرة. فهو اعتذار رخيص جداً، كما أنه هروب من مواجهة موقف محرج”.

وكختام لهذه المراجعة، أبى قلمي إلا أن يسطّر كلمة في نعمة الإيمان بالفطرة، إذ أن الحديث عن هذه النعمة قد تكون أبلغ في التعبير حين يتحصّلها المرء لا عن طريق الوراثة ولا التلقين، بل من خلال عملية التفكير الحر وبتجرد ومنطقية! وهذا ما تترجمه مداخلة د. جاري ميللر في ندوة حضرها كانت تدور حول (الإيمان بالله من وجهة نظر فلسفية)، إذ قال وقد صدق: “إن المتتبع لحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم لابد أن يؤمن بالله، فإيمانه وثقته التي لاتحد والنور الذي يشع من إيمانه هو بالله سبحانه وتعالى وأثر ذلك على كل تصرفاته، لهي أكبر معين ننهل نحن منه، فمن نوره نقتبس نور إيماننا، فهو النور الذي لا ينضب، وهو المثال العملي الذي يغنينا عن آراء الفلاسفة، وذلك أدعى إلى الإيمان الثابت الذى لا يتزعزع”.

وبدوري أنتهي بـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا).

 

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 6 ابريل 2022 – صفحة (10):

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/04/5089.pdf

 

……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..

(6)

كتاب/ الموسوعة الميسرة في التاريخ الإسلامي

المؤلف/ فريق البحوث والدراسات الإسلامية في مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة

سلسلة التاريخ الإسلامي منذ النشأة حتى الوقت المعاصر

 

 

موسوعة ميّسرة تعرض سلسلة التاريخ الإسلامي في مجلدين، تستهل الجلدة الأولى من المجلد الأول بالنشأة عند تنزّل الوحي مع بداية عصر النبوة، لتقف عند الجلدة الأخيرة من المجلد الثاني إلى ما آل عليه الوضع في العصر الحالي من ضعف وانقسام وتشرذم. وعلى الرغم من أن الموسوعة جاءت في مجلدين، إلا أنه بالإمكان اعتبارها مقدمة تعريفية عامة في التاريخ الإسلامي، والتي تدفع إلى الاستزادة بعد ذلك من خلال مراجع وبحوث متعمقة أخرى.

تأتي أهمية تدوين التاريخ الإسلامي كأعظم وأرقى وأصحّ تاريخ إنساني سرى على ظهر هذه البسيطة، “فالتاريخ الإسلامي هو تاريخ أمة شاهدة وأمة خاتمة وأمة صالحة وأمة تقية نقية”. كما تذكر الموسوعة، غير أن أهميته لا تقتصر على مجرد تدوينه فحسب بل في اعتباره دستور حياة، من خلال دروس الماضي وفي كل ما يصلح الحال والمآل.

تعتمد هذه المراجعة على الطبعة السابعة والعشرين للموسوعة الصادرة عام 2014 عن مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، والتي عني بها فريق البحوث والدراسات الإسلامية وحققها د. راغب السرجاني، وهو داعية ومؤرخ إسلامي مصري حاصل على درجة الدكتوراة في الطب. وقد جاءت هذه الموسوعة دقيقة ومفصّلة في ثمانية أبواب رئيسية ما يعكس جودة البحث، والتي أعرض منها ما علق في ذهني بعد قراءتها وباقتباس يسير بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):

المجلد الأول:

في (الباب الأول: موجز السيرة النبوية) ينقسم تاريخ هذه السيرة إلى فصلين: (الأول: من الميلاد إلى البعثة) ويتم التطرق فيه إلى نسب الرسول ﷺ، وولادته، وكفالة جده عبدالمطلب له بعد وفاة أمه، ومن ثم كفالة عمه أبو طالب بعد وفاة جده. تسرد السيرة بعد ذلك أهم الأحداث التي مرت به ﷺ في تلك الفترة، كحادثة شق الصدر في طفولته، ولقاءه بالراهب بحيرا في الشام وهو غلام، ورعي الغنم في شبابه، وتحكيم القبائل له بعد إعادة بناء الكعبة وهو على مشارف الأربعين. أما في (الثاني: من البعثة إلى الهجرة) فتتطرق السيرة إلى بدء نزول الوحي والدعوة إلى الدين الإسلامي وإسلام السابقين، لتعرج إلى مرحلة الاضطهاد التي دفعت المسلمين الأوائل إلى الهجرتين نحو الحبشة، ومحاولات المشركين في ردهم وما انطوت على مساومات ومقاطعات. ومن أهم أحداث هذه الفترة هو عام الحزن الذي شهد وفاة زوج الرسول ﷺ خديجة وعمه أبو طالب، ورحلة الإسراء، وخروجه إلى الطائف، وزواجه من عائشة أم المؤمنين، ودخول الأنصار في الإسلام، وبيعتا العقبة الأولى والثانية، وهجرته إلى المدينة المنورة. يؤسس الرسول ﷺ للدولة الإسلامية في المدينة بعد هجرته إليها والتي شهدت إنجازات عديدة، كبناء أول مسجد، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وعقد المعاهدة بين المسلمين واليهود. تشهد أيضاً شن الغزوات كغزوة بدر وغزوة بني قينقاع وغزوة أحد وغزوة الأحزاب وغزوة مؤتة وغزوة حنين وغيرها. تم فيها كذلك عقد صلح الحديبية وبيعة الرضوان، وفتح خيبر، ثم فتح مكة وقد كان هو الفتح الأعظم. تنتهي هذه الفترة بحجة الوداع، ووفاته ﷺ ولحاقه بالرفيق الأعلى.

أما (الباب الثاني: الخلفاء الراشدين) فتظهر فيه فترة الخلافة كأصدق الفترات بعد النبوة، إذ لم يكن خلفاؤها ذوي مطامع سياسية أو أصحاب شعارات في الاستقلال والتحرير، بل كانوا فاتحين معلّمين هادين مهديين. وينقسم التاريخ عندها إلى: أولاً (خلافة أبو بكر الصديق – ربيع أول 11 هـ : جماد الأخر 13 هـ)، وتتحدث الموسوعة عن انتخابه كأول خليفة للمسلمين وعن أهم الأحداث التي تصدى لها، كأزمة المرتدين، وإنفاذ جيش أسامة، وبداية جمع القرآن الكريم. تبدأ في هذه الفترة أيضاً فتوحات العراق وبلاد فارس وغزو الروم في الشام. ثانياً (خلافة عمر بن الخطاب – جماد الأخر 13 هـ : ذي الحجة 23 هـ): تتعرض الموسوعة إلى الكيفية التي تم فيها استخلافه بعد وفاة الخليفة الأول، ثم تستهل بسرد الفتوحات التي تمت في عهده وهي كثيرة، مثل فتح دمشق وأجنادين وبيت المقدس ومصر وبلاد فارس، مع شيء من التفصيل في الأحداث البارزة، مثل معركة القادسية ومعركة اليرموك ومعركة نهاوند ويوم عماس ويوم أرماث ويوم أغواث. أيضاً، تتطرق إلى بعض المجريات التي تخللت تلك الفتوحات، كعزل خالد بن الوليد، ومعاهدة أهل إيلياء، وانهزام المسلمين في معركة الجسر، وتثاقل رستم عن مواجهة المسلمين، وانكسار يزدجرد كسرى فارس. تنتهي هذه الفترة باستشهاد الخليفة الثاني في صلاة الفجر بطعنة خنجر مسموم على يد أحد المجوس الذي أسلم ظاهراً. ثالثاً (خلافة عثمان بن عفان – ذي الحجة 23 هـ : ذي الحجة 35 هـ)، وتتحدث الموسوعة هنا عن إنشاء أول أسطول بحري إسلامي في عهده كخليفة ثالث للمسلمين والذي أعقبه فتح قبرص. تتم في عهده عملية جمع القرآن الكريم، وتشهد اشتعال أول شرارة للفتنة بين المسلمين. رابعاً (خلافة علي بن أبي طالب – ذي الحجة 35 هـ : رمضان 40 هـ)، وتواصل الموسوعة في الحديث عن الفتنة التي استمرت في عهده كخليفة رابع للمسلمين، لا سيما موقعة الجمل وموقعة صفين اللتان مهدتا لظهور الخوارج. وفي عهد الخلافة الرشيدة، وبمجرد مقتل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، سارعت الفرس بنقض المعاهدات وبدأت والروم بمحاولات طرد المسلمين من الشام “فواجه عثمان محنة عظيمة كتلك المحنة التي واجهها أبو بكر في حروب المرتدين”، إلا أن المسلمين الأُول استبسلوا في الدفاع حتى تمكنوا من إعادة السيطرة على تلك المناطق وقبلوا اعتذار أهلها، الذين استمروا في العيش بسلام تحت كنف دولة الإسلام.

في (الباب الثالث: الخلافة الأموية – 41 هـ : 132 هـ) تبرز الخلافة هنا كدولة حافظت على جميع مظاهر القوة بين الأمم رغم ما نالها من فتن وما شهدت من ثورات، ولم تظهر بمظهر الضعف إلا ككبوة. ما كان يميز هذه الفترة هو طابع الجهاد في سبيل الله حيث الإسلام يكتسح مشارق الأرض ومغاربها، ومن كان يصطف في جيوشها من الصالحين وكبار العلماء والتابعين. هنا، يُعرض تاريخ الخلافة في فصلين: (الأول: خلفاء بني أمية) وتستهل الخلافة بمعاوية بن أبي سفيان الذي أعاد الأمن للبلاد وبدأ أولى محاولات فتح القسطنطينية، وقد أولى بالخلافة لابنه يزيد قبل مماته، فيستتب الأمر له ويبايعه المؤيدون والمعارضون كأول أمير للمؤمنين في الدولة الأموية، مع قناعته بمن هو أكثر أهلّية منه بين كبار الصحابة آنذاك، إلا أنه كان يرجو أن يكون “أنفعكم ولاية وأنكأكم في عدوكم” كما قال في خطبته. ومن أبرز خلفائهم ايضاً الوليد بن عبدالملك الذي اكتمل في عهده بناء الجامع الأموي في دمشق، وابنه سليمان بن عبدالملك الذي حاول من جديد فتح القسطنطينية، وعمر بن عبدالعزيز الذي سار على نهج الخلفاء الراشدين الأربع. تنتهي هذه الخلافة بالخليفة مروان بن محمد. (الثاني: الفتوحات في عهد بني أمية) وتمتد الفتوحات في هذه الخلافة شرقاً وغرباً، حيث تأتي على الشمال الأفريقي وصولاً إلى المغرب وبلاد الأندلس، ثم تعكس الاتجاه نحو بلاد ما وراء النهر وبلاد الترك وبخارى وسمرقند، فضلاً عن المحاولات الرامية نحو أرض الهند وأرض الصين.

وفي (الباب الرابع: الخلافة العباسية – 132 هـ : 656 هـ) يتشعب التاريخ في هذه الخلافة إلى ستة فصول: (الأول: خلفاء بني العباس) حيث يتم التطرق أولاً إلى كيفية بدء الدعوة العباسية بتعثر وقد اشتبكت في عراك مسلّح مع الدولة الأموية انتهت باستخلاف عبدالله بن محمد بن العباس كأول خليفة لبنو العباس وقد لُقب بـ (السفاح). يستهل الفصل بأسماء خلفاء العباسيين تباعاً، مثل: المنصور، محمد المهدي، هارون الرشيد، المأمون، المعتصم، الواثق بالله، محمد المنتصر، المستعين بالله، المعتضد بالله، المكتفي بالله، المقتدر بالله، المتقي بالله، المستكفي، الفضل المطيع لله، الطائع لله، القائم بأمر الله، المقتدي بأمر الله، المستظهر بالله، المسترشد بالله، المقتفي لأمر الله، المستنجد بالله، المستضيء بأمر الله، محمد بن الناصر، المنصور بن الظاهر، وغيرهم. تشهد هذه الخلافة أمور جمّة، كبناء مدينة بغداد، ومحنة البرامكة، ومحنة خلق القرآن التي ارتبطت بمحنة الإمام أحمد بن حنبل، وثورة صاحب الزنج، وتنفّذ السلاجقة الأتراك، وسيطرة البويهيين، وصراع السنة والشيعة، وغزو التتار. يعتلي هارون الرشيد سدة الحكم في الدولة العباسية وهو في الخامسة والعشرين من عمره، وقد كان ذو مناقب عدة، فمع كثرة صلاته واستدامته على الحج عام والغزو عام، كانت فترة حكمه الأكثر رخاءً، وقد لحقتها من النوازل والكوارث الكثير، كمحنة خلق القرآن المذكورة آنفاً. يخاطبه نقفور ملك الروم في رسالة إليه يبدأها بـ “من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب”، فحواها المطالبة باسترداد ما دفعت له الملكة السابقة من جزية، مع تهديد صريح بإعمال السيف بينهما إن لم يستجب! يقلب هارون الرشيد تلك الرسالة الحمقاء ويكتب في ظهرها رداً بليغاً قائلاً: “من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة والجواب ما تراه دون ما تسمعه”. (الثاني: أهم الدول التي قامت في عهد الخلافة العباسية) وتصنّف الموسوعة هنا أحد عشرة دولة استطاعت الاستقلال عن الدولة العباسية التي لم تتمكن من إرسال الجنود لإخضاعها من جديد. هي: الدولة الرستمية التي أسسها رستم بن بهرام في تاهرت بالمغرب على مذهب الإباضية. دولة الأدارسة وأسسها ادريس بن الحسن في المغرب أيضاً على مذهب الزيدية. دولة الأغالبة وأسسها إبراهيم بن الأغلب في شمال أفريقيا ابتداءً من تونس الحالية. وهنالك أيضاً دولة بني زيري بالمغرب، الدولة الطولونية، الدولة الإخشيدية، دولة بني حمدان، الدولة السامانية، الدولة الغزنوية، الدولة الخوارزمية، الدولة الغورية. (الثالث: المسلمون في الأندلس – 92 هـ : 897 هـ)، وتشهد شبه الجزيرة الإيبيرية على بسالة المسلمين الأُول، أمثال طارق بن زياد وموسى بن نصير وعبدالرحمن الغافقي ويوسف بن تاشفين، وكذلك على ذلة المتأخرين منهم حين طُردوا منها شر طرده غير مأسوف عليهم، هكذا على امتداد ثمانية قرون، مخلّفين وراءهم محنة الموريسكيين. وينقسم التاريخ الأندلسي إلى عشرة مراحل، هي: 1. ولاية تابعة للدولة الأموية (92 هـ : 138 هـ) 2. إمارة موحدة (138 هـ : 238 هـ) 3. التدهور الأول (238 هـ : 300 هـ) 4. عودة القوة وإعلان الخلافة (300 هـ : 368 هـ) 5.قيام الدولة العامرية (368 هـ : 399 هـ) 6. التدهور الثاني وسقوط الدولة الأموية (399 هـ : 422 هـ) 7. ملوك الطوائف (422 هـ : 484 هـ) 8. عهد المرابطين (484 هـ : 539 هـ) 9. عهد الموحدين (539 هـ : 620 هـ) 10. دولة بني الأحمر والانهيار الأخير (620 هـ : 897 هـ). ينبري المسلمون ابتداءً في فتح الأندلس حتى يجاوزوا حدود فرنسا، لكن قدر الله شاء أمراً آخراً حينها. يقول جيبون وهو أحد المؤرخين الغربيين المنصفين: “لو انتصر العرب في تور-بواتييه لتُلي القرآن وفسّر في أكسفورد وكمبريدج”. (الرابع: الدولة الفاطمية – 297 هـ : 567 هـ) وكان من أهم سماتها الاعتماد على اليهود والنصارى في إدارة البلاد من خلال توليهم مناصب سامية، الأمر الذي جعل من هذه الفترة معترك للصراع ومرتع للبؤس. (الخامس: الحروب الصليبية وجهاد آل زنكي وصلاح الدين ضدها – الحملة الصليبية الأولى 489 هـ : الحملة الصليبية السابعة 648 هـ) وقد كانت خير مثال للمسلمين وللصليبين على حد سواء في نبذ التعصب واحترام العهود ولين المعاملة، والذود عن حمى الأرض، الأمر الذي ساهم في تأخير السطوة الصليبية عمّا يزيد عن ستمائة عام. (السادس: دولة المماليك – 468 هـ : 922 هـ) لقد كان هؤلاء أهل نزال وانتصارات كما في عين جالوت، غير أن نزالهم الذي ارتد إلى الداخل وولّد الغفلة بينهم عن العدو الخارجي قد سارع في زوالهم من التاريخ. من أعلام تلك الفترة سيف الدين قطز، والعز بن عبدالسلام، والظاهر بيبرس.

المجلد (2):

يظهر في (الباب الخامس: تاريخ المغول المسلمين) كيف ذاق المسلمون شر الويلات على أيدي هؤلاء المغول في بداية تاريخهم، غير أن التاريخ يشهد فيما بعد على فضلهم في توسيع رقعة الدولة الإسلامية -بعد أن هداهم الله للإسلام- بشكل لم يسبق له مثيل حتى الوقت الحاضر. ينقسم التاريخ بدوره هنا إلى خمسة فصول: الأول: المغول في شرقي أوروبا وغربي سيبيريا. الثاني: المغول في إيران. الثالث: المغول في بلاد الصين ومنغوليا. الرابع: المغول في تركستان الغربية. الخامس: المغول في الهند. أما عن (الباب السادس: الخلافة العثمانية) فيكفي هذه الخلافة فخراً فتح القسطنطينية الذي لم يكن مقدّراً لغيرها رغم المحاولات المستميتة، وقد توغلت فتوحاتها إلى قلب أوروبا حتى توقفت عند أسوار فيينا. يُعرض تاريخ هذه الخلافة في أربعة فصول: الأول: الدولة العثمانية من النشأة حتى إلغاء الخلافة. الثاني: بلاد العرب، لا سيما في الجزيرة العربية، والعراق، والشام، ومصر، والمغرب العربي. الثالث: بلاد البلقان. الرابع: بلاد القوقاز. يعرض (الباب السابع: جنوب شرقي آسيا) كيف أن الأسبان والبرتغاليين لم يهنأ لهم بال بعد طرد المسلمين من بلادهم الواقعة غرب العالم وهم يشاهدون اكتساح الإسلام من جديد في شرقه، حيث دفعتهم أحقادهم إلى غزو تلك البلاد والتنكيل بأهلها الذي استبسلوا في الدفاع عن أراضيهم ودحر أعداءهم، سواء كانوا من المسلمين أو من غير المسلمين. يقول لابو لابو وهو أحد ملوك جزر الفلبين المسلمين: “إن الدين لله، وإن الإله الذي أعبد هو إله جميع البشر على اختلاف ألوانهم”. وختاماً، يعرض (الباب الثامن: أفريقيا) وما كان لهذه القارة من نصيب الأسد في استيطان الإسلام والمسلمين، فلا غرو أن تكون الأشد بطشاً على أيدي المستعمرين الأوربيين الذين تركوها خراباً يباباً إلى يومنا هذا. تعرض الموسوعة تاريخ القارة في ثلاث فصول: الأول: الممالك الإسلامية قبل قدوم الاستعمار الصليبي: في غربها، في السودان العربي، في سواحلها الشرقية. الثاني: الاحتلال الأوروبي الغاشم. الثالث: الدول المستقلة في أفريقيا، وهي: الدول ذات الأغلبية الإسلامية التي يحكمها المسلمون، مثل: موريتانيا والسنغال وجزر القمر، والدول ذات الأغلبية الإسلامية التي يحكمها غير المسلمين، مثل: غينيا وأثيوبيا والكاميرون.

… إن الموسوعة مثقلة حقاً بكل ما هو مدعاة للفخر .. والخيبة كذلك، ولا تتسع الصفحات لتلخيصه!

قد تحتاج الطبعات الجديدة إلى تحديثات أكثر واقعية، لتعكس الوضع الأخير للأمة الإسلامية المتخبطة فيما يُسمى بثورات الربيع العربي، والامتهان الأكبر في الاعتراف بدولة إسرائيل وما تلاها من عمليات التطبيع الرسمية.

أختم بما جاء في الصحاح من خير كلام سيد البشر عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم: “بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ”.

ومن يدري؟ .. علّنا نكون الغرباء!.

 

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 13 ابريل 2022 – جزء (1) صفحة (10):

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/04/5094.pdf

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 14 ابريل 2022 – جزء (2) صفحة (10):

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/04/5095.pdf

 

……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..

(7)

كتاب/ الصراع من أجل الإيمان: انطباعات أمريكي اعتنق الإسلام

المؤلف/ د. جفري لانج

المترجم/ د. منذر العبسي

دار النشر/ دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشر

المنطق أو الفطرة .. كلاهما مرادف لجوهر الإسلام

 

 

كتاب تتدفق فيه كلمات مؤلفه على امتداد أكثر من ثلاثمائة صفحة، من أجل الإجابة على سؤال وجهته إليه ابنته يوماً لم يكن يتجاوز حينها الأربعة كلمات: “لماذا اخترت الإسلام يا أبي”؟

إنه د. جيفري لانج (Jeffrey Lang)، البروفيسور في علم الرياضيات. ولد عام 1954 في مدينة بريدج بورت لأسرة أمريكية نصرانية متدينة تعتنق الكاثوليكية، وتابع تحصيله الدراسي حتى حصل على درجة الدكتوراة من جامعة سان فرانسسكو عام 1981، وانخرط في سلك التدريس بعدها، وكان قد هجر الكنيسة حينها واختار الإلحاد. يُسهب البروفيسور وهو يتحدث عن رحلته الإيمانية بدءاً من الكاثوليكية إلى الإلحاد انتهاءً بالإسلام ونطق الشهادتين، وذلك حين لم تُجب الكاثوليكية على أسئلته الروحانية وهو العالِم الذي أسس عقله على بنيان من منطق وبراهين ومنهجية، حتى أهدت إليه إحدى الأسر المسلمة القرآن الكريم، فبدأ معه (صراعه الحقيقي) ورحلة مختلفة نحو الإيمان الحق لم تكن هيّنة على الإطلاق!. تعرض شبكة المعلومات عدداً من المواضيع المسموعة والمقروءة عنه فضلاً عن بعض اللقاءات الشخصية، وله إصداران آخران هما: كتاب/ ضياع ديني: صرخة المسلمين في الغرب، وكتاب/ حتى الملائكة تسأل: رحلة إلى الإسلام في أمريكا.

تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الثانية للكتاب الصادرة عام 2000 عن (دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشر) في دمشق، وعن ترجمة مباشرة للكتاب من لغته الأصلية (Struggling to Surrender: Some Impressions of an American Convert to Islam)، وقد عني بها د. منذر العبسي، وهو أكاديمي سوري حاصل على درجة الدكتوراه في الأدب الإنجليزي من جامعة جلاسكو في بريطانيا، ويعمل في سلك التدريس الجامعي. وقبل البدء، لقد كانت لفتة راقية أن يهدي البروفيسور كتابه إلى (بناته المؤمنات: جميلة وسارة وفاتن) في خط ديواني أنيق، والذي تعرض محتوياته خمسة فصول رئيسية هي: 1. النطق بالشهادة / 2. القرآن / 3. رسول الله / 4. الأمة / 5. أهل الكتاب. وأعرض فيما يلي شيئاً من جميل ما ورد فيه، وباقتباس يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):

يسترجع البروفيسور حلماً قد تكرر معه عندما كان يافعاً، وهو أدائه للصلاة في مسجد يقبع أسفل درج ويشعّ النور من كوة بداخله، ضمن مجموعة من رجال مسلمين ينحنون فوق سجادها الأحمر، في وقت لم يكن قد عرف فيه المسجد ولا الإسلام بعد! حتى أتت رؤياه كفلق الصبح بعد يومين فقط من إعلان إسلامه، وعند صلاته مع إخوته الجدد من المسلمين في نفس الغرفة السفلية وفوق نفس السجاد ومن فوقهم كوة النور، لدرجة شعر فيها أنه نائماً متلبساً في حلمه من جديد، أعقبتها برودة سرت في جسده كله، فرجفة، وانتهت بدفء النور والدموع .. في أعجب ما يمكن تصوّره عن مدارج الروح، وهي من أمر الله. وفي محاولة لتأويل رؤياه السابقة بعد بلوغه الذروة وقت سجوده، يعترف قائلاً: “تملكني الخوف والرهبة عندما شعرت لأول مرة بالحب والعطف الظاهرين، لا لأنّا نستحق ذلك، ولكن لأن هذا الحب والعطف كانا دوماً موجدين، وكل ما علينا عمله للحصول عليهما هو أن نعود إلى الله”. بعد سفره بعيداً عن والديه للدراسة، وخبرة مرحلة الانفكاك من التبعية إلى الاستقلالية، يستشعر البروفيسور الحد الفاصل بين المؤمن والملحد، قائلاً: “لا أحد يعرف الوحدة كالملحد. فعندما يشعر الشخص العادي بالعزلة فإنه يستطيع أن يناجي من خلال أعماق روحه الواحد الأحد الذي يعرفه ويكون بمقدوره أن يشعر بالاستجابة. لكن الملحد لا يستطيع أن يسمح لنفسه بتلك النعمة، لأن عليه أن يسحق هذا الدافع، ويُذكِّر نفسه بسخفها. لأن الملحد يكون إله عالمه الخاص به، ولكنه عالم صغير جداً، لأن حدود هذا العالم قد حددتها إدراكاته، وهذه الحدود تكون دوماً في تناقص مستمر”. وفي حديثه عن الإلحاد، يرى أن العرب قبل الإسلام لم يكونوا ملاحدة بل وثنيين يعتقدون بتعدد الآلهة، غير أنهم لم يكونوا متدينين. عليه، كانت معضلة القرآن الكريم مع هؤلاء القوم ليست في الكفر بالله بل الانحراف في تصوره، مما أرداهم في حياة الفسق الفجور.

كمسلم مستجد، يبتكر البروفيسور طريقة عملية في التنبيه لصلاة الفجر تحديداً، وقد وجد مشقة فيها رغم استشعاره أهمية الصلاة عموماً كفريضة وما تستجلب للمرء من عون وراحة، تمثلت في الاستعانة بثلاثة منبهات موزعة على أماكن متباعدة في مسكنه، يقوم بضبطها على مواقيت متتالية مع فارق قصير بينها. ورغم مشقة صلاة الفجر بالتحديد كما عبّر، يعود فيقول في روحانية: “صلاة الفجر بالنسبة لي هي إحدى أجمل الشعائر الإسلامية وأكثرها إثارة. هناك شيء خفي في النهوض ليلاً بينما الجميع نائم لتسمع موسيقى القرآن تملأ سكون الليل. تشعر وكأنك تغادر هذا العالم وتسافر مع الملائكة لتمجد الله بالمديح عند الفجر”. لقد كان يحرص على صلوات العتمة في جماعة حيث (الجهرية) هو طابعها، ورغم أنه لم يكن قادراً على فهم ما يسمع إلا أن ما يسمعه كان مريحاً بالنسبة له، كالطفل يرتاح لصوت أمه وهو لا يفهم كلماتها، وكذلك كان (صوت) الصلاة الجهرية، وقد تمنى أن يعيش أبداً تحت حماية صوتها. يعتقد أن (اقرأ) كأمر إلهي إنما هو نعمة سماوية في تعلم القراءة، وعن طغيان الإنسان واستغناؤه في منتصف السورة الكريمة يعتقد أن العلم الحديث صوّر للإنسان من عظيم الشأن ما أغناه عن الله، غير أن تلك العلوم وما حملته من فكر تأبى إلا أن تتفق مع ما ورد في القرآن الكريم، الأمر الذي دعى الكثير من أصحاب تلك العلوم إلى اعتناق الدين الذي جاء به.

ينتقل البروفيسور ليتحدث عن الإعجاز القرآني في اختصاص أنثى النحل بإنتاج العسل من خلال آية (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ)، وعن منهج (التجربة والخطأ) في العمل وارتكاب الخطأ والتسامي عليه بعد إدراكه ومن ثم الاستمرار والتقدم، يقرأ آية (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا)، ثم يبكي بكاء الطفل المفقود بعد عودته لأمه استشعاراً لقرب الله الذي لا يتخلى عمّن بحث عنه، وهو يتلو (وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى). وفي لغة فلسفية، يتحدث عن القرآن وقد استشعر بأن القرآن هو من يحدثه، بل يتحداه ويقرأ أفكاره، ويجيب على كل ما راود عقله من تساؤلات. فعن تلك المعركة الروحانية يقول: “ولم أكن في وضع أُحسد عليه، إذ بدا واضحاً أن مبدع هذا القرآن كان يعرفني أكثر مما كنت أعرف نفسي. إن الفنّان يستطيع أن يجعل العين في أي لوحة يرسمها تبدو وكأنها تنظر إليك حيثما كنت منها، ولكن أي مؤلف يستطيع أن يكتب كتاباً مقدساً يستطيع أن يتوقع حركاتك وسكناتك اليومية؟ لقد كان القرآن يسبقني دوماً في تفكيري، ويزيل الحواجز التي كنت قد بنيتها منذ سنوات، وكان يخاطب تساؤلاتي”. وبنفس اللغة يكمل: “وفي كل ليلة كنت أضع أسئلتي واعتراضاتي، ولكنني كنت إلى حد ما أكتشف الإجابة في اليوم التالي. ويبدو أن هذا المبدع كان يقرأ أفكاري، ويكتب الأسطر المناسبة لحين موعد قراءتي القادمة. لقد قابلت نفسي وجهاً لوجه في صفحات القرآن، وكنت خائفاً مما رأيت. كنت أشعر بالانقياد، بحيث أشق طريقي إلى الزاوية التي لم تحوِ سوى خيار واحد”. ثم يتطرق إلى مناقشة بعض الآيات القرآنية المثيرة للجدل عند الغرب، وينظر بمفهوم آخر لبعض الأحاديث النبوية كحديث (فتنة النساء) بعيداً عن المعنى الحرفي وإحالته على أمور حسية، فيرى أنها على الأصح فتنة للرجال في ميلهم نحو ظلم المرأة واحتقارها لضعف يرونه فيها دائماً، ويضرب أمثلة لتلك الفتنة في مسألة الطلاق ومضرة الوالدة بولدها. ويستمر في حديثه عن المرأة أجده شجياً، فيثمّن انتخاب السيدة بنازير بوتو كرئيسة وزراء للباكستان، ويرى أن للأمر انعكاساً طيباً على المجتمع الأمريكي المسلم، حيث إن جلّ من يعتنق الإسلام “هم من النساء الماهرات المدربات في التنظيم والقيادة، وممن يمتلكن مواهب في مجتمع هو في أمس الحاجة إليها”. وبالرجوع إلى القرآن الكريم، يؤكد على أن “ليس هناك في القرآن تصريح مباشر ضد انتخاب نساء قائدات، بل إن القرآن يقدم لنا أنموذجا فريداً عن الحاكمة الصالحة وهي ملكة سبأ بلقيس. ويظهر القرآن هذه الملكة على أنها قائدة حكيمة وعميقة التفكير وديمقراطية كرّست جل اهتمامها لسعادة شعبها ورفاهيته، ولقد قادت أمتها من خلال نفوذ سليمان إلى الإيمان بالله. ونظراً لغياب أي تحريم قرآني لهذه الإمكانية، ولأن المثال الوحيد المذكور في القرآن حول هذا مثال إيجابي، فإننا يمكن أن نتوقع أن تكون فكرة المرأة الزعيمة مقبولة عند المسلمين، ولكن بشكل عام، ليس هذا هو الحال”.

وفي تطرّقه إلى شئون المرأة المسلمة، يعزف على وتر موجع لا يحيد عن موضوعية، مشوب باستفهام مستعص على أي تبرير منطقي، أشاركه فيه مع ابنته ذات الأربعة أعوام حين تساءلت في براءة عن سبب عدم السماح للنساء بحضور المسجد، في مقارنة مع رفيقتها المسيحية وعائلتها الحريصة على زيارة الكنيسة. فيعبّر عن استنكاره متسائلاً بدوره: “لست متأكداً كيف ومتى أصبح للمسجد جو لا يكاد يسمح بدخول النساء إليه؟” ثم يستطرد: “ومن الواضح أن ذلك قد حصل في وقت متأخر وفي وضع ثقافي مختلف”. وبينما يرى أن بعض الثقافات المسلمة توفر للنساء مناهج معينة لإثراء إيمانهن بالله، فأنها لا تقدم لهن بديلاً عن حضورهن للصلاة في المسجد “كاجتماع نسائي أسبوعي مثلاً”، وهذا بدوره “يعني أنك تعطيهن مقاماً من الدرجة الثانية”. ويعتقد في مثل هذا الجو من عدم الاكتراث بتشجيع النساء على المشاركة الفعّالة في اللقاءات الاجتماعية على قدم وساق مع نظرائهن الرجال، فإن الجو العام لمساجد المسلمين سوف يكون عرضة للمزيد من التبدّل وسوف يكون الأطفال عرضة لخسارة النفع المرجو من هذه المشاركات مع أمهاتهن وآبائهن سوية. ونظراً لما لرأيه غير المألوف من تبعات قد لا تكون مرضية، يستكمل موضّحاً: “إنني لا أنادي بتغيير أشكال الشعائر بل إن ما أدعو إليه هو تشجيع اشتراك الأسرة في كل نشاطاتنا الاجتماعية والعمل على تسهيل ذلك والترحيب به”. ثم ينتقل -وهو لا يزال يتحدث عن شؤون المرأة المسلمة- إلى اللباس الشرعي، إذ يوصي المسلمين في المجتمعات الغربية وقد واجهوا المصاعب في تطبيقهم “لهذا النظام من اللباس” بأن يكون نهجهم “سمحاً ولطيفاً وليس اتهامياً وتوبيخياً”. فيطالب بأن يتم إعطاء النساء مساحة أكبر من الحرية في اختيار الملابس التي يرتدينها بحيث لا يثنيهن عن المساهمة الفعالة المتوقعة منهن في المجتمع. وتحقيقاً لهذا النفع، يوجه نصحه للرجال المسلمين على أن يتحلوا بالقدر الأكبر من التفهّم. ثم يصف منظراً تناقضياً في هذا الشأن عاينه شخصياً يقول فيه: “ولم يمض وقت طويل على مشاهدتي لمنظر سخيف كانت فيه النساء المسلمات تعانين فيه حر الشمس على إحدى طاولات النزهة، فيما راح أزواجهن يمرحون عند الرمال والأمواج بين الأمريكيين والأمريكيات الذين كانوا يأخذون حمامات الشمس”.

في حديثه عن القضية الفلسطينية-الإسرائيلية، يسترجع طفولته في حي بريدج بورت حيث كان يقطنه سكان من أعراق وثقافات مختلفة، وقد كانت كلمة (يهودي) بحد ذاتها هي المفضلة لدى الأطفال كلما أرادوا أن يكيلوا الشتائم لبعضهم البعض، سواء لليهودي منهم أو لأي عرق آخر. وفي حين كان غير اليهودي يعتبرها مرادفاً لـ (القذارة والتعاسة والجبن)، فإن اليهودي كان لا يجد له معيناً من ذويه ضدها كمذمة. أما في سن الرشد، فقد كان البعض من أصحابه يعترفون له بسر (يهوديتهم) وكأنهم “متهمين سابقين” حسب تعبيره، في حين كان يتنصل البعض الآخر منها، باعتبار أن اليهودية ليست سوى ديانة لم يعودوا يؤمنون بها. وفي مناصرته للقضية الفلسطينية، يعود للتاريخ ليقول: “يتفق المؤرخون على أن الغالبية العظمى من العرب الفلسطينيين لم يقدموا إلى فلسطين مع الفتح الإسلامي، بل إن هؤلاء هم بشكل رئيسي أبناء الساميين الذين تعود ملكيتهم لفلسطين لثلاثة آلاف عام على الأقل قبل الميلاد، وقد تكون هذه هي أبسط فترة ملكية في العالم وأطولها. أما العبرانيون القدماء فقد جاءوا إلى فلسطين بعد ذلك بكثير، وذلك بحوالي ألف وأربع مئة عام قبل الميلاد”. ثم يتساءل في مبحثه ويجيب: “هل لليهود حق أخلاقي-ديني في فلسطين”؟.

ختاماً، لقد كانت رحلة صراع روحانية من النقيض إلى النقيض ..  من الإلحاد إلى الإيمان، وعرض أكثر تجلياً لروح الدين الإسلامي من وجهة نظر غربية ومنطقية. لذا، لا أجد بد وأنا أختم هذه المراجعة باقتباس يوافي هذه اللحظة الشاعرية على لسان د. جيفري لانج في لغة صوفية قلّما يسوقها الرياضيون: “ومع ذلك فإني مدرك دوماً أن لي نقاط ضعفي وتقصيري! إنني أعلم الآن أنني أذا ما فقدت الله ثانية فإنني بالتأكيد سوف أفقد كل شيء، وإني أدعوا مع رابعة العدوية: (إلهي هل صحيح أنك سوف تُحرق قلباً يحبك كثيراً). وإني أجد عزاءً في جوابها”.

 

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 20 ابريل 2022 – جزء (1) صفحة (10):

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/04/5099.pdf

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 21 ابريل 2022 – جزء (2) صفحة (10):

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/04/5100.pdf

 

……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..

(8)

كتاب/ جدد حياتك

المؤلف/ د. محمد الغزالي

دار النشر/ نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع

الطبعة/ الأولى – 1996

مبادئ الإسلام مقابل توصيات مفكر أمريكي

 

 

كتاب تفاؤلي تكمن روعته في الدعوة للانفتاح على الحياة من خلال ما ورد فيه من آراء واقتباسات ولمحات توقظ العقل وتعزّز الشعور الصادق الكامن في الوجدان والفطرة الإنسانية، والتي -ولا عجب- حملها من يختلف عنّا عرقاً وعقيدة وثقافة. هذا ما فعله الداعية المجدد د. محمد الغزالي عندما أفرد قلمه ليسطّر ما استلهمه من خواطر الكاتب الأمريكي (ديل كارنيجي Dale Carnegie) الرائد عالمياً في تنمية الذات، في كتابه الأشهر (دع القلق وابدأ الحياة How to Stop worrying and Start Living)، لكن بمنهج إيماني خالص، وبأسلوب يبتعد عن التعصب أو رفض الآخر. لقد وجد الغزالي فيه من آراء الفلاسفة والمصلحين وأحوال الخواص والعوام ما يتفق إلى حد كبير مع المبادئ الإسلامية، فعزم على وضع كتاباً باللغة العربية يرد فيه هذا الكتاب إلى “أصوله الإسلامية” كما ارتأى، وقد انتهج في هذا نهجين: عرض النصوص الدينية وعرض ما يقابلها من النقول المذكورة في كتاب الأمريكي. لم يفت الغزالي وهو يضع كتابه أن يحرص على إحياء اللغة العربية وما تزخر به من حكمة، كصدّ للتوجه العالمي المعادي للعرب وللغتهم، فيقول مخاطباً قرّائه: “وإذا كان ديل كارنيجي يحيا بقرّائه في جو أمريكي بحت، فمن واجبي أن أعيش مع قرائي في جو عربي خالص، لا أتركه إلا للمقارنات الإنسانية الأخرى وهي مقارنات لا صلة لها بجنس معين”.

إنه د. محمد الغزالي (1917 : 1996) عالم دين ومفكر مصري، عُرف بمنهجه التجديدي للخطاب الديني وبأسلوبه الأدبي الرصين، وبمناهضته للآراء الدينية المتشددة التي واجه بها ردود فعل معادية. حفظ القرآن الكريم في صغره ودرس أصول الدين في جامعة الأزهر الشريف، ثم عمل في الدعوة والإرشاد. انخرط فيما بعد في جماعة الإخوان المسلمين بعد أن تعرّف على مؤسسها حسن البنا، وقد أودع السجن إثر حلّ الجماعة عام 1984، حتى خرج منها نهائياً بعد خلافه مع المرشد، ليلتحق أخيراً بسلك التدريس الجامعي. لُقب بالغزالي تيمناً بالإمام أبو حامد الغزالي الذي رآه والده في منامه يبشّره بمقدمه ويوصيه بإطلاق اسمه عليه.

تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الأولى للكتاب الصادرة عام 1996 عن (نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع). وبينما يعرض فهرس الكتاب أربع وعشرون موضوعاً تبدأ بالمقدمة وتنتهي بالخاتمة، أكتفي في الأسطر القادمة بعرض ما جال في المواضيع العشر الأولى، وباقتباس يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) كما يلي:

يعبّر الغزالي في (مقدمة) كتابه عن الفطرة السوية التي فطر الله الناس عليها في تمييز الخير عن الشر، والتي تظهر لدى أصحاب العقول والأنفس والأمزجة والطباع السليمة بصرف النظر عن الأديان التي يعتنقونها، وهم الذين خصّهم النبي الأكرم ﷺ في وصيته “استفت قلبك”، لما لهم من قابلية على التمييز الصحيح. غير أن تلك الفطرة عرضة لأن يعتريها الانحراف والعلل والمرض ما يقود إلى ظهور الفساد في الأرض، وهو الأمر الذي بعث الله لأجله أنبيائه الهادين المهديين. والشواهد تشير إلى كثير ممن لم يحظ من تراث الأنبياء بشيء لكنه حظي من صفاء الفطرة ما لا يجعله يضل عن الله الواحد الأحد، بل ولعلّه يكون أحسن حالاً وأرجى مآلاً ممّن مكّنه الله من هديه لكنه أخلد إلى الأرض، وكما يُقال: “الناس رجلان: رجل نام في النور ورجل استيقظ في الظلام”. بيد أن انحراف الأمم السابقة عمّا أُرسل إليهم قد ختمه الله برسالة إسلامية خالدة تكفّل بحفظها، إلا أن انحراف المسلمين أنفسهم يشكّل افتراءً على الإسلام الذي قد يوصم لانحرافهم بما ليس فيه. يقول الغزالي: “إن التاريخ سجَّل هزائم كثيرة للطوائف التي تُسمى رجال الدين”، وما أحدثوا في فقه النصوص من فوضى تعرض الدين في قالب مشوّه، فما كانت هزيمتهم تحيق بالدين، إنما جاءت كانتصار للدين وتأصيل للفطرة على “الغباء والجمود والنفاق”.

ينبّه الغزالي في موضوع (جدد حياتك) على أن تمنية النفس بالتحسّن في الحال والتحوّل في المكان وإقران الصفحة الجديدة من الحياة بموعد مع أقدار مجهولة ليس سوى ضرب من التسويف! وعلى الرغم من استشعار القوة مع هذا التسويف وبالنشاط بعد الخمول، فهذا في حقيقته شعور واهم ما يلبث أن يؤول إلى انحدار أشد وأهوى، إذ أن “تجدد الحياة ينبع قبل كل شيء من داخل النفس” .. فهذه النفس التي بين جنبات الإنسان، وحاضره الذي يحيا فيه، والظروف المحيطة به بحلوها ومرّها، هي فقط من ترسم له طريق المستقبل. وفي موضوع (عش في حدود يومك)، يرى الغزالي البعض وهو مستغرق في خط لا ينتهي من التفكير المسترسل الذي لا يقطعه سوى وحوش الوساوس، والتي ما تلبث أن تتحول إلى هواجس وقلق وهموم جاثمة، وذلك يُعدّ من الأخطاء التي يغفل فيها المرء عن حاضره لينوء بأعباء المستقبل. وبينما ينصح (د. أوسلر) طلبته في جامعة (ييل) بأن يبدؤوا يومهم بدعاء مأثور عن السيد المسيح يقول فيه: “خبزنا كفافنا أعطنا اليوم”، فقد ورد عن ابراهيم الخليل دعائه في كل صباح يطلع عليه: “اللهم إن هذا خلق جديد فافتحه عليّ بطاعتك واختمه لي بمغفرتك ورضوانك وارزقني فيه حسنة تقبلها مني وزكها وضعفها لي وما عملت فيه من سيئة فاغفرها لي إنك غفور رحيم ودود كريم”، وهو به قد أدى شُكر يومه. غير أن البعض وهو لا يستشعر الآلاء العظيمة التي انغمس بها من طمأنينة وسكينة وسلامة في نفسه وأهله، يسخط على حرمانه من الثراء، وهو بهذا يكون قد غمط واقعه وأتلف دينه ودنياه. غير أن العيش في حدود اليوم لا يعني تجاهل المستقبل والتخطيط له، بل إن هذا يُعدّ من رجاحة العقل، إنما الفارق هو بين “الاهتمام بالمستقبل والاغتمام به”. ويتساءل الغزالي بدوره ويجيب قائلاً: “أتدري كيف يُسرق عمر المرء منه؟ يذهل عن يومه في ارتقاب غده، ولا يزال كذلك حتى ينقضي أجله ويده صفر من أي خير”.

ثم يتساءل في موضوع (الثبات والأناة والاحتيال) عن ردة فعل المرء الذي تداهمه شدّة تهدد كيانه كله، ما هو صانع؟ أيقف شامخاً مطمئناً أم يدعها تهوي به؟ يجيب كارنيجي بخطة عملية ثلاثية، هي: أولاً: تحديد أسوأ ما قد يصيبه، ثانياً: الاستعداد للتقبل، ثالثاً: المواجهة ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه. إن هذا يتفق وقوله ﷺ: “إنما الصبر عند الصدمة الأولى”، وكما قال الفيلسوف الصيني (لين يوتانغ): “إن طمأنينة الذهن لا تتأتى إلا مع التسليم بأسوأ الفروض” وهو ما يؤكده علم النفس الحديث من أن التسليم يحرر من القيود، وكلما بقي المرء يقظاً لا يستبعد وقوع النوائب ويقلّب وجوه الآراء ليختار أحكمها “فإن النجاح لن يخطئه”. والغزالي بهذا ينبّه على الفرق بين التسليم واللامبالاة، فيقول: “إذا وجدت الصبر يساوي البلادة في بعض الناس فلا تخلطّن بين تبلّد الطباع المريضة وبين تسليم الأقوياء لما نزل بهم .. وأول معالم الحرية الكاملة ألا يضرع الرجل لحاجة فقدها”. وإن الإيمان الحق هو ما يشدّ من عود المرء فلا يهزّه ريح، وإن صبر المرء على فجاءة النوازل لا يبرره سوى نفس أبية تهوّن كل فقد. وشتّان بين نظرة المؤمن وغير المؤمن، فإذا تصوّر أحد الماديين الحياة من التفاهة كصرصار يموت من ضربة عابرة يعود بها إلى العدم ويذهب طي النسيان، فإنها تُصبح عند المؤمن كذكرى حافلة بعد أن ينتقل إلى حياة أخرى أجلّ وأصدق وأكثر وعياً. ويحصر الغزالي في موضوع (هموم وسموم) ما أورده كارنيجي من الإحصائيات التي يظهر فيها بني جلدته الأمريكان مرضى للقلق، تتلاعب بهم علل عضوية وعصبية ونفسية وعقلية، وفي مراحل عمرية متفاوتة لا يسلم منها حتى فئة الشباب، وقد تم تصنيف القلق بالقاتل الأول في أمريكا، وكل هذا سببه اللهاث المحموم نحو إحراز ما أمكن من المال ومتع الحياة الدنيا. ويتساءل “أهذا هو ثمن النجاح؟ هل يعد ناجحاً ذاك الذي يشتري نجاحه بقرحة في معدته ولغط في قلبه؟ وماذا يفيده مرضه إذا كسب العالم أجمع وخسر صحته؟”. ثم يستتبع الغزالي هذا التساؤل بحكمته ﷺ: “إن هذا المال خَضِر حلو، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يُبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع”.

لا يجد الغزالي في موضوع (كيف نزيل أسباب القلق) مظلوماً تواطئ الناس على بخسه وتراخوا عن نصرته مثل (الحقيقة)! وإن هذا المظلوم له من العاملين به والعارفين لقدره القلة من الناس. وعن هؤلاء القلّة يقول: “والحق أن الرجولات الضخمة لا تُعرف إلا في ميدان الجرأة”. فكم من دين تأسس على خرافة وأساطير وكم من سلطة حكّمت الهوى وأحالت الخير شرّا. فيقول: “على أن الاهتداء إلى الحق والثبات على صراطه يحتاج إلى جهد ودأب، ويحتاج كذلك إلى استلهام طويل من عناية الله. وقد كان رسول الله إذا حزبه أمر جنح إلى الصلاة يضم إلى عزيمته وجلده حول الله وطوله”. غير أن السكينة في تلّقي الحقيقة مهما كانت وضبط النفس حول ما قد يشوبها من شكوك لهو مطلب أساسي في الوقوف على الحقيقة الدامغة ولا شيء غيرها، ومن ثم التصرف بحزم وإنفاذ القرار بعزم خالص. ويعرّف الغزالي العلم في موضوع (علم أثمره العمل) بأنه إدراك وقواعد وملكة، فالإدراك هو تصّور مجرّد للأمور، والقواعد هي المبادئ والقوانين، والملكة هي الخبرة المكتسبة، غير أن الأخيرة هي ثمرة الإدراك الوافر وإعمال القواعد معاً. وبعيداً عن أي مفهوم نظري، فإن الدين منهجاً تهذيبياً في الإيمان والأخلاق والسلوك والعمل، إذ لا تكمن الفائدة المرجوة منه في تداوله بين الألسن وحفظه في الذاكرة، فلا بد من العمل به. فهذا برنارد شو ينهى عن التلقين قائلاً: “إذا لقنت إنساناً شيئاً فلن يتعلم أبداً”، وكان أحد التابعين يقول: “كنا نستعين على حفظ أحاديث رسول الله بالعمل بها”. فالقلوب يُحيها العمل بالمعرفة، وأي علم تحصّل عن طريق العمل فهو الملكة التي تبعث على الاستنارة. ويضرب مثلاً في الصلاة التي تبدأ بالدروس ومحاولات إقامتها وتنتهي بالخشوع والتسامي والإخلاص بعد الإقبال وطول الإتقان لشكلها وموضوعها. وينقل عن أحد المدراء أسلوبه الإداري في التعاطي مع المشكلات التي يعرضها عليه فريق عمله بين حين وآخر، إذ كان قد فرض عليهم قبل عرض المشكلة عليه تقديم إجابات رسمية عن أربعة أسئلة، وهي: (ما المشكلة، ما منشئها، ما هي الحلول الممكنة، ما هي أفضلها)؟ وهو الأسلوب الذي كان يجده الموظفين قد حلّ ثلاثة أرباع المشكلة قبل عرضها عليه، فلم يجدوا داع لمعونته، وبهذا تقلّص الوقت المخصص للنقاش وطال وقت العمل وحقق أفضل الإنجازات. ثم يحذّر الغزالي من العلم دون العمل، حيث إن مجرد “تعشّق الكمال” عادة لا تتجاوز حدوده طيب الحديث عنه، وهو السلوك الذي كرهه الله لعباده لما يحوطه من شبهة رياء وادعاء، فيقول عزّ من قائل: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ”.

يحذّر الغزالي كذلك في موضوع (آفات الفراغ) من البطالة التي ليست سوى مرتعاً للرذائل ومجلبة للفساد والفناء، وكيف أن العاطلين في حقيقتهم موتى في الوقت الذي يكون فيه العمل رسالة لكل حي. وقد نبّه النبي الأكرم ﷺ عن الغفلة في ظل تواتر نعمتي الوقت والعافية إذ قال: “نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ “، لذا فإن أفضل ما يصون حياة الإنسان منهجاً يملأ وقته، فلا يتخلله فراغ يتسلل فيه الشيطان بوسوسة أو غواية. ويضرب في المصباح الكهربائي مثلاً مستعيناً بعلم الطبيعة، إذ أن بمجرد إحداث ثقب صغير في مصباح ما فإن الهواء يندفع فيه دفعاً تلقائياً لتعبئة المساحة الخالية “كذلك تسرع الطبيعة إلى ملء النفس الفارغة” لكن بمشاعر من خوف وقلق وغضب وحسد وغيرة “فهي تندفع بقوة بدائية عنيفة متوارثة من عهد الغابة”، وهي من العنف ما تبدد استقرار العقل والسلام الداخلي. ثم يقرّ الغزالي بحقيقة مؤلمة مفادها أن الفراغ الذي يعاني منه الشرقيين يدّمر كل طاقة إبداعية وموهبة تحت ركام التجاهل والاستهانة كما في المعادن النفيسة في مجاهل المناجم، ويقول: “وعندي أن العلة الأولى لتخلّف الأمة العربية والشعوب الإسلامية ما غلب على أحواله النفسية والاجتماعية من قعود واستكانة وتقاعد”. لذا فهو يرى استحالة أن تحصد هذه المجاميع الغفيرة أي نجاح دنيوي وأي فلاح أخروي ما لم تُغير أساليبها في الحياة وتمحو من ميادينها كل شرور البطالة والفراغ. ثم ينتقل إلى موضوع (لا تدع التوافه تغلبك على أمرك) وهو يرى المؤمن يتهيّب الكبائر فتردعه عن اقترافها، غير أن منهم من لا يبالي بصغائر الذنوب حتى إذا تراكمت عليه أهلكته! ويقرّب الصورة برجل تحاشى تناول السم بجرعة كبيرة لكنه دأب على تناوله بجرعات صغيرة في ماء ملوث أو طعام مكشوف. لذا، فقد أهاب النبي الأكرم ﷺ بأمته من اقتراف الصغائر وأوصاها بأن تتطهر حيناً بعد حين من آثارها، فقال: “إياكم ومحقّرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يُهلكنه”. وينقل كارنيجي عن (الأدميرال بيرد) عندما قاد معسكراً في القطب الجنوبي في درجة حرارة تنخفض إلى الثمانين تحت الصفر، وبدلاً من الانتباه إلى الأخطار المحدقة، فقد كان رجاله يتخاصمون لأتفه الأسباب، كأن يتعدى أحدهم على المساحة المخصصة لنوم رفيقه بقدر بوصات أو أن يتقزز الآخر من رفيق آخر له يمضغ الطعام ثمان وعشرون مرة، فيعقّب قائلاً: “ولست أعجب لهذا، فإن صغائر كهذه في معسكر قطبي يسعها أن تسلب عقول أشد الناس دربة على الطاعة والنظام”. وعلى الرغم من أن الله عز وجل يغفر اللمم من الذنوب ويتجاوز عن الصغائر لكل مؤمن يسعى إلى كمال إيمانه، غير أن البعض يقيم الدنيا ولا يقعدها لسيئة وقع عليها في سلوك شخص ما رغم ما هو عليه من شمائل الأخلاق. وعلى هذه الحقيقة المؤسفة يصرّح النائب العام في نيويورك (فرانك هوجان) بأن نصف القضايا التي يتم عرضها على محاكم الجنايات تقوم على أسباب تافهة “كجدال ينشأ بين أفراد أسرة، أو من إهانة عابرة او كلمة جارحة أو إشارة نابية”. إن الحل يكمن في “صقل مرآة الذهن” فلا تلتقط سوى صوراً حقيقية من أروقة الحياة لا تشوبها شوائب، ومن ثم وضع الصورة في نطاقها الأكثر رحابة بحيث لا يتم الحكم عليها بمنأى عن الصور الأخرى، ولا لحظة شر بمنأى عن جبل من الخير.

يؤكد الغزالي في موضوع (قضاء وقدر) على أن المؤمن وهو يقرّ بأن مقاليد السموات والأرض بيد الله وحده كفيل ببث أعظم مقادير الطمأنينة في قلبه، إذ مهما تقلبّت الأحوال واضطربت الأحداث فإنها تحت مشيئة الله العليا. يقول عز وجل: “وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ”. وهذا يفسّر ركون المؤمن إلى ربه بعد أن أدى واجبه على أكمل وجه، فمن توكّل عليه وحده استراح، وليس للقلق معنى في أمور تخرج عن نطاق الإرادة البشرية، وإن كان للمرء تقريع نفسه على تفريط ما استوجب عليه سوء، فإن القدر الذي وقع ولم يطلّع عليه من قبل لا يستلزمه ندم، وهو بهذا لا عليه قلق أو تربّص أو ريبة. غير أن كثير من الناس لا يفقه هذه الحقيقة سواء جهلاً أو جحوداً، فيباشر أحدهم أعماله وهو يحمل هموماً مقيمة لا تقتصر على ما فات وحسب بل على ما قد يرميه به المستقبل لاحقاً، وهو الأمر الذي يتم استغلاله بسوء كما أوضح كارنيجي من خلال المثال الذي ضربه في شركة (لويد) العالمية للتأمين، فقد حققت أرباحاً طائلة خلال المائتين عام السابقة، وستحقق، طالما هواجس الغيب والخوف من المستقبل والخسائر المتوقعة والوهن من تحملّها جميعاً تثقل كاهن البشر، فيقول: “لكن كثيراً من الرجال الناضجين لا تقل مخاوفهم سخفاً عن مخاوف الأطفال والصبيان، وفي استطاعتنا جميعاً أن نتخلص من تسعة أعشار مخاوفنا تواً لو أننا كففنا عن اجترار خواطرنا، واستعنّا بالحقائق المدعومة بالإحصاء، لنرى إن كان هناك حقاً ما يبرر تلك المخاوف”. وليس خيراً من وصية النبي الأكرم ﷺ إذ قال: “ارض بما قسمه الله لك تكن أغنى الناس”. أما في موضوع (بالحق أنزلناه وبالحق نزل) يرى الغزالي أن الإسلام يعنى بالجانب العقلي من ناحية تنظيم الأفكار التي تنتظم بها مقدمات الأشياء فتنتج الصواب وتحقّ الحق، بينما يعمل في الجانبين النفسي والاجتماعي كأداة لتنظيم المشاعر على أسس من الإيثار والأخوّة والفضيلة ونبذ ما سواها من رذائل. وهو بهذا يمهّد السير نحو الهداية وطريق الحق ومسعى الكمال، لهذا، لا تُصبح الغاية من العبادات المفروضة تقمّص صوّرها واعتياد حركاتها وسكناتها، بل كل ما يعزز إدراك العقل ويقرّبه أكثر فأكثر نحو الصواب، وما يساعد على إحكام الأهواء والسير في الحياة بإحسان من غير دنايا أو مظالم. وهو المقصد في قوله تعالى: “فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ”. غير أن طبيعة الإنسان تحيد به في بعض الأحيان نحو نزوات وشهوات، وليس الخوف من هذه النزعات سوى في مغبّة الاسترسال فلا تلبث حتى تطرحه في مهالك لا يعود بعدها سالماً. يقول ابن المقفع: “المؤمن بخير ما لم يعثر، فإذا عثر لجّ به العثار”. والحل هو أن يحرص المؤمن على ألا يلج هذه اللجاجة فإن وقع فعليه الاستدراك سريعاً ومجاهدة النفس ألا يعود أبداً.

قبل الختام، ومع هذه المفارقة في توفيق المبادئ الإسلامية على يد أحد علماء الإسلام بمنهج حياة دعى إليه مفكر أمريكي لا يعتنق الإسلام ديناً، استحضر قول الإمام محمد عبده الذي تخرّج في الأزهر الشريف وتقلّد منصب مفتي الديار المصرية حينما قال قولته الشهيرة كخلاصة انطباع اتخذه عن واقع عاصره: “وجدت بالغرب إسلام ولم أجد مسلمين ووجدت بالشرق مسلمين ولم أجد إسلام”.

ولا أطيب مسك للختام من كلامه عز وجل في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بيديه ولا من خلفه: “فِطرةَ اللهِ التي فَطَر النَّاسَ عَلَيْهَا”.

 

للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 27 ابريل 2022 – جزء (1) صفحة (10):

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/04/5104.pdf

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 28 ابريل 2022 – جزء (2) صفحة (10):

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/04/5105.pdf

 

……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..

أنشر هذه المقالات في شهر مايو 2022 والذي يصادف عيد الفطر المبارك 1443
عيد سعيد
وكل عام والجميع بخير
همى الغيث

……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..

(9)

كتاب/ التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور

المؤلف/ د. مصطفى حجازي

دار النشر/ المركز الثقافي العربي – بيروت

الطبعة/ 14 – 2016

مبحث في ملامح المقهور النفسية وألوان دفاعه

 

 

كتاب قد يُصنّف ضمن علم اجتماع الفضائح، والذي يعرّي ما يعتمل في باطن إنسان المجتمعات النامية من غصص وقهر وكبت، وهو متوارٍ تحت أعراف وقوانين وشرائع دينية وألوان من قيود أخرى ما أنزل الله بها من سلطان. إنه الواقع لا محالة! فالمجتمعات الشرقية تعيش في استسلام شبه متناه وهي ترزح تحت سطوة إقطاعية مستبدة تربع على عرشها زمرة من طغاة تستفرد بالقضاء والقدر كآلهة شر، ويخضع الأفراد لجبروتها خانعين كأمة من المقهورين، قد أبلسوا من رحمتها، لا حول لهم في ذلك ولا قوة. بيد أن المعضلة لا تكمن في الغفلة عن تناول التخلف بالبحث والدراسة من جانب التنمويين، ولا في تجاهل الساسة عن الوجود الفريد لهكذا نمط إنساني له تفاعلاته العقلية والنفسية، بل في التأثير الفعّال للإنسان المتخلف ذاته نحو تعزيز هذه الصيرورة وترسيخ أركانها ومقاومة أي بادرة نحو التغيير، في إصراره بالمحافظة على توازنه النفسي الذي أصلّت له في الأساس تنشئة بيئة اجتماعية يسودها التخلف، تشترك فيها قوى طبيعية غيبية في بسط ممارساتها الاعتباطية عليه وتشكيل الطابع العام لتركيبته النفسية، وقد أضافت له قهراً مضاعفاً.

وبينما يعرّف د. حجازي كتابه بأنه (مدخل)، فهو يأتي بمثابة مبحث متكامل يتعرّض فيه بموضوعية إلى تسعة مسائل يحدد من خلالها المشكلة والحجة والأعمال المقترحة، تسترسل من خلال قسمين رئيسيين. (الأول: الملامح النفسية للوجود المتخلف)، وفيه يتطرق إلى تحديد وتعريف السيكولوجية المتخلفة ضمن إطارها النظري، لينتقل إلى سرد الخصائص النفسية للتخلف ووصف العقلية المتخلفة والحياة اللاواعية التي تُعد أحد سماتها. (الثاني: الأساليب الدفاعية)، ويتعرّض فيه إلى الأشكال المتعددة التي تتخذها، وتظهر أساساً في: الانكفاء على الذات، التماهي بالمتسلط، السيطرة الخرافية على المصير، العنف، ثم وضعية المرأة التي تظهر أشدها وضوحاً وبؤساً.

أما عن الباحث، فهو د. مصطفى حجازي، كاتب لبناني وعالم نفس وأستاذ أكاديمي حاصل على درجة الدكتوراة في علم النفس من جامعة ليون في فرنسا، وله العديد من الأبحاث العلمية، وقد بدأ إصداراته الفكرية بالكتاب الذي بين أيدينا عام 1981، وهو الكتاب الذي لا يزال محط اهتمام ونقاش ومراجعة حتى الوقت الحالي. وله في نفس الحقل كتاب/ العصبيات وآفاتها: هدر الأوطان واستلاب الإنسان. وكتاب/ الإنسان المهدور: دراسة تحليلية نفسية اجتماعية.

تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الرابعة عشر للكتاب الصادرة عام 2016 عن المركز الثقافي العربي في بيروت، والتي أعرض من خلالها أبرز ما جاء في مآزق الإنسان المقهور، وباقتباس يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) كما يلي:

على الرغم من تسليط الضوء على الفئة الأكثر قهراً في المجتمع المتخلف تحت سلّم السطوة والخضوع، يعتقد د. حجازي أن الفئة التي تبدو أكثر حظاً لا تخلو أيضاً من قهر، مع اختلاف درجة الحدّة. يقول: “فبينما يتماهى الفلاح بسيده ويشعر بالدونية تجاهه، نرى السيد يتماهى بدوره بالمستعمر أو الرأسمالي الأوروبي ويشعر بالدونية نفسها تجاهه”. ثم يتطرق وهو يتحدث عن التخلف العقلي إلى طابع “الخصاء الذهني” الذي يتلبّس الإنسان المتخلف اجتماعياً كحالة ضعف عقلية زائفة. ففي حين يتشكّل هذا الخصاء عموماً كعجز عن تأكيد الذات أمام العالم في هيئة مقاومة الفهم، يأتي هذا الخصاء اجتماعياً في هيئة رضوخ الإنسان المتخلف لأساطير قوى الطبيعة وسطوة أصحاب السلطة، فيبدو المتخلف دائم التردد في الاقبال على أمر ما خشية الفشل، أو قد يصرّح بعدم قدرته عليه قبل بذل أي محاولة، بل قد يشطّ البعض ويصدر أحكاماً تعسفية على هذا الأمر متبجحاً بموهبته السريعة على الفهم. ويقول: “يتذبذب الإنسان المتخلف ما بين الشعور الشديد بالعجز عن استيعاب العالم، وبين طغيان مشاعر السيطرة على الواقع من خلال الحذق (الفهلوة) الذي يعتدّ به الجمهور كوسيلة مفضلة للفهم”.

ومن ملامح المجتمع المتخلف ما يطلق عليه د. حجازي بـ “التوتر الوجودي العام”، حيث الاستنفار النفسي العام لأي صراع محتمل! إذ ما يلبث اثنان أن يتحاورا حتى يختلفا في وجهات النظر، لتحلّ السباب وشتائم الأعراض محل الجدال الموضوعي، وحيث تطغى العاطفة الانفعالية على كل ملكات النقد والمنطق والعقلانية. يستزيد فيقول: “وأحياناً ينفذ التهديد باستخدام العضلات أو السلاح بسهولة مذهلة في فورة غضب. ذلك أن هناك إحساساً دفيناً بانعدام فعالية اللغة اللفظية وأسلوب الاقناع، فيتحول الأمر بسرعة إلى الحسم السحري (العضلي أو الناري) من خلال الإخضاع”. يؤمن الإنسان المقهور بطغيان قوى خارقة للطبيعة تتلاعب في مصيره، كتلبّس الأرواح والجن والعفاريت، وتحكّمها في فرص الخطوبة والزواج والعلاقة الجنسية والإنجاب، بالإضافة إلى إصابات العين القاتلة وطاقة الحسد وغيرها من شرور الماورائيات. لذا، يسعى هذا الإنسان جاهداً اتخاذ ما يلزم من تدابير وطقوس تكفيه شرورها وتضمن له نوعاً من التحكم في مصيره، كالاستعانة بخدّام المقامات وتحضير جلسات الزار، وتخبئة المولود، وإخفاء الأثاث، والتكتم على حجم الثروة، وإفساد كل مظهر جميل. يخلص د. حجازي بقوله: “ليس هناك إذاً أكثر تضليلاً من إلقاء المسئولية على الكائنات الخفية ثم البحث عن ذلك الحل من خلال مختلف ضروب الشعوذة”.

أما عن المرأة في المجتمعات المتخلفة، فقد حدّث د. حجازي عنها ولم يتملّكه حرج، فهي أفصح النماذج تعبيراً عن الوجود الإنساني المتخلف في كافة أوجهه، لا سيما في عجزه ونقصه وتبعيته ورجعية تفكيره، والذي يظهر جلياً في تغلّب عاطفة المرأة وإنكار ذاتها وإحلال الخرافات محل التفكير الجدلي. تظهر المرأة عادة بين نقيضين، حيث تتفاوت مكانتها لدى الرجل في المجتمع المتخلف: “بين أقصى الارتفاع: (الكائن الثمين، مركز الشرف الذاتي، رمز الصفاء البشري الذي يبدو في الأمومة)، وبين أقصى حالات التبخيس: (المرأة العورة، المرأة رمز العيب والضعف، المرأة القاصر، الجاهلة، المرأة رمز الخصاء، المرأة الأداة التي يمتلكها الرجل مستخدماً إياها لمنافعه المتعددة)”. يستطرد ويقول: “في الحالتين تُستخدم المرأة كوسيلة للتعويض عن المهانة التي يلقاها الرجل المقهور اجتماعياً، وللتعويض عن قصوره اللاواعي بإسقاطه على المرأة “. وهي في العادة محل ترقيع لخرق الكائن مسلوب الرجولة. فيقول: “كلما كان الرجل أكثر غبناً في مكانته الاجتماعية، مارس قهراً أكبر على المرأة”. ثم يؤكد على أن استمرارية شحن الرجل بالقدرات أو بإيهاماتها إلى الحد الذي يتحول فيه إلى “أسطورة الكفاءة”، تؤدي إلى إسقاط كل صور الضعف والهوان على المرأة، والتي تلعب بدورها “دور الكائن القاصر التابع الذي يحتاج إلى وصي”. غير أنها تصبح في موقع أسوأ بكثير عند الأوساط الكادحة وما دونها، حيث تسود القاعدة التي يعوّض فيها الرجل كل شعور بالقهر والمهان من خلال دور السيد، وممارسة مختلف أشكال الإخضاع والاستعباد والاستغلال على المرأة، “ويحولها إلى أداة له، تخدمه، تنجب له الذرية التي تعزز قوته الذكورية، فتتحول إلى وعاء لمتعته بشكل أناني لا يراعي حاجاتها ورغباتها. تموت نفسياً كي يستمد هو من هذا الموت وهم الحياة، تُسحق كي يستمد هو من هذا الانسحاق وهم تحقيق الذات”. إنه باختصار يمارس عليها وعلى جميع الأصعدة استغلالاً تاماً تهرّباً من شعور الهوان المصاحب لاستغلال المتسلط عليه. يستمر د. حجازي ليعرض أقصى درجات القهر التي يمارسها المجتمع في تنكّره لها عند مقدمها للحياة، وفي هذه الأوساط تحديداً، إذ يقول: “فهي تُستقبل حين تولد بالتذمر والتبرم والضيق، إذا لم تستقبل بالرفض الصريح. وهي توضع كطفلة في مرتبة ثانية أو هامشية بالنسبة للصبي الذي يعطى كل القيمة، وهي تتحول إلى خادمة للأخوة والأب، حين تستنزف طاقة الأم، وهي تستخدم كأداة لتمرّس أخوتها ببسط النفوذ الرجولي من خلال الوصايا وبزعم الحماية الوهمية لها. وعليها تنصبّ كل الضغوط وتفرض كل القيود في طور البلوغ. وتتابع مسيرتها متوجهة نحو مصيرها كأداة للمصاهرة يباع جسدها لقاء تغطية أعباء نفقاته ولقاء مبلغ من المال من الزوج كي يتخذ منه أداة لمتعته ووعاء لذريته وجهازاً حركياً يقوم على خدمته. أما نفسها وكيانها فيفرض عليهما موت معنوي بطيء”.

إن المرأة في تكوينها البيولوجي كأنثى لا تختلف عن الذكر، بل إن تكوينها هو الأكثر متانة ومناعة، غير أن التبخيس الجسدي في لغته وحركته أدى إلى ارتداد طاقته داخلياً على شكل مازوشية، تفجّر فيها المرأة عدوانها على ذاتها، والذي قد ينطلق خارجياً على هيئة ممارسات تشي بالحقد والحسد والكيد والدسيسة. تظهر هذه المرأة كذلك حبيسة المنزل، كصورة من صور حرمان التعاطي مع واقع المجتمع الذي يزخر بفرص التدريب الإنساني الحي، فضلاً عن التجهيل المتعمد الذي يسمح بتسلّط الخرافة على حساب تنمية ملكة التفكير لديها، والتصرف بحكمة وعقلانية. إنها أيضاً في المجتمع العشائري جسد يُقتل بالمصاهرة والإنجاب، وعقل يذهب طي النسيان. يقول د. حجازي في مرارة: “قيمتها كلها .. شرفها كله يركّز في عفافها الجنسي المتمثل سطحياً بغشاء البكارة. شرفها يتلخص في صفة تشريحية كما تقول د. نوال السعداوي، قد يولد بها الإنسان أو لا يولد”. إنها ليست امرأة إذا ثُبت عليها صفات النبوغ والتفوق والذكاء، إذ يعتبر المجتمع المتخلف صفات كهذه حكراً على الرجال فلا تمت للأنوثة بصلة. عندها -إن كان لزاماً- تصبح المرأة (رجل) أو (أخت رجال)، كحرص لنسب كل مظهر قوة للرجولة وطمسها أنثوياً. هي كذلك تتساوى مع أولئك العمّال الخاضعين لأسيادهم من ذوي رؤوس الأموال، حيث يتم غرس قيم العفة والزهد والطاعة وتبجيل صاحب السلطة والاستماتة في الدفاع عنه، في حين يُتخم السيد بأصناف النعم وقد أبيحت له كافة، مع قيم الجشع والتملك والإفراط في كل شيء. لكنها تستلب كيانها الأنثوي بيديها حين تثور على العبودية المفروضة عليها بطريقة تحاكي فيها الرجل كنموذج للتحرر والانطلاق في الحياة! إنها محقة حين ترفض دورها كخادمة أو كآلة للتفريخ أو كجسد للمتعة، لكن قد ينحى هذا الرفض نحو إنكار حاجاتها البيولوجية أو صفاتها الأنثوية، أو بالإبقاء على صفاتها الأنثوية من غير حميمية.

وبعيداً عن “الاستلاب الجنسي” الذي هو أشد قهراً مما هي عليه في “الاستلاب الاقتصادي”، فإنها تواجه مأساتها الكبرى في “الاستلاب العقائدي”، إذ تقنع من خلاله بتفوق الرجل عليها وبدونيتها أمامه، وتقبل من ثم بالرضوخ تحت وطأته. إنها على يقين تام بأنها كائن “قاصر، جاهل، ثرثار، عاطفي، لا يستطيع مجابهة أي وضعية بشيء من الجدية والمسئولية وبالتالي لا تستطيع الاستقلال وبناء كيان ذاتي لها”. في هذا النوع من الاستلاب يستفرغ الرجل عليها بلوثة من أساطير الأولين التي تحمّل حواء إثم الخطيئة الأولى “بضعفها واحتيالها ومكرها وغيّها. حواء مجسدة الآثام والشرور ومصدر كل غواية”. وفي نفس الاستلاب، تظهر كم هي متضخمة النرجسية حين تتمسك بوظيفة الأمومة كحصن أوحد تحظى تحت سقفه بشيء من القداسة، حيث تشعر بأهمية جسدها الخصب المرغوب به دوماً، والمتكفّل بالإنجاب والحضانة والرعاية بالذرية ووالد الذرية. ينتج عن تضخيم قيمة الأمومة تلك خاصية التملك الأبدية، حيث يرتبط الصبي بأمه رباطاً قلّما يتفكك عند كبره، والذي قد يصبح به تابعاً لزوجته خاصة مع تلك التي تتقن لعب دور الأم معه.

أخيراً، إنه كتاب قد يواجه فيه أحدنا نفسه -وقبل الجميع- رزايا قهره وضعفه وخنوعه وتخلفه بموروثه الاجتماعي المسموم، غير أن أشدنا بؤساً هو حقيقة ذلك المغبون الذي تجرّع السموم كعدل وحق مستحق وما علم أنها فُرضت عليه قسراً وجوراً، فبات إنساناً مقهوراً من حيث لا يدري!

 

للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 11 مايو 2022 – صفحة (10):

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/05/5109.pdf

 

……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..

(10)

كتاب/ الرحلة الداخلية

المؤلف/ أوشو

المترجم/ عبدالوهاب المقالح

دار النشر/ دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع

الطبعة/ 1 – 2015

إبحار في أعماق النفس البشرية

 

 

كتاب غزير مثقل بلآلئ الحكمة، يُبحر في أعماق النفس البشرية متخذاً الجسد مطية لمغامرة العوم تلك ورحلة التأمل الروحي. تسترسل الرحلة على هيئة أحاديث عفوية أدارها الحكيم الهندي أوشو مع مريديه، في إحدى مراكز التأمل الواقعة في مدينة (كوجرات) بالهند.

إنه أوشو .. أو تشاندرا موهان جاين (1931 : 1990) الذي تنقل شبكة المعلومات العالمية عنه أنه ولد في الهند البريطانية ودرس الفلسفة ودرّسها في الجامعات المحلية، وتدرج من ثم في العلوم الصوفية ليُصبح (غورو) أو معلم روحاني فاقت شهرته حدود وطنه، ليصل إلى العالمية ويُلقب بـ (زوربا البوذي)، إشارة إلى توجهاته الانفتاحية رغم دعوته الروحية!. وإن له من الإصدارات في المجال الروحي ما تتصدّر الطليعة على الدوام رغم ما تموج به الساحة الفكرية من إصدارات أكثر حداثة، أذكر منها على سبيل المثال: كتاب المرأة: احتفالاً بروحية المرأة / ماذا الآن يا آدم؟ كتاب عن الرجال / النضج: عودة الإنسان إلى ذاته / الحرية: شجاعتك أن تكون كما أنت / لغة الوجود: ما وراء الحياة والموت / سيكولوجية الاستنارة والأجساد السبعة / المركب الفارغ: لقاءات مع اللاشيء / التأمل: فن النشوة الداخلية.

تعرض صفحة المحتويات ثمانية فصول رئيسية بالإضافة إلى المقدمة وكلمة المترجم والتعريف بالحكيم، حيث يبدأ حديثه في الكتاب عن (1. البدن: الخطوة الأولى) ليتفرّع إلى كل من (2. الرأس، القلب، السرّة) ومن ثم يخصّ حديثه عن (3. السرّة: مستقر الإرادة)، ويستمر حتى يؤكد على أهمية (4. معرفة العقل) وماهية (5. المعرفة الحقة)، التي تقوده إلى التوصية بـ (6. لا تصديق، لا تكذيب)، وإلى الحاجة نحو (7. ضبط القلب)، ليخلص الحكيم في نهاية الرحلة إلى حقيقة أن (8. ليس للحب “أنا”).

تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الأولى للكتاب الصادرة عام 2015 عن (دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع)، والتي جاءت عن ترجمة مباشرة للكتاب من لغته الأصلية (The Inner Journey – By: Osho) وقد عني بها (عبدالوهاب المقالح) وهو أكاديمي يمني حاصل على درجة البكالوريوس في اللغة العربية من جامعة صنعاء، وماجستير في التعليم الابتدائي من أمريكا، وفي تعليم اللغة الإنجليزية من بريطانيا. يعمل في سلك التدريس الجامعي، بالإضافة إلى إسهاماته في ترجمة العديد من الأعمال الأدبية العالمية إلى اللغة العربية عن اللغة الإنجليزية، مثل (الملحمة الهندية: المهابهاراتا).

ومن شلال الحكمة الذي ارتوى به هذا الكتاب حتى الثمالة، أنهل غيض من فيض، وباقتباس يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):

إن العقل هو زهرة نبات الإنسان والتطور النهائي في جسده، إلا أنه ليس الجذر، بل الروح. يقول أوشو: “بالنظر إلى النبات، تتبدى الزهور أهم جزء فيه. وبالطريقة ذاتها يتبدى لنا أن العقل في الإنسان هو أهم جزء فيه”. وفي حديثه عن الجسد، يعتقد أن المنغمسين في الملذات وأولئك المتنسكين في العبادة على حد سواء، قد عذبوا الجسد كل على طريقته أذىً بالغاً. أما في حديثه عن الروح، فيرى أن روح الإنسان مرتبطة بالسرة .. لا بالقلب ولا بالعقل! فكما أن السرة هي مركز الجسد، فهي أيضاً مركز الحياة، حيث يولد بها الإنسان، وبواسطتها تفنى حياته. إنها أيضاً البوابة التي يدخل منها أولئك المهتمين بالحقائق الروحية. وحين ينتقل في حديثه من الجسد إلى العقل، يؤكد على أن العقل حتى يسترخي، لا بد أن يسترخي الجسد أولاً. حينها: “ستشرع العصافير في الغناء، وستسمعون صوت الطاحونة في مكان ما، وفي مكان آخر ربما نعب الغراب أو صاح الديك، وفي مكان آخر ثان ستسمعون أصواتاً أخرى”. هكذا يُصبح العقل كلما استرخى، أكثر يقظة وأكثر حساسية وأكثر استشعاراً لكل ما هو محيط به. كذلك، يُكمل العقل في النوم ما لم يتمكن من إكماله في الصحو، فإن كان الإنسان غاضباً من أحد ما ولم يتمكن من تفريغ شحنة غضبه، فرّغها في منامه، وذلك حتى يستعيد العقل حالته الصحية. لهذا، يعتبر أوشو أن: “الليل هو مرآة النهار. أياً كان ما يحدث في العقل خلال النهار فإنه يتردد كالصدى في الليل”. لا عجب إذاً أن يرى الحكيم نمط التعليم التقليدي السائد في العالم وهو يقود وعقل الإنسان إلى الجنون! ففي بلد مثل أمريكا، تشير الإحصائيات إلى تصاعد حالات الجنون رغم تصنيفها بالأرقى تعليماً والأكثر تحضراً.

لا يغفل الحكيم في وصاياه عن الحثّ في الاستمتاع بالحياة من غير أي منغصّات، فيورد في هذا المعنى حكاية معبّرة، إذ يتنزه السيد المسيح مع حوارييه في حديقة ما، ويخبرهم كم هي تلك الأزهار الجميلة تنعم بالبهجة في اللحظة الراهنة، رغم أنها لا تعلم إن كانت ستنعم بمثل هذا اليوم المشمس غداً أم لا! هنا، يعقّب الحكيم قائلاً في نبرة استهجان: “الإنسان وحده هو الذي يقوم اليوم بالترتيبات للغد ولبعد غد. وثمة أناس يعدون للكيفية التي ينبغي أن تكون عليها قبورهم”. وفي نفس المعنى، يحذّر الحكيم من التهاون في الأخذ بالأسباب الحيوية من أجل الاستمتاع بحياة أفضل، إذ يجزم بأن أولئك الذين يحذّرون من النوم ثمان ساعات يومياً بحجة ضياع ثلث العمر في النوم، هم خاطئون، حيث إن الحرمان من النوم يُعتبر أسهل وأرخص طرق التعذيب. وقد تنبّه إليه قدماء الصينيين حين كانوا يصنعون ذلك بمساجينهم، وذلك من خلال قطرات ماء تُسكب ببطء فوق رؤوسهم .. قطرة قطرة، إذ يعلو صراخ الواحد منهم بعد مرور سويعات من التعذيب، ولا يجد بد من الاعتراف عند بلوغه ذلك الحد، حتى يقضي نحبه بعد أيام! يسترسل أوشو فيقول: “ولو أن رجلاً ينام كما ينام الطفل فإنه قد لا يموت، لأن الموت سيكون صعباً. الموت يحتاج إلى نوم أقل فأقل، والحياة تحتاج إلى نوم عميق. وهذا هو السبب في أن نوم المتقدم في السن يتناقص شيئاً فشيئاً في حين ينام الطفل نوماً أطول”.

وللماء كذلك عند الحكيم شأن آخر! إذ يتدفق الماء من خلال عشرة ينابيع التي قد تنقسم إلى مائة ينبوع إن حاول أحدهم منع تدفقها. لقد تغذّى الإنسان في صغره على كبت الأفكار الخاطئة، والتي لا بد أن تفتح قنوات أكثر تعقيداً للخروج إلى السطح بعد أن أصبحت أشدّ قبحاً وعنداً. يعلّق أوشو في استفزاز على هكذا كبت من خلال مشهد تصوّري يصف فيه كل ممنوع بأنه لا محالة مرغوب: “أصرّ عقله ألا تكون القرود موجودة ولذلك جاءت القرود. وكلما حاول عقله أن يتخلص من القرود، ظهرت له .. كلما حاول أن يفرّ منها لحقت به! أن تحرم يعني أن تجذب .. أن ترفض يعني أن تستدعي .. أن تمنع يعني أن تغري”. والعقل الإنساني العجيب يتطلب جهداً في كثير من النواحي، إذ أن مواجهة العقل تتطلب ألا يكترث الإنسان بما يقول الناس عنه أو كيفما يبدو لهم، بل يحتاج ذلك الإنسان لأن يتفرّد في وحدته مع عقله ويفتحه على مصراعيه. ويؤكد أوشو: “إن هذا فعل من أفعال الشجاعة”. وفي هذا يكشف الحكيم جانباً آخر من ضعف الإنسان الوجداني، إذ يهاب الإنسان عادة فكرة المكوث وحيداً، خشية على نفسه من نفسه، أو بالأصح من نفسه الحقيقية، فتراه يقضي الأربع والعشرون ساعة من يومه في المحادثات أو مطالعة الصحف أو سماع المذياع. يقول أوشو في مواجهة ذاتية: “الإنسان يخشى من الوحدة لأنه في وحدته سيتبين انعكاسات حالته الحقيقية .. سيجد نفسه وجهاً لوجه مع ذاته. وهذا أمر مخيف، أمر يدعو إلى الذعر! وهكذا، فمنذ أن يستيقظ صباحاً حتى يأوي إلى فراشه مساءً يواصل الاستعانة باي وسيلة للهروب من نفسه، فلا يضطر لمقابلتها. إنه يخشى أن يجد نفسه وجهاً لوجه مع نفسه”.

وللختام بمسك، أعرض صورة للحكيم الهندي وهو يُحدّث عن الخالق في قول مثقل بالإيمان الخالص، إذ يقول فيه: “ليس اعتباطاً أن الله في العالم أجمع يُدعى (الأب) .. ليس اعتباطاً أن الله صُوّر في صورة الأب. وإذا ما كانت خبرات الطفل الأولى في حياته تتسم بالثقة والامتنان والاحترام لأمه وأبيه، حينئذ فقط ستتطور هذه الخبرات نحو الله .. وإلا فلا”. وأختم على لسان الحكيم في أعذب ما قاله عن العشق الإلهي وأخلصه، وهو يحدّث بلغة صوفية لا بد وأن تتناغم مع دواخل كل من لمس قلبه ذلك العشق .. مهما كان الاعتقاد أو العرق أو اللغة، إذ يقول: “الصلاة من دون حب صلاة زائفة .. فارغة .. بلا معنى! من دون حب لا قيمة لكلمات الصلاة على الإطلاق .. ومن دون حب، ما من سالك في الرحلة نحو المقدّس سيكون قادراً على بلوغ غايته”.

ما أحيلاها صلاة .. وليس مستغرباً أن تأتي الحكمة على قلوب يظنّها بعض المغرورين (على غفلة) .. “أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ”.

 

للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 18 مايو 2022 – صفحة (10):

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/05/5114.pdf

 

……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..

(11)

كتاب/ المخ ذكر أم أنثى؟!

المؤلف/ د. عمرو شريف و د. نبيل كامل

تقديم/ د. أحمد عكاشة

دار النشر/ نيو بوك للنشر والتوزيع

الطبعة/ 8 – 2011

عقل الذكر وعقل الأنثى .. لا امتياز لأحدهما على الآخر

 

كتاب غزير علماً وفكراً وإيماناً، يسلّط الضوء على الكثير من الحقائق العلمية التي تكشف عظمة الخالق في إبداع خلق الزوجين الذكر والأنثى، ويُنهي ذلك الجدل البيزنطي السمج حول امتياز أحدهما على الآخر. رغم هذا، وعلى نفس الوتيرة العلمية والموضوعية، يبشّر الكتاب بمستقبل أنثوي واعد حين استفاض في إنصاف الأنثى على طول صفحاته، من خلال التأكيد على ما تتميز به من استعدادات فطرية، وملكات أخلاقية، ومنظومة سلوكية، تنمو جميعاً بنموها في مختلف مراحلها العمرية. إنه بالتالي يعمل على تبرئة الأنثى من كل الدعاوي المغرضة في الانتقاص من قدراتها العقلية لصالح عقل الذكر الذي أكدّ الكتاب تفوقه على الأنثى بشكل أكبر في جوانب، مقابل تفوق عقلها عليه بشكل أكبر في جوانب أخرى. كل هذا من خلال معلومات وأبحاث ودراسات علمية، لا من خلال حملات مشحونة بالتطرف الجندري، لا سيما وقد جاء الكتاب رجولياً بالثلاثة، من حيث مؤلفي الكتاب والمقدم له، فضلاً عن كونهم جميعاً من أهل الاختصاص! فلا شبهة لشعارات النسوية، ولا للعاطفة سبيل، ولا للتحيز مكان. يقول المقدم للكتاب: “لا جدوى من الهروب! المرأة تغيرت، جسدياً ونفسياً والأخطر عقلياً، بعد أن أكدت الأبحاث الأخيرة أن عقل المرأة مختلف عن عقل الرجل. ‎إن التحدي الحقيقي الذي يواجهه إنسـان هـذا العصر ليس اكتشاف كواكب مجهولة، ولا أقماراً غامضة تجوب الفضاء الفسيح، ولكن اكتشاف قدرات الإنسان الخفية وأخطرها العقل، وخاصة عقل المرأة”. لا يفت المقدم مع هذا الإقرار من الإشارة إلى عظيم صنع الله، فيقرّ مجدداً “‎إن كتاب «المخ ذكر أم أنثى» رحلة في أشد العوالم غموضا، ألا وهو المخ .. وفي أثناء إبحارنا مع المخ تتجلى عظمة الخالق”.

وعن المؤلفين، فهما: د. عمرو شريف، أستاذ ورئيس سابق لقسم الجراحة بكلية الطب في جامعة عين شمس، وله عدد من المؤلفات العلمية والفكرية والدينية، ود. نبيل كامل، خبير في برامج التنمية البشرية. أما المقدم للكتاب، فهو أ. د. أحمد عكاشة، أستاذ الطب النفسي في كلية الطب بجامعة عين شمس، ورئيس مركز بحوث الصحة النفسية لمنظمة الصحة العالمية، ورئيس اتحاد الأطباء النفسيين العرب، وله العديد من المؤلفات في الطب النفسي والأبحاث العلمية المنشورة محلياً وعالمياً.

يفتح الكتاب مصراعيه على بابين رئيسيين، يفتحان بدورهما ثلاثة عشرة نافذة في فصل تلو الآخر، بالإضافة إلى صفحات الإهداء والمقدمة في البداية، وحصاد الرحلة في الختام مع الملاحق والمراجع. كم كان جميلاً أن يستهل إهداء الكتاب إلى “بناتنا وأزواجهن” قبل الجميع، والذي ينتقل بدوره إلى (الباب الأول: الذكورة والأنوثة)، فيبدأ بعرض مجموعة من (تأملات وتساؤلات) في الفصل الأول، لينتقل إلى الفصل الثاني والذي يعرض فيه (العلماء وهم يجيبون على عدد من المفاهيم الأساسية)، ومن ثم عرض (ملامح وسمات التعاطف والتنظيم) في الفصل الثالث. وفي حين يدور النقاش في الفصل الرابع عن (التنشئة أم الفطرة؟) يتطرق الفصل الخامس إلى (إكسير الذكورة)، بينما يتعرض الفصل السادس إلى (إكسير الأنوثة)، ومن ثم ينتقل الحديث في الفصل السابع عن (أمراض تكشف الحقيقة)، ويختم الفصل الثامن بموضوع وتساؤل عن: (الجينات والمخ .. ثم ماذا بعد؟) ثم يفتح الكتاب (الباب الثاني: تطبيقات على الجنوسة) مبتدئاً بالفصل التاسع في إيحاء عن (الجنس بين شهريار وشهرزاد)، ومن ثم ينتقل إلى الحديث في الفصل العاشر عن الذكر والأنثى باعتبارهما (شريكان في مؤسسة الأسرة)، الفصل الذي يقود بدوره للحديث عمّا (بين الأمومة والأبوة) في الفصل الحادي عشر، ليوجه لهما نداءً في الفصل الثاني عشر بـ (أيها الآباء .. أيتها الأمهات: ستحصدون ما تزرعون)، ليخلص في الفصل الثالث عشر بالتوصية حول (القدرات والاهتمامات والعمل).

تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الثامنة للكتاب الصادرة عن (نيو بوك للنشر والتوزيع) عام 2011، وباقتباس يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) كما سيلي في الأسطر القادمة. وقبل البدء، لا بد من التنويه على أن مادة الكتاب جاءت علمية صرفة معززة بالملاحق والمراجع وبمنهجية تراتبية في العرض والتقديم، وباستخدام لغة مباشرة تخاطب القارئ غير المختص، فضلاً عن النصائح الثمينة المقدمة للأزواج، وجملة القيم الأخلاقية والدينية والاجتماعية التي اكتسى بها إلى جانب المادة العلمية. وهو في هذا يسعى إلى إبطال الشعارات التي تعظّم الجنس الذكري على حساب نظيره الأنثوي، علمياً وموضوعياً.

يقرّ علم التشريح بتشابه مخ الرجل ومخ المرأة فسيولوجياً، مع فارق الحجم لصالح الرجل والذي يُبرر بصغر حجم جمجمة المرأة في العادة. غير أن الحجم لا يقرّ درجة الذكاء بالضرورة، إذ أن الفيل ليس بأذكى من الإنسان رغم كبر حجم المخ عنده، كما لم يثبت التشريح وجود أي فرق بين مخ أينشتاين ومخ أي متخلف عقلي، وقد تم تشريح مخه بعد وفاته بموافقة مسبقة منه. إن الفارق هنا يكمن أساساً في مستوى أداء الخلية العصبية للمخ. كذلك، يرفض الكتاب اعتماد كلّاً من “العوامل التربوية” وما تقوم عليه من موروثات ثقافية وأعراف اجتماعية، و “الفروق الكيميائية” المتمثلة في الهرمونات الجنسية، في تفسير الاختلافات الفكرية والنفسية والسلوكية بين الإناث والذكور، تفسيراً قاطعاً. وعن تفاوت درجة العاطفة والمنطق بين الجنسين، يذكر الكتاب: “أن الرجل عندما يحب يحب بلا منطق، وعندما يمنطق الأمور فإنه يمنطقها بلا عاطفة. في حين أن المرأة تمنطق الأحداث بعاطفية، وفي قمة عواطفها لا تتخلى عن المنطق”.

وفي مقارنة سريعة حول: (المشاعر والتعبير): يعاني الرجل من قصور نسبي في التعبير عن مشاعره بالكلمات، حيث تقع قدرات الإدراك بالأمور الشعورية لديه في النصف الأيمن من الدماغ، بينما تقع قدرات التعبير اللغوي لديه في نصفه الأيسر. أما المرأة فتتوزع القدرتين في كلا الفصين، مما يفُسر المهارة اللغوية لا سيما الفورية لديها. (عملية التفكير): أثناءها، تظهر “الخلايا العصبية” المسئولة عن معالجة المعلومات أعلى بمعدل ست أضعاف عند الرجل عن المرأة، في حين تظهر “المحاور العصبية” المسئولة عن تبادل المعلومات أعلى بمعدل عشر مرات عند المرأة من الرجل. (الاستجابة للمحفزات): أن “الجهاز الحوفي” المسؤول عن الاستجابة العضلية هو أكثر نشاطاً عند الرجل من “التلفيف الحزامي” المسؤول عن الاستجابة النفسية والذي هو أكثر نشاطاً عند المرأة. يُفسر هذا تجاوب المرأة مع الاستفزازات لغوياً، واستخدام الرجل لقبضته في مواجهتها. (الحواس): تتفوق المرأة في حاسة السمع وحاسة البصر وحاسة التذوق وإحساس الجلد عن الرجل. فمن بين عشرة مطربين ينبغ رجلان فقط ويكون المتبقي من نصيب المرأة. كذلك، تبصر المرأة الألوان ذات الموجات الأطول وتعلو كفاءة الحاسة لديها في الظلام، كما أنها الأكثر استجابة للأطعمة المرة والحلوة، ويتحمل جلدها أيضاً أقصى درجات الألم.

(المكان: فناء المدرسة – الزمان: سن العاشرة) .. وبينما يجوب الأولاد الفناء ذهاباً وإياباً مصحوباً بصراخ بل وعنف حال خلافهم يصل عادة إلى حد التشابك بالأيدي، تجتمع البنات في مكان ما على طرف الفناء يتبادلن الحديث والحقائب أحياناً. وإن وقع خلاف ما بينهن، فلا يتجاوز حسمهن له استخدام تقنية النقاش أو الصياح. يقع أحد الأولاد على الأرض أثناء اللعب باكياً، فلا يأبه به أحد بل قد يعمد الأولاد إلى إزاحته جانباً من أجل الاستمرار في اللعب، أما لدى البنات فتتوقف اللعبة بأكملها، حيث يهرعن جميعهن نحو تلك التي سقطت لمساعدتها والتخفيف عنها. وفي الحديث عن الجنسين في تنشئتهم المبكرة، يتطرق الكتاب للحديث عن هندسة الكيبوتس الإسرائيلية وفشلها في خلق جيل ذو جنس أحادي من خلال محاولة منح فرص متساوية للجنسين بما يُطلق عليه “البيئة التربوية المتماثلة”، حيث تأبى الطبيعة البيولوجية إلا أن تنتصر!. تقول النتيجة: “لقد فشلت كل محاولات السياسيين في استخدام «الهندسة الاجتماعية» داخل الكيبوتسات من أجل خلق يوتوبيا بالمفاهيم الذكورية (مجتمع يرى أن السعادة تتحقق إذا تبنى الجميع ‏ -ذكورًا وإناثاً – قيم التحدي والتفوق المادي). كما قدموا لنا البرهان على أن عقول الذكور والإناث مختلفة بالفطرة وليس بالتنشئة، وأن الأولاد والرجال يعيشون غالباً في عالم الأشياء من خلال عقول تنظيمية، بينما تعيش البنات والنساء في عالم الإنسان والعلاقات من خلال عقول تعاطفية”.

إن الأمومة انتصار أزلي، وعندها، يفرّق الكتاب بين الأمومة والأبوة فيقول: “هل تخيلت في يوم من الأيام أن الرجل يمكن أن يتحمل أعباء الأمومة بدلاً عن زوجته؟ وهل لاحظت أن العلاقة بين الأم وطفلها علاقة تبادلية خاصة، حتى إنه لم يحدث في تاريخ معظم المجتمعات البشرية أن نجح الرجال في القيام بدور الأمهات مهما كانوا حريصين على ذلك ومهما كانوا معطائين، حتى وإن قاموا بتقديم وجبة الرضاعة أو تغيير الحَفاضَات؟ بل لقد فشلت محاولات علماء الاجتماع في جعل الطفل أكثر قبولا لرعاية أبيه بدلاً من رعاية أمه، ويُعتبر قيام الأب بتربية أطفاله بعد فقد الأم استثناءً من هذه القاعدة”. بالإضافة إلى هذا، يذكر الكتاب أن إحصائيات الطوارئ تسجل نسب إصابات أعلى للأطفال في الأوقات التي كانوا فيها تحت رعاية آبائهم، بالمقارنة مع الحالات التي كانوا فيها تحت رعاية أمهاتهم.

ختاماً، لم تعد صورة المرأة النمطية في ضعفها وانكسارها وخوفها هي المرتقبة، بل إنها: “صورة قد تدخل قريباً أرشيف الذكريات”. إذ تشير الأبحاث العلمية إلى (قوة المرأة الجسدية)، تشهد لها الأرقام القياسية المسجلة في الدورات الأولمبية، و (قوتها النفسية والعصبية) إذ تمكنت من اختراق الفضاء مع الرواد الرجال، نداً بند.. وتتوالى إنجازاتها.

أخيراً وليس آخراً: يختلف الجنسان .. نعم! لكنه اختلاف يدعو إلى التجاذب لا التنافر .. كقطبي مغناطيس في المجال الفيزيائي، أو كما يقول الشاعر الشاب مريد البرغوثي في قول أكثر عذوبة: جديلة طرفاها العاشقان فما تراهما افترقا إلا ليلتحما .. في ضمّة تُرجع الدنيا لسنّتها كالبحر من بعد موسى عاد والتأما.

 

للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 25 مايو 2022 – صفحة (10):

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/05/5118.pdf

 

……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..

أنشر هذه المقالات في شهر يونيو / حزيران 2022
همى الغيث

……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..

(12)

كتاب/ مذكراتي في سجن النساء

المؤلف/ د. نوال السعداوي

دار النشر/ دار الآداب للنشر والتوزيع

الطبعة/ 1 – 2015

لكلمة الحق ضد الطغيان ثمن يُستوفى خلف القضبان

 

 

لا تفاجئ د. نوال السعداوي قراءها كثيراً! ففي جرأة وصدق وبلاغة وبيّنة معتادة، ينقل قلمها الرشيق كرشاقة قامتها، في تدفق سلس متناغم، صوراً لأحداث عاصرتها بين أنماط بشرية وحشرات زاحفة وطعام رديء وأجواء رمادية، ومشاعر اختلطت فيها الرهبة من المجهول، والإصرار على المواجهة، والحفاظ على روح متّقدة .. خلف القضبان! بلا ادعاء، بلا تهمة، وبلا قاض، استقطعت أوصالاً من شبابها آنذاك.

إنها إذاً د. نوال السعداوي (1931 : 2021) الرائدة في مجال حقوق الإنسان، وحقوق المرأة على وجه الخصوص. تخرجت في كلية الطب جامعة القاهرة عام 1955 وحصلت على بكالوريوس الطب والجراحة. وبالإضافة إلى ممارسة مهنة الطب، تقلّدت مناصب مرموقة في بلادها، كمنصب الأمين العام لنقابة الأطباء، ومنصب المدير العام لإدارة التثقيف الصحي في وزارة الصحة، ورئاسة تحرير مجلتي الصحة والجمعية الطبية، وساهمت في تأسيس الجمعيات الحقوقية، كما حصدت جوائز عالمية، وتُرجمت أعمالها العلمية والفكرية والروائية إلى أربعين لغة. تشرّبت قيم الصدق والحرية والاعتداد بالذات منذ طفولتها، حيث ناضل والدها ضد الاحتلال البريطاني وشارك في الثورة الشعبية ضد سياستها في مصر عقب الحرب العالمية الأولى، حتى تم معاقبته بتعطيل ترقيته لسنوات بعد نقله إلى قرية صغيرة، وقد كان مسئولاً في وزارة التربية والتعليم آنذاك. لا عجب إذاً أن يتم زجّها في سجون الرئيس المصري الراحل أنور السادات عام 1981 ضمن حملة استهدفت مجموعة من الأدباء والكّتاب والصحفيين، تحت شبهة نشر الآراء التحريضية ضد الوطن ورموزه .. وقد قالت في مذكراتها عن قيمة الإنسان: “إن كل شيء أجنبي أصبح أعلى قيمة من أي شيء مصري .. حتى الإنسان”.

تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الأولى للكتاب الصادرة عام 2015 عن دار الآداب للنشر والتوزيع، يتخللها اقتباسات ثورية من مأثور قول الطبيبة الأديبة، كثورتها الباقية ما بقيت الحياة (مع كامل الاحترام لحقوق النشر). وبينما يُدرج الكتاب تحت أدب السير الذاتية، وأدب السجون كذلك، أياً كان، فقد جاءت خواطر الطبيبة بين سطور مذكراتها تنمّ عن حسّ وفكر، وعن جمال وفلسفة، لطالما آمنت بها ووصمت بها .. اكراماً تارة، واتهاماً تارة أخرى!. إنها تفاصيل قاسية لا تخلو من تفاؤل، تسردها منذ لحظة اعتقالها إلى ما بعد إطلاق سراحها، يعيشها القارئ في كل لحظة، بما تحملها من قهر واستعباد، وبما يتخللها من ابتسامات وقفشات، وبما يغلفّها من تحدٍ وأمل، تحلّت بها الطبيبة .. السجينة السياسية، مع قريناتها السجينات السياسيات والسارقات والداعرات والقاتلات، والشاويشات أيضاً. وعن تلك التفاصيل أتحدث كما يلي:

تعرض د. السعداوي في الجزء الأول من مذكراتها (القبض) حادثة الاعتقال، إذ قام عناصر من الشرطة باقتحام شقتها، وهي وحيدة، في أحد أيام سبتمبر من عام 1981، وجرّها عنوة إلى سجن القناطر الخيرية، بلا تهمة واضحة وبلا أذن مكتوب، بل هكذا! بحسب أوامر عليا صادرة من الرئيس السادات، ضد الطائفيين والمتآمرين في البلاد. وعن أثر الذل تقول: “الناس من خوف الذل في ذل”. أتى الجزء الثاني (السجن) مفصّلاً، إذ تطرقت د. السعداوي لحياة السجن اليومية مع بقية النزيلات، من خلال ما كنّ يستمتعن به من رياضة وفلاحة ودردشات متفرقة، ومن صراعات مختلفة، كالروائح العفنة، والحمام ذو الباب المشروخ، وخبز الفطور المحشو بالحشرات، والغبار والدخان، والأسرّة المتهالكة، وصراصير الليل. تقول عن شعور الخواء الذي لازمها ذات صباح: “أعظم صفات الإنسان أنه ينسى! وهل كنت أحيا في السجن دون أن أنسى”؟. ثم يأتي الجزء الثالث (اختراق الحصار) ليبرز شخصية د. السعداوي الثائرة أبداً، ومحاولاتها التي نجحت في التواصل مع عائلتها، وتهريب مقالاتها وخطاباتها، وتوكيل محامٍ لها، وطمأنتهم لها بتظاهر العالم معها رغم اضطهاد بلدها لها. ومن الطريف أنها كانت تمكث تحت جنح الظلام، إما في المرحاض أو تحت غطاء الفراش لتكتب تلك المقالات المهرّبة على ورق تواليت، وبقلم كحل تم تهريبه لها من عنبر الدعارة المجاور. وعن التأقلم تقول: “ربما لا يشعر الإنسان بالخطر إلا وهو خارجه، فإذا ما أصبح في قلب الخطر صار جزءاً منه ولم يعد يشعر به”. يسفر الجزء الرابع (الخروج للتحقيق) عن سبب الاعتقال، والذي عاد إلى محاضرة ألقتها د. السعداوي بين زملائها في جامعة عين شمس، قبل عشرة أعوام قبل الاعتقال، في عام 1972 تحديداً، إذ زعم التحقيق تحريض د. السعداوي على الثورة والتمرد آنذاك، رغم تفنيدها وإصرارها على أن المحاضرة عُقدت من أجل نقاش علمي بحت! لم تُخف د. السعداوي شكوكها في أن اعتراضها على معاهدة كامب ديفيد التي أبرمها السادات مع نظيره رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيغن عام 1971، كطرف رئيسي فيها، كان هو السبب الحقيقي وراء اعتقالها. وعن انتظار الإفراج وهي بين زنازين المعتقل تقول: “لا يموت الانسان في السجن من الجوع أو من الحر أو البرد أو الضرب أو الأمراض أو الحشرات، لكنه قد يموت من الانتظار. الانتظار يحوّل الزمن إلى اللازمن، والشيء إلى اللاشئ، والمعنى إلى اللامعنى”. تصف د. السعداوي في الجزء الخامس (موت السادات) الفرحة العارمة التي اجتاحت أجنحة السجن عند إعلان الخبر، حيث خلعت المنقبات جلابيبهن مع نقابهن وشاركن السجينات الأخريات رقصهن وهتافهن، وذلك بعد حالة من الوجوم والقلق والترقب وهن يسترقن السمع للمذياع الصغير المهرّب خلسة، مما اضطرها للاختباء عن أعين الشاويشات في الحمام المتهالك لمدة ثلاث ساعات والمذياع ملتصق بأذنها، وأنفها قد أزكم من عفن حفرة التصريف الطافحة بين قدميها. في الجزء السادس والأخير (الذي جاء بلا عنوان)، تسترجع د. السعداوي ذكرى مؤلمة نقلتها من شقتها، إلى سجن القناطر، إلى المدعي العام، إلى قصر الرئاسة، ثم إلى بيتها من جديد .. حيث تولد من جديد! لا تنسى ما حيَت تواريخ ثلاث حُفرت في ذاكرتها، هي: 6 سبتمبر يوم الاعتقال، 28 سبتمبر يوم الجلسة عند المدعي العام، و6 أكتوبر يوم الافراج. تعود د. السعداوي إلى السجن مرة أخرى، لكن للزيارة، حيث يأخذها الشوق لملاقاة رفيقات السجن اللاتي لم يزلن حبيسات وقتئذ. وعن لحظات من مرح عاشتها وزميلاتها النزيلات تقول: “لم تكن بدور تدخل المرحاض إلا ونراها تقفز آخره قبل أن تكمل مهمتها صارخة: صرصار!. ما أن نسمع صرختها حتى نجري إليها وفي يد كل منا شبشبها شهرته في يدها كالسيف استعداداً لضرب الصرصار. وفي يوم سمعنا صرختها وهي جالسة في الحوش، وظننا أن صرصاراً هجم عليها، وخلعنا الشباشب وتأهبنا للمعركة لكننا لم نر صرصاراً وإنما رجل. لم تكن مرتدية النقاب وأفزعها أن يلمح رجل شعرها العاري، وقفزت من الحوش إلى العنبر في خطوة واحدة وأخفت شعرها ووجها تحت النقاب. أصبحنا من بعد، كلما سمعنا صرختها وقبل أن نخلع الشباشب نسأل: صرصار أم رجل”؟.

تُلقي د. السعداوي الضوء على نماذج من أخلاقيات السجينات المتأرجحة بين التشدد الديني والانحلال الخُلقي، فمن السجينات من انتقبن وتلين القرآن ليل نهار، وقد تشبعن بكل ما من شأنه تحقير المرأة والحطّ من قدرها كإنسانة في المقام الأول. ومن السجينات من قتلت زوجها وقطعته إرباً إرباً بعد أن وجدته مستلقياً فوق ابنتها ذات التسع سنين، بعد عودتها المفاجأة من عملها اليومي في فلاحة الأرض إلى دارها، حيث يقبع زوجها آكلاً شارباً نائماً شاخراً ليل نهار. ومن السجينات مومسات كن يتبجحن في إسفاف، وقد شوهدن يتحرشن بطبيب السجن الذي كان يتعاطى معهن في نشوة، عُرف بها. تقول وهي تتطرق في حديثها عن بعض أوجه الجهل والتخلف والهوان التي شهدتها في مجتمعها: “لا زال كثير من الرجال والنساء في بلادنا يؤمن أن وجه المرأة عورة! أما الثورة، فهناك من يؤمن أيضا بأنها كوجه المرأة .. تحتاج إلى حجاب يغطيها”. لكنها تعود لتنتصر لقضيتها التي آمنت بها، فتقول عن نصف المجتمع: “إذا النساء حرُمن الحرية فلا يمكن أن تكون هناك ثورة. هل تتحقق الثورة في مجتمع يكبّل نصفه بالقيود”؟ وبين ثنايا المذكرات، تعود د. السعداوي بالذاكرة أدراجها، مسترجعة ملامح من طفولتها بين أم شمّاء أبيّة تثور لكرامتها، وأب حرّ مناضل يلعن الإنجليز .. بساطة جدتها لأبيها في الريف، وأبهّة جدتها لأمها في الترف. ورغم اقتضاب الكلمات، فقد أثارت د. السعداوي قدر من الشجن في رثاء والدتها ولحظات احتضارها التي لا تُنسى.

وأختم بمقولة للطبيبة الأديبة في الإرادة الحرة، وقد عاشت على مبادئ لا تحيد عنها، وواجهت ما واجهته في سبيلها، وماتت عليها: “هل يمرض الإنسان بإرادته؟ نعم، وأحياناً لا! إلا أن الإنسان قد يمرض، بل قد يموت بإرادته. والعكس أيضاً صحيح .. قد لا يمرض الإنسان وقد لا يموت بإرادته”.

 

للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 1 يونيو 2022 – صفحة (10):

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/06/5123.pdf

 

……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..

(13)

كتاب/ قصة الطب ودور الطبيب: إظهار لجمال النفس وانتصار للحياة

المؤلف/ د. جاسم الدوري

دار النشر/ دار الشروق للنشر والتوزيع

الطبعة/ 1 – 2016

ثنائية العلم والأخلاق في مهنة الطب

 

 

يولد الإنسان عادة وقد حباه الله بنعمة الصحة، التي قد يُغبن فيها ما لم يوفِ حقها في الحمد وحسن الاستغلال. بيد أن قدر الإنسان يفرض مواجهة تحديات الحياة التي قد يوقف المرض عجلتها، وما يخلّف من آثار صحية ونفسية واجتماعية، تتطلب إحاطتها برعاية وحب ونبل يمنحها أبطال مهنة الطب، ويتقبّلها ويتجاوب معها المريض .. في تحدٍ يعيد للجسد عافيته، وللنفس جمالها، وللحياة الانتصار. إن هذا الكتاب يوجّه حديثه للعاملين في المجال الطبي من مهنيين في المقام الأول، وللإداريين كمساهمين فاعلين في تلك المنظومة الصحية، ويقدّم إهدائه للمريض الذي يُدين له المؤلف بالفضل في قوله: “إلى المريض .. المعلم الأول للطبيب”، والذي حسب تعبيره الآخر: “لولاه ما تعلمنا”.

يأتي الكتاب كعصارة علم وعمل انخرط فيهما المؤلف في سن مبكّرة حتى تقاعده عام 2014. إنه د. جاسم الدوري، المولود في قضاء الدور- محافظة صلاح الدين عام 1950، والذي تخرّج في كلية الطب من جامعة بغداد عام 1974، وعمل من ثم طبيباً في المستشفيات العراقية حتى عام 1982، حيث غادر إلى المملكة المتحدة لاستكمال الدراسات العليا، فحصل على عضوية كلية الأطباء الملكية عام 1984، وعمل في المستشفيات البريطانية التي استمر يتدرّج فيها على السلم الطبي، حتى أصبح استشارياً في الطب الباطني.

تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الأولى للكتاب الصادرة عام 2016 عن (دار الشروق للنشر والتوزيع)، والتي تشتمل على بعض الاقتباسات، بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر). وعلى الرغم من مادة الكتاب العلمية، فقد جاءت بلغة رجل الشارع، وبأسلوب لطيف يساعد القارئ على طي جلدته الأخيرة من غير فاصل زمني بعد قلب جلدته الأولى. يعرض فهرس الكتاب أربع فصول رئيسية يتفرّع عنها مواضيع ذات صلة، فيبدأ (الفصل الأول: قصة الطب وفنه) بالحديث عن الإسلام كدين يحض على الاخذ بالأسباب من أجل وقاية الجسد، حيث يؤكد د. الدوري على أن “الإسلام دين الوقاية”، فالحفاظ على الجسد نظيفاً، وتجنيبه المحرمّات من شرب للدخان وتعاطٍ للخمور وممارسة علاقات غير شرعية، تقيه من أمراض القلب والرئة وأنواع السرطان المختلفة. يستشهد في هذا بحديث النبي الأكرم ﷺ: “إِن الله أنزل الدَّاء والدواء، وَجعل لكل دَاء دَوَاء، فَتَدَاوَوْا، وَلَا تداووا بِمحرم”. يشير من ثم إلى البناء الحالي لعلوم الطب الحديث، حيث يقوم على الأساس الذي وضعه العلماء السابقون، مؤكداً بأنه علم لم يتوقف يوماً. ففي “دولة العلم والثقافة”، قام العباسيون بإبداع أنظمة دقيقة في ممارسة مهنة الطب والحفاظ على الصحة العامة، وقد كانوا “أول من قام بالتلقيح ضد الجدري بوضع قشور بثور المرض في جروح صغيرة في جلد الصحيح”. يستمر د. الدوري بعد ذلك في اطراء علماء الإسلام الأوائل، كالنطاسي والبيروني والرازي وابن النفيس وابن سينا، ويخص “جراح قرطبة الشهير أبو القاسم الزهراوي” فيقول وهو: “المكنى (شيخ الجراحين) و (أبو علم الجراحة الحديثة)، مؤلف (التصريف لمن عجز عن التأليف) ذي الثلاثين مجلداً الذي ضمنه خبرته وإبداعاته في طرق الجراحة المختلفة وآلاتها المتعددة، ولا يزال بيته قائماً في قرطبة الأندلس يزوره السائحون”. ينتقل بعد ذلك للحديث عن الخدمات الصحية الوطنية التي تعمل عليها المؤسسات الطبية في بريطانيا، ويختم الفصل بإلقاء الضوء على أمراض اندثرت وأمراض أخرى ظهرت للعيان.

أما في (الفصل الثاني: الطبيب خادم الفن) فيتطرق فيه د. الدوري إلى الجراحة كذوق ورسم، وإلى الطب كفنّ، والطبيب كخادم لهذا الفن، يصفه فيلسوف الطب الأول أبو قراط بأنه: “له ثلاثة أضلاع: المرض والمريض والطبيب. فالطبيب خادم الفن، وتعاون المريض مع الطبيب كفيل بالقضاء على المرض”. ثم يخصّ حديثه عن الممرضة كركيزة أساسية في مهنة الطب، وما يجمعها مع المريض من علاقة وشيجة لا يحظى بها الطبيب المعالج عادة! فيقول قولاً عذباً في حقها، إذ: “إنها حقاً نعمة ربانية أن تختص المرأة بالتمريض لرقة طبعها وحنوها. وهي لا تقل عن الطبيب شأناً إذ أن هدفيهما رعاية المريض”. ويضرب الأمثلة التاريخية في نسيبة الأنصارية يوم أحد، حين طببت الجرحى وأصبحت بهذا العمل أول ممرضة في الإسلام. والإنجليزية فلورنس نايتنجيل التي ابتدعت نظام الرقابة الصحية، وقللت من عدد وفيات الجرحى أثناء حرب القرم. ثم يقول في جرأة: “أما النظرة الدونية لهذه المهنة الإنسانية الراقية فقد جاءت من الثقافة الذكورية الهابطة والعادات الجاهلية البالية التي لا تقيم وزناً للحياة، وتهين المرأة صانعة الحياة وراعيتها. المرأة شقيقة الرجل، التي جعل الله من خلقها الرعاية والحنان والحب غير المشروط، وجعل من أهم مسئولياتها رعاية الأسرة وإدارة البيت، فحيث حلّت المرأة حل النظام والنظافة والسلوك المهذب، وهذه لعمرك هي موجبات الطب حقاً”. ومع هذا الرأي الإنساني قبل أي وصف آخر، لا عجب أن يأتي تعليق د. الدوري صريحاً في قوله: “الرجال أكثر حساسية”، عند معاينته حالة إحدى قريباته التي أصاب بشرة وجهها طفح جلدي وأصابها القلق جرّاء ذلك “لما للنساء من حساسية تجاه الشكل والمظهر”. ينتقل بعد ذلك إلى عرض واجبات الطبيب ومسئولياته، وآثامه أيضاً .. حسب تعبيره، والتي يعدد منها تسعة، وإلى التأكيد على أن التقصير في أداء المهام ورفع الشكاوى، يُعد بمثابة أداة للتطوير والتعلم واستخلاص الدروس، بالإضافة إلى جوانبها الأخلاقية من تقديم الاعتذار والتعويض المناسبين، باستثناء هتك أسرار المريض وهدر كرامته التي عدّها جريمة لا تغتفر، حيث يختم بها الفصل من خلال التركيز على أخلاقيات مهنة الطب وفضائل الطبيب، فيحدد عشر خصال أخلاقية لا بد وأن يتحلى بها، هي: “الرعاية والاهتمام، الرأفة والرحمة، الاتصال الفعال، التعاون والتنسيق مع فريقه الطبي، الكفاءة في العلم والمهارة، التحليل النقدي والتحليلي، الجمع بين الثقة والتواضع، آمراً .. ذو خصال قيادية، الاستمرار بالحصول على آخر العلوم والمهارات، حصر ممارسته بخبرته واختصاصه”. وبناءً على هذه الخصال، ينأى المؤلف بمهنة الطب أن تزاول مهنة الإتجار، من خلال شركات التأمين ومندوبي الأدوية وموردي الأجهزة والمعدات، إذ “لا يحق للطبيب تسخير هذه المهنة المقدسة للكنز والطمع وتحويلها من مهنة علاج العلة ومعرفة الأسباب إلى حرفة لجمع المال والاكتساب”.

وفي (الفصل الثالث: معلم الطبيب الأول .. المريض)، يتحدث د. الدوري بلغة وجدانية عن بعض قصص النجاح التي تشكّل أعظم متع الطبيب، وعن انفراج الهم، والأمل الذي يعقب اليأس، وكيف أن المرض النفسي هو في حد ذاته كرب عظيم، والتقمص العاطفي الذي يعتمده الطبيب في علاجه .. فيسرد عدد من الحالات الواقعية التي تتراوح بين الفرح والترح، وبين ما كان كقضاء إلهي وما نجم عن إهمال بشري! لم يكن المؤلف -وهو طبيب- أن يكشف ما ينبغي ستره، فقد استخدم أسلوب الترميز وهو يتطرق لتلك الحالات! أذكر منها حالة الشابة التي فقدت طفلها البكر أثناء الولادة، بسبب حماقة طبيب التوليد، والإهمال اللاحق له، مما أدى إلى تعرضها للنزف الحاد حتى الموت، فإذا بالمنزل الذي تزيّن منذ سويعات للفرح المرتقب، يتحول إلى سرادق عزاء! وذاك الذي أصابه (العجز الجنسي) فأنهكه الهمّ، فمنع عنه الطبيب المعالج دواء الضغط واستبدله بآخر، وودعه ليعود إليه بعد ثلاثة شهور متهللاً .. شاكراً له (إعادة رجولته). ولأن الشيء بالشيء يُذكر، يأتي المؤلف على ذكر السيدة الإنجليزية جوان، وهي “متقاعدة في الستين من عمرها، تعمل متطوعة في المستشفى، تتحدث إلى المرضى العاجزين وكبار السن لتخرجهم من وحشتهم ووحدتهم، ثم تدفعهم بالكرسي المتحرك لإيصالهم إلى عيادة الأطباء وتنتظرهم إلى بعد انتهاء الاستشارة الطبية، لتأخذهم إلى قسم الأشعة أو المختبر وغيرهما، ثم تقوم بتوديعهم عند المغادرة. سألتها يوماً لم تفعلين ذلك؟ قالت: بهذا العمل أحس بسعادة في قلبي، وأؤدي واجبي تجاه قومي، وآمل أن أجد من يخدمني إذا صرت إلى ما صاروا إليه”.

ينتهي الكتاب مع (الفصل الرابع: علاقة الطبيب بالمريض) بتسليط الضوء على الاستشارة الطبية كفن آخر، مع توضيح هدفها ووظيفتها، ومن ثم عرض الخطوات اللازمة في إفشاء الخبر السيء للمريض وقد رتبّها د. الدوري بخمس خطوات رئيسية. ينتهي الفصل بجملة من الاقتراحات العملية للتطبيق في القطاع الصحي، سواء عن طريق الكادر الطبي أو الإداري .. والمرضى كذلك!. ويقتبس المؤلف من البروفيسور دونالدسون المستشار الأول للحكومة البريطانية في الصحة العامة قوله: “كل البشر خطاؤون، لكن لا يمكن الصفح عمّن يغطي خطأه، ولا نقبل عذراً لمن لا يتعلم منه”.

يختم د. الدوري كتابه القصير بالدعاء المأثور: “اللهم رب الناس أذهب الباس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما” .. وبدوري أختم بالدعاء الذي أحافظ عليه: “اللهم ابعد عني شر ما يؤذيني .. ولا تحوجني لطبيب يداويني”.

 

للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 8 يونيو 2022 – صفحة (10):

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/06/5128.pdf

 

……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..

(14)

كتاب/ الغابة

المؤلف/ د. مصطفى محمود

دار النشر/ دار المعارف – القاهرة

الطبعة/ 7 – 1997

رحلة عميقة الأثر عمق الأدغال الأفريقية

 

 

هناك في الغابة .. تنصهر كل اختلاجات النفس البشرية لتظهر في أصدق ما جُبلت عليه من فطرة وسجية وعفوية، فلا نفاق ولا عدوان ولا كبت ولا طمع، إلا من قوانين ضمنية تعمل عمل الدساتير الرسمية في المجتمعات المدنية. تلك الغابة في القارة السوداء التي ما أن وطأت قدما الرجل الأبيض تربتها حتى عاث فيها الفساد، من ترويع للنفوس ونشر للذعر وفتك بالأبدان مع ما حمل من أمراض كالسل والزهري والسيلان لم تعرفها القارة من ذي قبل، ضمن ما حمل لها من بنادق وراديوهات وسيارات وأقلام تكتب بطلاسم بدت شيطانية للأفارقة، ومن تبشير بديانة غريبة تتوعد بجحيم أخروي في حال ارتكاب إثم ما، بدل الرب الغفور الرحيم الذي كانت تؤمن به!.

تُعد رحلة د. مصطفى محمود إلى (الغابة) من أمتع ما قدّم ضمن إصداراته الغزيرة علمياً وفكرياً وفلسفياً وسياسياً واجتماعياً وأدبياً، رغم قصرها واقتصارها جغرافياً على الأدغال الأفريقية. فبعد أن يصف مشاهداته وهو في (الطريق إلى الغابة) ماراً بالسودان، يتحدث بإسهاب عن بعض القبائل الأفريقية، وهي: الماو ماو، النيام نيام، الشيلوك، الدنكا، النوير، الباري، اللانجو، البونجو، الدوبي، ويختم رحلته بكلمة مؤثرة في (وداع الغابة). إنه إذاً الطبيب والأديب والفيلسوف المصري (1921 : 2009)، المتفرد في طرحه بأسلوب يجمع بين العمق والبساطة، سواء من خلال أعماله المكتوبة أو المرئية كما في برنامجه الشهير (العلم والإيمان). تذكر شبكة المعلومات إطلاق اسمه على كويكب تكريماً وتخليداً له.

تعتمد هذه المراجعة على الطبعة السابعة للكتاب الصادرة عام 1997 عن (دار المعارف) في القاهرة، والتي تشتمل على بعض الاقتباسات، بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر): مع إقلاع الطائرة إلى القارة السوداء، تراود د. محمود خاطرة عن المدينة والمدنية التي أتت بها، والتي لم تكن سوى وجه آخر للمرض، إذ يقول: “المرض المزمن الذي أصبح له ألف اسم واسم .. القرحة .. القولون .. الأملاح .. السكر .. الضغط .. الكبد .. الذبحة .. الأرق .. القلق .. وهو مرض واحد اسمه الحقيقي .. المدينة”. وعند الهبوط في دار السلام، تستقبله وجوه سوداء باسمة مرحّبة تعلوها طرابيش حمراء، تقول: “كريبو مرحب”. يحمل أهالي تنجانيقا المسلمون أسماء عربية، ويتحدثون باللغة السواحلية التي تمتزج بالكثير من الكلمات ذات الأصل العربي، فهم على سبيل المثال: “يسمون الصحون هناك صحاني، والقهوة كاهاوا، والماء ماجي، والسمك سماكي، والكبريت كبريتي، والسفر سفاري”. يلتقي هناك بخبير الغابة الأمريكي الذي يحدثه عن “حكمة الحيوان وعن النظام الدقيق السامي الذي يسود الطبيعة الحية”. فالتماسيح التي تكاثرت بشكل ظن معه الأهالي أنه يهدد الحياة البرمائية، أدى إلى رواج حرفة صيد التماسيح لديهم والاتجار بجلودها، حتى فقدوا غذائهم الطبيعي من سمك التيلابيا في البحيرات! لقد انقض سمك القط على سمك التيلابيا بعد أن أصبح حراً مع صيد التماسيح، والتي كانت تتغذى عليه.

ينتقل د. محمود إلى قبائل (الماو ماو) التي يخصّها بحديث مستفيض، فهي تعتبر من أكبر قبائل الغابات الاستوائية، وتتمركز تحديداً في هضبة كينيا. ففي العقيدة، هي أقرب للأديان السماوية في اعتقادها بإله واحد أحد لم يلد ولم يولد وليس كمثله شيء، مع طقوس معينة في تقديس الآباء والأجداد، بينما يتولى الأخيار منهم مهمات التنبؤ وكشف الغيب. أما من الناحية الاجتماعية، فتحكمهم أنظمة عرفية تشمل معاشهم اليومي، وأعمالهم، وصناعتهم، وزراعتهم، وأطعمتهم، وأزيائهم، وعلاجاتهم، وأعمالهم السحرية لجلب الحبيب ودرء الشرور وإنماء الزروع، بالإضافة إلى طقوس الطهور، وعلاقات ما قبل الزواج، والزواج بما فيها من تقليد خطف الزوجة، وتعدد الزوجات حسب طلب الزوجة، ومعاشرة الزوجة لضيوف زوجها، والعقم الذي يعرض فيه الزوج زوجته على رجال آخرين أملاً في حملها، والطلاق الذي لا يتم سوى في حالة العقم الذي لا يرجى شفاؤه، أو في حال إهمال البيت وتربية الأولاد. تتشابه أسطورة نشأة القبيلة بقصة آدم وحواء! فتذكر أنه حين كانت الأرض خواء خلق الإله (موجاي) ابتداءً (جيكويو) وأسكنه الهضبة الخضراء، ثم بعث له بالحورية الجميلة (مومبي) لتكون شريكته في تلك الجنة، حتى حين تزوجا وأنجبا من الذرية تسعة بنات جميلات، ضاق بجيكويو الحال، فركع للإله وقدم له القرابين الذي استجاب له وبعث له تحت شجرة تسعة من الشباب كالأقمار في الجمال والبهاء، فتزوجوا من بناته، وأسسوا لعشائر الجيكويو التسع التي تفرّعت منها قبائل الماو ماو المعروفة إلى الآن. ثم يقول قولاً عظيماً، إذ: “تقول الأسطورة إن القبيلة كان اسمها في البداية قبيلة مومبي تكريماً للأم التي حبلت فيها، ولكن هذا التكريم كان نتيجة طغيان نساء القبيلة. فقد اعتبرت كل امرأة نفسها أنها الأصل في القبيلة، وأنها هي التي أنجبت رجالها، وأقامت من نفسها حاكمة، واتخذت لنفسها عديداً من الأزواج تتحكم فيهم وتسوقهم إلى العمل في الحقول، وثار الرجال وجمعوا كلمتهم. وذات يوم وبينما كان النساء كلهن حبالى ضعيفات غير قادرات على الحركة، قلب الرجال نظام الحكم واستولوا على السلطة. ومن ذلك اليوم تغير اسم القبيلة من أبناء مومبي إلى أبناء جيكويو، ولم يبق من حكم النساء القديم إلا أثر رمزي هو أسماء العشائر التسعة التي ظلت تتسمى بأسماء بنات الجيكويو التسع. وانتهى نظام تعدد الأزواج ليبدأ نظام تعدد الزوجات، ولكن المرأة ظلت موضع احترام ومهابة، والأم ظلت لها قداسة. وإلى الآن ما زال سب الأم عند الماو ماو جريمة لا تغتفر، والأم التي تطعن في السن عندهم تصبح لها مكانة روحية عظيمة، وتتزعم المحافل الدينية”. أما امرأة الغابة “لم تكن أبداً سجينة البيت قليلة الحيلة كما هي عندنا، وإنما كانت دائمة عاملة، كتفها بكتف الرجل في كل مكان، وحرة اقتصادياً مثله” وهي التي تنفق على أسرتها “لأنها هي التي تزرع الحقل وتجمع المحصول وتحمله إلى محطات التسليم وتأخذ ثمنه”.

جاء الفصل الخاص بـ (السودان) شائقاً في عرض جانب من ثقافة المجتمع السوداني، فضلاً عن خيراته وكنوزه المطمورة في باطن الأرض. فأرض السودان هي الأرض التي يتفاوت عليها الطقس ما بين جفاف قاس وصقيع لا يرحم، كما يتفاوت عليها الجنس البشري من ساميين وحاميين وزنوج بخليط ألوانهم، الباهت كالقمح والأسود كالأبنوس، وبتقاطيع أوروبية دقيقة وثانية عربية أصيلة وأخرى بملامح زنجية غليظة. تأتي كل الإحصائيات بالألف والمليون .. الثروة الحيوانية، أنواع الطيور، الأراضي الزراعية، مساحات المدن، الأمطار في المتر المكعّب .. ماعدا “التعداد البشري” الذي لا يتفق ومتاهة أرض السودان. “والنتيجة أن ثروات السودان كلها ما زالت مكنوزة في التربة وفي الماء وفي الغابة بلا تشغيل! لا توجد الأيدي الكافية لاستخراجها، والأيدي القليلة الموجودة يشلها الحر اللافح وترهقها المسافات الطويلة بلا طرق وبلا مواصلات سريعة”. وفي مقارنة بين المصري والسوداني، فإن السوداني أكثر ثقافة “وأكثر عكوفاً على القراءة والاطلاع، وأكثر جدية في قراءته”. وكذلك: “السوداني لا يهرّج كالمصري، بل هو على العكس مهذب جداً، وإذا سألت أحد السودانيين خدمة تسابق عشرة إلى تلبيتك”. وبعد الوصف الذي يكاد يتصبب معه القارئ عرقاً عن حرارة الجو، فإن المنظر العام الذي يمكن مشاهدته أكثر هو “موائد البيرة والشلل التي تلتف حولها في دوائر وتكرع الزجاجة بعد الزجاجة”. ويُبرر لهذه العادة بأنها “بديل طبيعي لعدم وجود الاختلاط ولقلة النوادي والسينمات وأماكن السهر ولشدة الجفاف”. وفي مقارنة أخرى بين مدينة الخرطوم و (أخواتها)، في الشمال نحو مصر وفي الجنوب نحو الغابة، فهي “تخنق نفسها بالثوب وتغطي مواطئ الفتنة حتى المنكبين وتقيم سداً منيعاً بين نسائها ورجالها .. لا متنفس فيه ولا اختلاط أو عاطفة أو علاقة إلا برخصة وبطريقة غير مشروعة”. ينتج عن هذا الكبت أرض بوار وموارد مهدرة. “والمرأة في الخرطوم حبيسة البيت خوفاً من أن تحمل في الحرام! أي حرام؟ إن هذا العطل الذي تعيش فيه هو الحرام .. إن الثمار تصرخ منادية على من يقطفها، والأرض الخلاء تصرخ منادية على من يعمّرها، وكل شبر فراغ يتضرع إلى كل أنثى لكي تحمل وتلد”. وبينما كانت خطة الاستعمار في فصل جنوب السودان هي ضمه للأراضي التي يسيطر على خيراتها، جاء تبشير القس سترانيتو ومطالبته لبابا الفاتيكان والأمم المتحدة بفصل الجنوب، بحجة الاضطهاد الديني الذي كان يشعل الحرب الأهلية بين أبناء السودان. رغم هذا “لم يفعل المبشر الإسلامي شيئاً يذكر، وكان همّ الشيخ الذي يُبعث إلى هذه المجاهل الجنوبية أن يسأل عن مرتبه، ويطمئن أولاً على تسهيلات السكن والأكل والشرب والتحويش التي ستتوفر له”.

يثير د. محمود الانتباه في مقارنة نقاء النفس البشرية عند ساكن الغاب مع نظيره رجل الحضارة! إذ يتولد الكبت ويتغلب الشك وتعلو الأنا، وما يتبع كل ذلك من فساد أخلاقي يتفشى كلما ازداد ذلك (المتمدن) علماً -أو كما يدعي- في حين تسود ثقافة الحرية الشخصية واحترام الآخر عند (المتخلف) في البراري، كما ينظر إليه. وعن التضاد بين تلك القيم الزائفة والحقيقية، ونعرة الرجل الأبيض كسيد ضد الرجل الأسود كعبد، يشير د. محمود إلى الاستعمار في قول فضائحي: “وراح المستعمر يتبجح في كل مكان بأنه ينشر المدنية في مجاهل لا تعرف مدنية، وينشر بين متوحشين ليس في حياتهم قِيم ولا أخلاق. والحقيقة أنه أخذ الكثير من قيم هؤلاء المتوحشين وعاداتهم وأدخلها في حضارته! تعلّم منهم شرب الشاي والكاكاو والقهوة، وأخذ منهم عادة التدخين وشرب الغليون، ولطش الفنون الأفريقية التشكيلية والموسيقى الأفريقية وإيقاعات الجاز والرقص، وأخذ عادة العري وجعل منها فناً وفلسفة، وأنشأ نوادي للعراة في أكثر عواصمه تقدماً، وأخذ الحرية الجنسية من المجتمع البدائي لتغدو بعد ذلك سمة من سمات أرقى مجتمعاته، وأصبحت (الأومباني ناجويكو) من تقاليد البنات والأولاد في المجتمع الأمريكي، يمارسونها قبل الزواج ويسمونها في بلادهم (Huyying and Necking). والحرية الجنسية ذاتها أصبحت نظرية ينادي بها فلاسفة أمثال فرويد. والسحر والمعارف الغيبية والأرواح، أصبح لها كرسي في أرقى الجامعات الأوروبية. لم يكن الأفريقي متوحشاً ولم تكن حضارته بربرية متأخرة. والحق أن هذه البربرية احتوت على الكثير من اللمحات التي فاتت على الرجل الأبيض صاحب العلم والنور والعرفان. كان اتصال الغرب بالشرق في أفريقيا تزاوجاً متبادلاً، فقد أعطى الأفريقي كل شيء .. أرضه وبلده وجسمه وروحه، وكان المستعمر شحيحاً جداً يعطي بالقطارة. احتفظ لنفسه بأسرار العلم والصناعة والمعارف العلمية. واكتفى بنشر اللغة الإنجليزية، وتوزيع نسخ من الإنجيل”. إن أولئك البدائيين حينما أطلقوا العنان لصوت الطبيعة يعتمل في دواخلهم واتحدوا معها خارجياً، جادت عليهم: “ونتيجة لهذه الحياة المفعمة بالبراءة، انتفى الشعور بالهم والخوف من المستقبل، وانتفى الحزن والقلق. والنتيجة أنك لم تكن تجد في الغابة الوجوه النكدة المربدة بالهموم، ولا الوجوه الكشرة العكرة التي نراها في المدينة، وإنما كنت ترى وجوهاً ضاحكة بسامة فياضة بالمرح، وتشاهد حلقات يومية من الرقص والغناء، وترى الدعابة والرقة وحب الغرباء، وتلمس الطبيعة المسالمة”.

وأختم بوصف د. محمود الرهيف وهو يودع الغابة التي لمسها بكل حواسّه، إذ ليس الخبر كالعيان. فيقول: “إنها الغابة .. ولا يمكن أن توصف الغابة .. إن أي وصف يزري بجلالها .. إن أشجارها لا تشبه ما نرى من أشجار في الشوارع والحدائق .. أشجارها سوامق .. فيها عنفوان وشموخ وزعامة .. وأزهارها محتقنة دموية .. وأوراقها ريانة .. وأمطارها عاتية مكتسحة .. وضبابها كثيف متراكم جياش .. إنها مثل نهر متمرد يكسر حواجزه وجسوره .. لا .. لا يوجد وصف يحيط بها، فهي ليست مجرد شكل أو صورة تشاهد، وإنما هي إحساس، مذاق، طعم، رجفة في القلب. وقد شعرت بتلك الرجفة الغامضة وأنا أتنقل بين الشجر، وأتسمع ذلك الخرير ينبعث من مئات الجداول والشلالات الصغيرة التي يعربد فيها الماء والثلج منحدراً من القمم”.

ختاماً وفي كلمة حق، لا يزال د. مصطفى محمود بأصالة فكره وصدق منهجه، كالذهب الذي لا يخفت بريقه، وهو المفكر الغائب-الحاضر! فيمضي الزبد جفاء، ويبقى الذهب يترامى شعاعه وإن مضى الدهر .. رحمه الله.

 

للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 15 يونيو 2022 – صفحة (10) جزء1:

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/06/5133.pdf

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 19 يونيو 2022 – صفحة (10) جزء2:

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/06/5135.pdf

 

……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..

(15)

كتاب/ الطب النفسي

المؤلف/ د. عادل صادق

دار النشر/ دار الصحوة للنشر والتوزيع

الطبعة/ 2 – 2015

المرض النفسي .. داء العصر

 

 

قد يكاد يبدو حقيقة أن المرض النفسي هو سمة العصر، إذ قلما يوجد شخص ما لا يعاني اضطراباً نفسياً بشكل أو بآخر! كيف لا وقد خُلق الإنسان في كبد، ويأتي اعتوار نفسه صورة من صور مكابدته في هذه الحياة، كما قال أبو العلاء المعري من قبل: “كل من لاقيت يشكو دهره .. ألا ليت شعري هذه الدنيا لمن؟”. غير أن د. عادل صادق يؤكد على أن الحب هو الدواء الناجح لأي مرض كان، وهو يقول في مقدمة كتابه: “تهوي النفس مريضة إذا مات الحب في خلاياها”. فالحب هو جوهر الحقيقة .. جوهر الخلق .. جوهر المرض والشفاء.

كتاب وإن كانت مادته علمية محضة، فهو من الشاعرية بمكان عندما يبدأ بالحب وينتهي به، حيث يلخّص د. عادل صادق كعادته المعلومة العلمية بلغة واضحة وبأسلوب أدبي رفيع يخاطب عقل وروح القارئ معاً، وهو يسرد عدداً من أكثر الأمراض النفسية والعقلية شيوعاً، فيتحدث ابتداءً عن معنى الطب النفسي وتصنيفات الأمراض التي تُلحق به، مثل: القلق، الهيستيريا، الاكتئاب، الفصام، الوسواس القهري، وهي التصنيفات التي تقود للحديث عن المرض عموماً وعن أعراضه، مثل: الأمراض النفسجسمية، الأمراض العقلية العضوية، الأمراض النفسية والعقلية المصاحبة للحمل والولادة والرضاعة، اضطرابات الشخصية، الاضطرابات الجنسية، طب نفس الأطفال، والطب النفسي الشرعي.

إنه إذاً د. عادل صادق (1943 : 2004). تعلّم وتخرج في كلية الطب عام 1966 نزولاً على رغبة والده، رغم ميله نحو الأدب والفن الموسيقى، ثم حصل على درجة الدكتوراة في الأمراض العصبية والنفسية عام 1973، وعمل أستاذاً للطب النفسي والأعصاب بكلية طب عين شمس. شغل مناصب أخرى منها رئيس تحرير مجلة الجديد في الطب النفسي، وأمين عام اتحاد الأطباء النفسيين العرب، وافتتح عام 2000 مستشفى يحمل اسمه لعلاج الإدمان والأمراض النفسية لا يزال يحظى بشهرة واسعة على امتداد الشرق الأوسط. عُرف بالنبوغ منذ صغره وبدماثة الأخلاق وإخلاصه للعمل وسعيه الحثيث نحو رفع وعي المجتمع بالمرض النفسي وسبل علاجه، وذلك من خلال مؤلفاته وأبحاثه التي تجاوزت الثلاثين إصدار، والتي أهلّته عام 1990 للحصول على جائزة الدولة في تبسيط العلوم.

تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الثانية للكتاب والصادرة عام 2015 عن دار الصحوة للنشر والتوزيع، وهي تستلهم من كنوز الطبيب المعرفية ما يبعث على الأمل، وتقتبس منها نزراً يسيراً بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر)، كما يلي:

أنت إنسان، إذاً أنت حر .. يقول د. صادق في فلسفة وجودية عن هذا المعنى: “إرادة الإنسان الواعية هي التي تستجلب أي فكرة ليعمل فيها العقل، وهي أيضاً التي تطرد أية فكرة يرفضها العقل .. أنا إنسان، معناها: أنا حر في تفكيري، وعقلي حر فيما يفكر”. يحدد بعد ذلك حباً ثلاثياً لهذا الإنسان لا ينفرط: حبه لخالقه، حبه لنفسه، وحبه للناس .. بحيث تتفكك النفس إذا أصيب حب أحد منها، ففقدان حب الإله يُفقد الحياة الهدف، وفقد حب النفس يُفقد الذات القيمة، وفقد حب الناس يُفقد الوجود المعنى. وفي حديثه عن هذا الإنسان مجدداً وعن مخالطته، يحذّر من أن وجود مريض نفسي في الأسرة قد ينذر باحتمالية إصابة أفراد الأسرة الآخرين بالمرض نفسه، أما المجتمع فيعاني مادياً ومعنوياً من الإنسان المتبلّد عاطفياً ذو النزعة الأنانية والعدوانية واللامبالية بمشاعر الآخرين. غير أنه لا ينكر أن للثقافات دور في تحديد الاضطرابات المرضية، لا سيما الجنسية. فالمثلية الجنسية في المجتمع الأمريكي تًعتبر حالة طبيعية غير مرضية طالما أن صاحبها متصالح معها ومتوافق سلوكياً، غير أنها تُعتبر سلوكاً مرضياً شاذاً تستلزم العلاج في مجتمعات أخرى. ومن ناحية أخرى، وهو في كونه إنسان، فإن جلد الإنسان هو نافذة جسده، فأي اضطراب داخلي لا بد وأن يطفح على السطح، على هيئة بثور أو أكزيما أو تساقط للشعر في الحالات الانفعالية المؤقتة، أما في الحالات المزمنة أو الحادة كالاكتئاب، فقد تنعكس بشكل أقوى على هيئة بهاق أو صدفية.

يتوسع د. صادق في حديثه عن القلق النفسي، فيؤكد أولاً أنه لا علاقة للقلق النفسي بالمرض العقلي، إذ يكون معه المريض واعياً لطبيعة حالته، مدركاً لمرضه ولحاجته للعلاج، ولا تتأثر شخصيته ولا سلوكه بهذا القلق. وهو إذ يؤكد على وعي هذا الإنسان، فإنه يصرّ على أنه لا يأس مع الحياة، فيعقّب في قول واقعي تفاؤلي: “وإذا تطلّع الإنسان إلى ماضي حياته لوجدها سلسلة متعاقبة من حالات القلق، تقل وتزيد تبعاً لأحداث الحياة، ولكنها أبداً لم تتركه، ولكن ذلك لم يتعارض مع استمتاعه بالحياة، بل إن لحظات الاستمتاع الحقيقية كانت تلك التي تعقب قلقاً حاداً”. ثم يعود ليتحدث عن القلق كمرض نفسي من جديد، حيث يأتي الصداع النصفي كنتاج للطموح، واليقظة، والتفاني .. الصداع الذي يصفه بقوله: “أن هذا النوع من الصداع يصيب نوعية معينة من الناس الذين يتسمون بالقلق والتوتر والاجتهاد والوسوسة والضمير المتيقظ والطموح والفناء في العمل، ولهذا فهم معرضون أكثر من غيرهم للتوتر والقلق والانفعال، وهذا يؤدي الى اضطراب في تمدد الشرايين الذي هو السبب المباشر في الصداع النصفي .. ويلاحظ هؤلاء الناس أنهم يتعرضون لنوبات الصداع حينما يتعرضون لأزمات نفسية أو مواقف تستدعي التحفز والقلق”. وهناك من الإيجابيات ما تقود إلى اضطراب ما، فقيم مثل (الدقة، النظام، الأمانة، تأدية الواجب، احترام القانون) كلها مزايا يتحلى بها صاحب (الشخصية القهرية) الذي يتصف من ناحية أخرى بـ (الصلابة، الغلظة، العند، اللامرونة). وعلى النقيض من هذه الحدّية في هكذا صفات، هنالك نمط شخصي آخر! إن قلبه مفعم بالحب لا يبوح به، وخياله مزدحم بنجوم تحمل أحلاماً لا يقوى على تحقيق أصغرها. يتحاشى الاختلاط بالناس ويضطرب إذا ما اضطر إلى ملاقاتهم، وهو الذي قد يكون أكثرهم مالاً أو أغزرهم علماً أو أزكاهم خلقاً .. هادئاً، مسالماً، بعيداً أشد البعد عن العدوانية .. يهوى القراءة أو الرسم أو عزف الموسيقى أو أي هواية يكون فيها وحيداً .. إنه (الانطوائي) والذي من صفاته تتركب (الشخصية الفصامية). يضيف د. صادق شخصية أخرى، هي (الشخصية الهستيرية). إنها شخصية تهرب من المسئولية، أو من الاعتراف بالخطأ، أو من نقطة الضعف، أو من خزي الهزيمة، فتظهر على هيئة أعراض هستيرية، يعرضها هذا المثال الحي: “بعد أن أكدّ لها الأطباء سلامتها وخلوها من أي عائق للحمل اضطر زوجها أن يعرض نفسه على الأطباء الذين أكدوا استحالة أن ينجب .. ومنذ ذلك الحين والألم يمزق أسفل ظهره! النتيجة: لن يستطيع مزاولة الجنس مع زوجته بسبب آلام الظهر. المعنى: الهروب من العلاقة الجنسية وتغطية عجزه الجنسي الذي أصابه بعد ان اكتشف أنه غير قادر على الانجاب”.

ويبقى الإيمان بالله ينير بصيرة المؤمن بحكمته جلّ وعلا، وهو في أحلك الظروف.

وللختام بمسك، أقتبس في هذا المعنى الروحاني ما جاد به د. عادل صادق (رحمه الله) وقد خبر الحياة كطبيب نفسي ظل شبح الاكتئاب يطل أمامه في بعض الأحيان كمرض مبهم لا يعرف له حكمة، حيث قال: “ولا أتصور إنساناً يدرك بعمق وفهم معنى الحياة إلا إذا مر بتجربة اكتئاب .. ولا أتصور فناناً مبدعاً خلّاقاً يستطيع أن ينسج ألحاناً أو ألواناً أو كلمات تعبر عن الإنسان وحياته بصدق إلا إذا مر بتجربة اكتئاب .. إن المرور بتجربة اكتئاب والخروج منها يكسب الإنسان وعياً جديداً”.

حقاً .. رب ضارة نافعة!.

 

للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 22 يونيو 2022 – صفحة (10):

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/06/5138.pdf

 

……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..

(16)

كتاب/ الأندلس: بحثاً عن الهوية الغائبة

المؤلف/ خوليو رييس روبيو (المجريطي)

ترجمة/ غادة عمر طوسون، رنا أبو الفضل

دار النشر/ المركز القومي للترجمة – القاهرة

الطبعة/ 1 – 2014

العودة إلى أندلس الماضي .. للتبصّر، ولاستشراف مستقبل أكثر تعايشاً

 

 

كتاب يلّفه الإبهار وهو يجمع في شمولية بين التاريخ والدين والحضارة والسياسة والقانون، قد عمد فيه الكاتب جاهداً إلى سبر أغوار الماضي الذي ترعرع فيه وطنه الأسباني تحت ظل الخلافة الإسلامية، الماضي الذي يقوده في استبصار نحو تسليط الضوء على الحاضر بتحدياته المحلية والدولية، ومن ثم استشراف المستقبل في رؤية أكثر تعايشاً. ومما يرفع من قيمة الإبهار، التمجيد الذي حظيت به الحضارة الإسلامية في الأندلس بقلم الكاتب غير المسلم، وهو يدين لها بالفضل الكبير لما هي عليه اسبانيا الحالية، وهو الأمر الذي أضفى على الكتاب روح المصداقية والحيادية والإنصاف. ومما يمعن في هذه الروح التوقيت الذي وضع فيه الكاتب كتابه هذا، حين كان الإسلام يواجه هجمات مغرضة في دعاوى إرهاب وتخلّف، حيث يتصدى لها منكراً، بل وموضحاً وجهة النظر الأخرى.

لذا، ينجح الكاتب (خوليو رييس روبيو) في توجيه كتابه إلى أصحاب الفكر الموضوعي، ويدعو من يهوى العودة إلى الماضي، لا للبكاء على الأطلال، بل للاستبصار ولاستقراء التاريخ وإنصاف ذوي الحقوق. فيحاول -وهو رجل القانون- الاستفادة قدر الإمكان من الماضي بما يحوي من عبر ودروس، ابتداءً من الاعتراف بالفضل وردّه لأصحابه، ثم إسقاط الدروس المستخلصة على الحاضر بغية الخير العام. لذلك، يطالب بسنّ القوانين، ومن ثم العمل على تحقيق مستقبل واعد في إطار تحالف مشترك، وكل ذلك من خلال الدور المحوري لبلاده أسبانيا الذي يدعوه إلى تفعيله رسمياً.

وعلى الرغم من تخصص الكاتب في علم القانون، إلا أن له عدد من المؤلفات في التاريخ الأندلسي، ولقد كانت لفتة كريمة منه أن يتلقب بـ “المجريطي” نسبة إلى “مجريط”، الاسم العربي لمدينة (مدريد) فترة الحكم الإسلامي (91-795 هـ / 711-1492 م).

تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الأولى لترجمة الكتاب الصادرة عام 2014، عن المركز القومي للترجمة في القاهرة، والتي عنيت بها كل من (غادة طوسون و رنا أبو الفضل)، وقد جاءت مباشرة عن لغة الكتاب الأصلية ( Al-Andalus: en busca de la identidad dormida – Autor: Julio Reyes Rubio Al-Mayriti ). ومن محاور الكتاب الثلاثة (الماضي والحاضر والمستقبل)، أسرد في مقتطفات ما جاء في فصول الكتاب العشر، وباقتباس يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):

يتطرق المجريطي ابتداءً إلى الخلفية التاريخية التي شكلّت أسبانيا الحالية. فعلى الرغم من العلاقات الوطيدة التي جمعت بين أسبانيا في الماضي، بحكم موقعها الجغرافي، وبين شعوب الأمم المختلفة كالفينيقيين واليونانيين والقرطاجيين والونداليين والجرمانيين، إلا أنها لم تترك أثراً كما فعل الغزو الروماني والفتح الإسلامي .. أثراً لا يُمحى عن هويتها. فبينما ورثت أسبانيا عن روما اللغة اللاتينية ونُظم أدبية وفنية ودينية وقانونية وسياسية، فقد انصهرت في ثقافة إسلامية موّحدة على اتساعها من الهند شرقاً حتى الشمال الأفريقي غرباً. يقول الكاتب معقّباً: “لقد شكل هذا التراث الثقافي لكلتا الحضارتين جزءاً من هويتنا المزدوجة”، وهي الهوية التي جاء الكتاب بهدف البحث عنها. وعلى الرغم من أن السيطرة العربية آنذاك كانت سمحة مقارنة بالسيطرة الرومانية، إلا أن التعصب الديني الذي أجج أوراه الصليبيون في العصور الوسطى قد جعل كل فضل أداه المسلمون في أسبانيا ولمدة ثمانية قرون يُنسى وبإجحاف متعمد! يُكمل المجريطي وهو لا يزال يشير إلى الهدف من وضع الكتاب: “وبمجرد طرد آخر الممالك الإسلامية من إسبانيا بعد سقوط غرناطة، بقي أثر لا يمحى لهذه الحضارة المميـزة من خلال المظاهر الفنية والأدبية واللغوية والثقافية التي ورثناها عنهم”. لذلك “فعلى إسبانيا أن تستيقظ من هذه الفترة الطويلة من السبات، التي امتدت منذ 1492 م حتى وقتنا هذا، وأن تستعيد هـذه الهوية الغائبة. عبر سلسلة مـن الإجراءات، يجب أن تعود إسبانيا إلى المصير الذي منحه الله لها دون أن تتنازل عن كينونتها ولا عن المسئولية المنسوبة إليها، وذلك لثروتها متعـددة الثقافات، فعليها أن تكون الحكم والوسيط للتفاهم بين الشرق والغرب”. وهو يتطلع كذلك لتوجيه عقول الساسة في العالم نحو تحقيق السلام بين كلتا الحضارتين، دينياً أو أخلاقياً، وهو أمر لو تم تحقيقه لعمّ النفع في الوقت الحاضر وفي الأجيال القادمة، ولأستحق كتابه كل ما رافقه من عناء.

يوضح الكاتب قبل البدء أيضاً إنه اعتمد في طرح الفكر العقائدي الإسلامي في كتابه على جهود الشيخ أبو الأعلى المودودي في تفسير القرآن الكريم وتحليل نصوصه، بموضوعية واحترام كبيرين لتعاليمه وللتقاليد الإسلامية، منحّياً في ذلك أي رأي أو شعور خاص. وهو في هذا لا يستبعد إثارة الجدل بين طبقات المجتمع الأسباني على اعتبار أن عمله هذا ما هو إلا انحرافاً، إذا تم تناول كتابه بعيداً عن الموضوعية كفتح إسلامي جديد.

يتحدث الكاتب في الفصل الأول الذي جاء كمقدمة عن الظروف التي كانت تسود شبه الجزيرة الأيبيرية والتي مهّدت للفتح الإسلامي، وتحديداً الحروب الأهلية التي دارت رحاها في المجتمع القوطي في ظل تفاوت طبقي مرير بين طبقة النبلاء وطبقة العبيد، الظروف التي لم تخف على المسلمين في الجانب المقابل للساحل الأندلسي ودفعتهم من ثم إلى شنّ الهجوم العسكري عام 710م بقيادة القائدين موسى بن نصير وطارق بن زياد. ويذكر تاريخ شبه الجزيرة الأيبيرية قبائل (الوندال) التي احتلتها لفترة لم تدم طويلاً بعد أن تم طردهم من قبل القوط، وهي القبائل التي اشتق العرب منها اسم (الأندلس). وبينما يفرد الكاتب الفصل الثاني (الأندلس والحضارة العربية: ماض مشترك) للحديث عن أثر الحضارة الإسلامية في الأندلس والتي مهدّت فيما بعد لقيام نهضة أوروبية شاملة في كافة ميادين الحياة، يشير في الفصل الثالث (رسالة النبي محمد: القرآن ومبادئ الإسلام)، بإجلال إلى النبي محمد ﷺ، ويسرد رحلته الشاقة في الدعوة وما عاناه مع قومه الذين كذّبوه. وهو يتحدث كذلك عن الوحي الإلهي وأول لقاء للنبي محمد ﷺ مع جبرائيل عليه السلام، ودعوته بـ “اقرأ”. ويقول: “أعلن محمد صلى الله عليه وسلم أن مهمته هي إبلاغ الناس القرآن أو الوحي الإلهي. ويمكن تعريف القرآن على أنه (تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ)”. ومن هنا يتطرق إلى ما احتوى عليه القرآن الكريم من مواعظ وتعاليم وحكم وأخلاق في كافة نواحي الحياة، وهو يتعرض في استفاضة عن كل ركن من أركان الإسلام، بالإضافة إلى شرح مختصر للمذاهب السنية الأربع، فيُشير إلى الإمام القرطبي بـ “كاتبنا العظيم للأحاديث”، ويتطرق إلى شعراء العرب، وقصص التراث العربي، والنوابغ من علماء الأندلس، كما يتحدث عن أثر الحديث والفقه في التراث الاسباني.

أما في الفصل الرابع (الأندلس والفتح، وخلافة قرطبة، وممالك الطوائف، والغزوات الإسلامية، ومملكة غرناطة) فيتحدث عن الفتح العربي-الإسلامي للأندلس ووضعها إبان هذا الفتح، وما تعاقب على حكمها من أمراء وخلفاء مسلمين، ثم استقلالها فيما بعد عن الإمبراطورية الإسلامية في المشرق، معرّجاً على ملوك الطوائف ودولة المرابطين ومن بعدها دولة الموّحدين، انتهاءً بدولة بني الأحمر التي تداعت على إثرها بلاد الأندلس عقب سقوط مملكة غرناطة آخر معاقل المسلمين، عام 1492م. يقول عن الحضارة التي أسسها المسلمون: “في هذا الإقليم تشكلت حضارة أشعت بضوئها على الغرب والشرق لكونها منطقة التقاء وتقابل ثقافي وبشري، نسيتها أوروبا، لكنها بقيت دائماً في الذكرى الخالدة للعالم الإسلامي”. ثم ينتقل إلى الفصل الخامس (اسبانيا الإسلامية: التراث الأندلسي)، ليذكّر كيف كانت اللغة العربية في الأندلس مرادفاً للعلم والذوق الرفيع، ومحط إقبال جميع أطياف المجتمع لتعلمها والتحدث بها، دون اللاتينية. وهو بهذا يؤكد على أثر اللغة العربية في اللغة الاسبانية كما يظهر في خمسة آلاف كلمة عربية متداولة في (الإسبانيول)، والتأثير العربي بشكل عام في كل ما هو اسباني. فيقول: “ظلت هذه الحضارة باقية في اسبانيا لمدة ثمانية قرون. ورغم أن حرب الاسترداد بدأت من المراكز المسيحية فقد تعايشوا مع المسلمين لفترة طويلة في وقت كانت فيه العادات والتقاليد والفنون واللغة الموجودة في اسبانيا المسيحية غير أصيلة، وكان لها جذور مسلمة”. لذلك، وتماشياً مع هدف الكتاب الذي أصرّ عليه، يطالب بإدخال اللغة العربية في مناهج التعليم، والدين الإسلامي كمصدر للقانون.

يفسح المجال في الفصل السادس (الأدب العربي: مقدمة، الأدب الجاهلي والأدب الإسلامي: القرآن، والأدب العربي، والانحدار والنهضة) ليعرّج على الأدب العربي، ابتداءً من عصر الجاهلية وحتى خروج المسلمين من الأندلس أواخر القرن الخامس عشر. وعندما ينتقل إلى الفصل السابع (القانون في الإسلام: مصادر القانون الإسلامي والعلوم الشرعية في القانون الإسلامي، التراث الإسلامي في العلوم التشريعية الإسبانية)، يتناول الشريعة الإسلامية من حيث مصادرها ومدى تأثيرهـا في القانون الإسباني، ويتطرّق في هذا إلى “قوانين مسلمي الأندلس” التي استمر العمل بها في القضاء الأندلسي حتى نهاية الوجود الإسلامي في شبه جزيرة أيبيريا. أما في الفصل الثامن (اسبانيا حلقة الوصول بين الشرق والغرب) فيدعو بلاده اسبانيا للاستيقاظ من السبات الذي بدأ مع سقوط غرناطة عام 1492، لتسترد هويتها، وتلعب دورها المحوري المتمثل في التعدد الثقافي الذي يحظى بها تاريخها، لا سيما أمام التراجع الأخلاقي الذي يستشري في الغرب، وضرورة إعادة التوازن الروحي والأخلاقي والذي لن يتكفل به بحق سوى دين الإسلام.

يظهر المجريطي في الفصل التاسع (التحكيم الدولي: حلول سلمية للصراعات الناتجة عـن إلتقاء كلا العالمين، الجهاز التحكيمي، عناصر تشريعية دولية، المنهج التحكيمي والنصاب القانوني في الاتفاقيات) وهو يناضل عن دول العالم الإسلامي عموماً، ويطالب الدول الغربية بعدم التدخل السياسي والاجتماعي فيها، وهو يسلط الضوء وبقوة على القضية الفلسطينية، ويطالب الدول الغربية بإيقاف التدخل العسكري لصالح إسرائيل. يعرض عدد من الحلول السياسية والقانونية لإنصاف المسلمين والتعايش بسلام بين الشرق والغرب، فيطالب بـ: “الاعتراف الضمني بالإسلام ديناً حقيقياً يقف على قدم المساواة مع المسيحية، مع الإلغاء النهائي لمصطلح كافر الذي يستخدم في القانون الكنسي لتسمية المسلمين”. وهو في حديثه عن هوية بلاده المزدوجة الشرقية-الغربية، يجعل له دوراً مستقبلياً في تحقيق التوافق والتكامل بين الحضارتين، من خلال (التحكيم الدولي لحل المنازعات) الذي نادى به. ينبّه وهو يختم كتابه في الفصل العاشر (الروابط التاريخية بين الشرق والغرب: أصول السلوك أجل تحقيق التوافق والاندماج والمودة في علاقة الشرق بالغرب) على ضرورة التعايش في خضم الحملات المفتعلة حول الإسلام، وذلك من خلال التركيز على التاريخ المشترك بين الغرب والشرق لا سيما ما يظهر في تاريخ الفتح الإسلامي للأندلس أوائل القرن الثامن، والحملات الصليبية نحو الشرق، والتاريخ العثماني-الأوروبي، حيث يرى أن لبلاده الدور المستقبلي الفاعل في تحقيق التكامل بينهما.

كمأخذ، يسرد الكاتب بعض المعلومات التاريخية غير الصحيحة، كالزعم بنشوب خلاف بين القائدين العظيمين موسى بن نصير وطارق بن زياد سببه الغيرة، واستمداد النبي محمد ﷺ لتعاليم السيد المسيح عليه السلام، من بحيرى الراهب. من ناحية أخرى، جاء اختيار غلاف الكتاب وعنوانه موفقاً، فبينما يحمل الغلاف صورة (بهو السباع) في قصر الحمراء، يحمل العنوان صيحة الكاتب المجريطي التي تطالب حكومته باستدعاء (هويتها الغائبة) المزدوجة ازدواجاً لا ينفك بين الإسلام والمسيحية، واللتان تقاسمتا الأرض ماضياً وحاضراً.

ورغم موضوعية الكتاب فهو لا يخلو من شجن .. لذا تجدني أختم ببيت من نونية أبي البقاء الرّندي التي نظمها في رثاء الأندلس بعد سقوط آخر معاقلها: (أعندكم نبأٌ منْ أهلِ أندلسٍ .. فقدْ سرى بحديثِ القومِ ركُبانُ). وعندما زرت إقليم أندلوسيا، شاهدت التاريخ ماثلاً وعلمت بالنبأ .. وليس الخبر كالعيان!

 

للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 29 يونيو 2022 – صفحة (10) جزء1:

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/06/5143.pdf

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 30 يونيو 2022 – صفحة (10) جزء2:

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/06/5144.pdf

 

……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..

أنشر هذه المقالات في شهر يوليو / تموز 2022
همى الغيث

……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..

(17)

كتاب/ النباهة والاستحمار

المؤلف/ د. علي شريعتي

دار النشر/ دار الأمير للثقافة والعلوم

الطبعة/ 2 – 2007

الفكر الحر عندما يكشف عن عورة الفكر الرجعي

 

 

كتاب وجيز في طرحه، عميق في مضمونه، مثير للجدل عند مناقشته، وقاتل عند محاولة تطبيق ما جاء به! قد يكون مدعاة للعجب، أن يسبق د. علي شريعتي (1933 : 1977) أوانه وزمانه، لا سيما في وقت طغى على الشرق الإسلامي ثقافة الجهل المقدس أو كما وصمه هذا النابغة بـ (الاستحمار)، فكان كمن يسبح عكس التيار حينها، غير أنه ليس من دواعي العجب على الإطلاق أن يتم اغتياله غدراً، وإن يتم تغليف الحادثة بموت مفاجئ ناجم عن أسباب صحية، فذلك من لوازم ثقافة (الاستحمار) السائدة آنذاك، والتي لا تزال حاضرة في الوقت الحالي في كثير من الوجوه! فمع النهج المتفرد الذي سار عليه د. شريعتي في تجديد الخطاب الديني، وطرح قضايا الإسلام المعاصرة من منظور حداثي قائم على أسس علم الاجتماع الذي حمل إجازته من جامعة السوربون في فرنسا، فقد كان هذا مدعاة لالتفاف جمهرة الشباب حوله ممن وجدوا فيه ضالتهم، وقد كانوا معاصرين لزمن تخبّطوا فيه بين ثقافتي الشرق والغرب، وبين أبعاد الفلسفة وجمود الدين. غير أن هذا النهج التوعوي الذي أشعل ثورة فكرية عارمة في النصف الثاني من القرن المنصرم ضمن ما أثاره من قضايا، قد أثار بدوره غضب أصحاب السلطة الديكتاتورية، فكان ما كان من مؤامرة تصفية المفكر وفكره. وفي شهادة للمفكر العراقي عبدالرزاق الجبران، فإن الإصلاح الذي نادى به د. شريعتي ارتكز على بناء الذات الإنسانية من منظور إسلامي-سياسي-اجتماعي، يتأتى من خلال استعراض التاريخ الإنساني. وعن (جدلية الصراع) القائمة، فقد استحدث فلسفة يتواجه فيها طرفان (هابيل-قابيل)، ففي حين مثّل هابيل (الناس)، مثّل قابيل (السلطة)، وقد ارتكز هذا الطرف على ثالوث (فرعون-قارون-بلعم بن باعوراء) في رمز للسلطة السياسية والاقتصادية والدينية على التوالي. ومن شرارة تحالف هذا الثالوث، اندلع الاستعباد أو ما أسماه المفكر بـ (الاستحمار) على مرّ التاريخ الإنساني.

تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الثانية للكتاب الصادرة عام 2007 من (دار الأمير للثقافة والعلوم)، عن ترجمة مباشرة إلى اللغة العربية من أصلها الفارسي (خود آكاهي استحمار). وعلى ما يبدو، تشترك الثقافتان في استخدام البهيم المشار إليه كمضرب مثل في الغباء، غير أن ترجمته إلى اللغة الإنجليزية استخدمت كلمة (الجهل) كمرادف ألطف للمعنى، بـ (Intelligence and Ignorance). وقبل البدء، يحرص د. شريعتي على توضيح دور الفيلسوف، إذ يعتقد بأن الفكر الإسلامي قد حمل في بعض مراحله مفهوماً فلسفياً مغلوطاً تمركز حول الذات الإلهية والغيبيات حصراً، وأهمل الإنسان ومبحث الوجود، فلا يُفهم الإسلام إلا فهماً صوفياً بعيداً عن مقاصده في خلق الإنسان، فكأنما خُلق الإنسان للدين وما خُلق الدين للإنسان، مما أردى الإسلام في جمود فكري وانتكاس حضاري على مدى قرون. من قلب هذا الصراع، عمد د. شريعتي إلى خلق مسئولية الفيلسوف كصاحب للنظرية الاجتماعية التي تستشف سنن التاريخ وتقف على فلسفة وجود الإنسان، وتسقطها على السياسة والاقتصاد والاجتماع والأدب. لذا، “كان الأنبياء أعظم الفلاسفة” كما ارتأى. ومن الكتاب الذي عكس رؤية فكرية فطنة ضمنّها الفيلسوف في شرح موضوعي مستفيض، أسرد مقتطفات كما يلي وباقتباس يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):

في استهلاله عن مفهوم (النباهة والاستحمار)، يقسّم د. شريعتي (النباهة) إلى قسمين: (فردية) و (اجتماعية)، تصبّان في انتماء الفرد لمجتمعه وشعوره بالمسئولية وارتباطه به في مصيره التاريخي، أي كما أطلق عليه بـ “الوعي الوجودي”، ليأتي (الاستحمار) بكل ما من شأنه سلب هذا الوعي وتضليل مسار “النباهة الإنسانية”. ثم يستطرد ليقسّم من جديد اتجاهين رئيسين لتحقيقه هما: (التجهيل) و (الإلهاء)، فيعمد الأول إلى تجهيل العقول وصرفها عن قضايا المجتمع المصيرية، ويلهي الثاني الفرد بحقوقه الشخصية عن حقوق المجتمع الكبرى. ثم يبدأ د. شريعتي حديثه عن موضوع (الأنا والمصير) على الرغم من قناعته بأنه موضوع يُختم به النقاش لا يُبدأ به! إذ يرى أن أساسه وزبدة حديثه فكري أكثر مما هو علمي، فالأفكار من طبيعتها التغير وهي تخضع للوعي والنقاش، بعكس العلوم المعيارية الخاضعة للتفسير العلمي الصرف. وفي هذا الصدد يشير إلى النتيجة العكسية التي قد ترتد مع تضخم الأنا لدى طبقة المثقفين المصاحبة لشعور الاكتفاء العلمي، حيث يبقى العالم منهم جاهلاً ما لم يصاحبه وعي فكري وحس عال بالمسئولية تجاه مجتمعه وتحدياته التاريخية المستمرة. وعلى الرغم من قناعته كذلك بأن: “الدين الذي هو فوق العلم يعتبر الإنسان ذاتاً أرقى وأشرف من جميع المظاهر الطبيعية”، فإنه يستطرد ليؤكد أن ما عناه بالدين ليست السنن الموروثة والعادات المتحجرة التي تم تناقلها عبر السلف في إطار شرعي تقليدي مشكوك في أصالته وفي قدسيته، والتي باتت لا عقلانية عند أبناء الجيل الجديد المستنير، بل ما عناه هو “دين المعرفة والتنبه”. يدعوه هذا الرأي من ناحية أخرى للخوض في أصل الإنسان كصانع للحياة، ففي حين يشير إلى الفلسفة الوجودية التي لا تقرّ بوجود إله، يرى أنها تشترك والفكر الإسلامي في “أصالة الإنسان”، إذ كان جان بول سارتر يعتقد أن الإنسان هو رب نفسه وصانع مصيره وبيده مقاليد الطبيعة يسخرها في خدمته، وقد جاء الإسلام من ذي قبل ليعلّي شأن الإنسان، حيث اصطفاه الله وكرّمه وأسجد له ملائكته واستخلفه في الأرض وسخّر له قوى الكون. فلا أكرم من اسباغ روحه جلّ وعلا في ذاته ليغدو عاقل وخالق ومختار ذو إرادة حرة، ومغيّر لذاته ولمصيره.

رغم ما سبق، يثير هذا الإنسان المختال فخراً -والذي يكاد أن يخرق برأسه عنان السماء ليصل إلى الله- عجب د. شريعتي، حين تحوطه المغريات والملذات والتحديات فيتردى إلى مستوى أحطّ فيه من قدر الكلب، يشبع فيه نفسه اللاهثة على حساب القيم الإنسانية. فيقول نصاً: “وهكذا نجد الإنسان في حياته اليومية متجهاً إلى خارجه دائماً، ومقبلاً على ما يوفر له لذائذه مائلاً نحو شهواته. ونجد (أنا) تلك (الأنا) التي هي من الله تهبط من العرش إلى حضيض الأرض، فتنغمس كالدودة في الماء المتعفن بالقذارات وتهش للجيفة”. لا يقف الحد عند هذا المقام، إذ قد يثير د. شريعتي الجدل في رأيه عن التمرد كما جاء تحت عنوان (هزة) في كتابه، حيث يرى أن قيمة الإنسان تبدأ مع قدرته على الرفض، كما فعل من قبل أبو البشر آدم، فلولا “لا” لكان مجرد ملاك “لا ميزة له” سجد لبشر آخر اصطفاه الله بدلاً عنه! مع هذا التمرد، حظي بشيء من صفات الألوهية حيث أصبح خليفة الأرض، غير أنه قد يخسر تلك الصفات من أجل إشباع لذة دنيوية. على هذا، يستنتج د. شريعتي أنه من الصعب التخلي عن لذائذ التمرد وقد أسفرت عن نباهة وأخلاقيات، إلا أن درجة اللانباهة والغفلة والتسويف التي قد ينغمس فيها الإنسان لاحقاً، لا يوقظها سوى العقاب. وفي هذا المفهوم، وفي لفتة قيّمة من التاريخ، يستنبط د. شريعتي مدى الوعي والجسارة والجرأة التي تحلّى بها الرعيل الأول في صدر الإسلام لا سيما عصر الخلفاء الراشدين، حيث كانوا يهرعون إلى الصلاة وإلى محاسبة أنفسهم بعد إقامتها. وتبلغ درجة الوعي الاجتماعي أوجها حين تصدى أحد الصحابة للخليفة عمر -فاتح الأمصار وقاهر الأباطرة- وهو فوق المنبر، ليحاجّه على قطعة قماش اشتبه على أنها زائدة في سهمه عن أسهم باقي الصحابة، وذلك حينما وُزعت عليهم الكسوة بالتساوي كما كان مفترضاً. برر عمر تلك الزيادة بطول قامته حيث تبرع ابنه بسهمه له، والذي أتى شاهداً على رأس القوم في ذلك الموقف العصيب.

يستعين د. شريعتي بالتاريخ مرة أخرى، ولكن على النقيض، ليشير إلى الليالي الملاح التي كتب لها القدر أن تتواصل لبني العباس في مناسبة زواج البرمكي بالعباسة، وقد تراكم بعدها أكوام فضل الطعام في المدينة لتجتمع عليها السائبة من الحيوانات والطيور، وتشكل خطراً بيئياً وقتها، الخطر الذي استدعى استئجار عمّالاً لرميها خارجاً. وعلى الرغم من أن مدينة بغداد كانت مركز الإشعاع الحضاري الإسلامي آنذاك، إلا أن شيوخها وعلمائها ومفكريها لم يعيبوا هذا الترف والسرف، بل قد تراهم اجتمعوا في زاوية أحد الدواوين يناقشون قاعدة نحوية جديدة، أو كتاب في الطب يسعون إلى ترجمته. لقد طغت الحركة العلمية على الوعي الاجتماعي إلى الحد الذي مهّد للتتار دخول المدينة، فخضع الجميع واستكان حين فقدوا وعيهم الجمعي، ولم ينفعهم لا علم ولا أدب ولا حضارة. بعد ذلك، يبدع د. شريعتي أيما ابداع عندما يتجرأ ليفضح ما أسماه بـ “الدين الاستحماري”. فمع مضي زمن الأنبياء العظيم، ابتليت الأمم بأدعياء من شيوخ وقساوسة ورهبان ومتصوفة اتخذوا من الأديان مطية لإستحمار أتباعها. بيد أن هؤلاء الأشقياء قد نالوا من الحصانة والمزايا الشيء الكثير تحت سلطة الثالوث (فرعون-قارون-بلعام) في تنفيذ أجنداتهم التي تصب في صالح تلك السلطة، فتأتي مواعظهم الحانوتية لتزّهد الناس في دنيا فانية وتمنّيهم بأخرى باقية، فيستغنوا بما في أيديهم للثالوث. يضرب هذا الدين المستحمر أتباعه بحجرين، فيضمن الحجر الأول استكانة الفرد منهم أمام سطوة الظلم والقهر والفقر، مستلهماً الصبر في التضرع واستدعاء روح العباس والأولياء الصالحين، بينما يضمن الحجر الثاني التمكين للظالم في التكفير عن ظلمه، ليس برد الحقوق إلى أصحابها، بل بكلمات يتمتمها سبع مرات نحو القبلة، فيحظى بالمغفرة والرحمة والشفاعة، ولو بلغت ذنوبه عنان السماء وتساوت بعدد قطر الأمطار ومياه البحار .. هكذا في لمح البصر. ثم يضرب مثلاً حياً من مجتمعه بما أسماه (الإيهام) .. إنها السياسة القديمة-الحديثة! فمن أجل صرف أذهان الشعب الإيراني عن قضية شركة النفط المحلية في فترة ما من القرن الماضي، تم افتعال عشرين معركة أهلية، كما شهدت من قبل حركة الاستعمار الغربي في القرن السادس عشر الميلادي ظهور سبعة عشر نبياً في الشرق، لشغل المسلمين في صد ادعاءاتهم! حقاً، تعددت الغايات والاستحمار واحد.

ختاماً، لا بد لهذه الرؤية الفذّة أن تواجه من حسد ذوي النقص على ما هم عليه من جهالة متأصلة تغذيها الأعراف الاجتماعية والمواريث الدينية، وهي مواجهة تؤكد بدورها أنها نباهة حقيقية لا زيف فيها، أو كما آمن د. شريعتي ودعى بقدرة الوعي على تغيير واقع الإنسان إن شاء، حين قال: “… فالإنسان الواعي يمكن أن يكون قوياً إلى حد يسيطر على مصيره. من هو ذاك الإنسان؟ إنه ليس نابليون القوي الذي يعبر عن نفسه وسجنه في جزيرة سانت هيلينا: كأني خشبة صغيرة ضعيفة تلعب بها الأمواج كيفما شاءت .. (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ). نعم، إذا غير الإنسان ذاته وطبيعته فإنه قادر على تغيير مصيره ومصير تاريخه، ولا يرتبط هذا بالجسم والمال والمقام، والذي يبقى للفرد إنسانيته فقط”.

 

للتواصل مع الكاتبة: mybooks.hma@gmail.com

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 6 يوليو 2022 – صفحة (10) جزء1:

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/07/5148.pdf

المقالة على صحيفة المشرق العراقية 7 يوليو 2022 – صفحة (10) جزء2:

https://almashriqnewspaper.com/wp-content/uploads/2022/07/%D9%A5%D9%A1%D9%A4%D9%A9.pdf

 

……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..

(18)

كتاب/ لا سكوت بعد اليوم: مواجهة الصور المزيفة عن الإسلام في أميركا

المؤلف/ بول فندلي

دار النشر/ شركة المطبوعات للتوزيع والنشر

الطبعة/ 2 – 2001

دفاع صادق عن الإسلام بقلم سياسي أمريكي

 

 

في تحليل موضوعي للصورة النمطية الشائعة عن الإسلام والمسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية، وكمحاولة جريئة للتصدي للزيف الممنهج حولهما، في أمريكا وفي العالم أجمع، يقدّم السياسي المحنك (بول فندلي 2019 : 1921 Paul Findley) العضو في الكونجرس الأمريكي، عصارة خبرته، في حيادية، ومن خلال معايشة واقعية لأفراد مسلمين وغير مسلمين داخل المجتمع الأمريكي وخارجه.

يعرض الكتاب جانباً من سيرة الكاتب الذاتية والذي يُعتبر جزءاً لا يتجزأ منه، حيث يتطرق إلى رحلته الأولى نحو مجاهل ديار العرب في مهمة رسمية، والتي كانت بمثابة استهلال لرحلة استكشافية طويلة خاضها فيما بعد للتعرف على الإسلام وأتباعه عن قرب، حتى يأتي هذا الكتاب كثمرة لتلك الرحلة. لقد قصد عدن، عاصمة الجمهورية اليمنية الديمقراطية الشعبية عام 1974، للوساطة في قضية أحد الناخبين في ولاية إيلينوي، والذي تم اعتقاله بتهمة تجسس بدت ملفّقة آنذاك. لم تكن رحلته الاستكشافية التي تلتها أقل شائكية، فقد أخذ الكاتب على عاتقه مهمة تعريف المجتمع الأمريكي بالأقلية المتنامية بين أطيافه المتنوعة، والتي تدين بدين لا يختلف عن المسيحية في إعلاء مبادئ الرحمة والمساواة وكرامة الإنسان، والعمل على إزالة كل لبس يحوط به. لقد تبنى في سعيه هذا مناصرة القضايا العربية لا سيما الفلسطينية، الأمر الذي تصدى له اللوبي اليهودي المتنفّذ في الكونجرس الأمريكي بلا هوادة. لم يلتزم الصمت بعد ذاك النضال، بل قرر أن يُسمع العالم صيحته المدوية من خلال كتابه الذي أعدّه للنشر قبيل أحداث 11 سبتمبر 2001، والتي لا يزال يتردد صداها بعد رحيله عن عالمنا عام 2019.

يزخر الكتاب بالعديد من القضايا القديمة-الحديثة والأمثلة الحية الداعمة لها، تظهر من خلال ثلاثة عشر فصلاً، هي: النسب الخفي / غرباء في وسطنا / الإرهاب والافتراء / عامل “طالبان” / هذه حقائق نؤمن بها / سواسية كسنيّن من أسنان المشط / ربط مزيف بالإسلام / ردم الهوة / الطلاب يرشدون إلى الطريق / كسر جدار الصمت / الطريق إلى النجاح الحزبي / تصويت الكتلة الانتخابية الإسلامية / المضي في التحدي. تكتفي هذه المراجعة بتناول الفصول من الأول إلى السابع، وهي تعتمد على الطبعة الثانية للكتاب الصادرة عام 2001 من (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر)، عن ترجمة مباشرة إلى اللغة العربية من الكتاب الأصلي (Silent No More: Confronting America’s False Images of Islam)، والتي تشتمل على بعض الاقتباسات، بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):

مع المقدمة (رحلة غير متوقعة)، ومع مخيلة الكاتب التي لا يزال يمثل فيها بشاعة التمييز العنصري الذي عانى منه اليهود في أمريكا في الماضي القريب، وزيارته وزوجته مدينة (كيب تاون) عام 1989 بدعوة من الداعية (أحمد ديدات) لأجل المشاركة في خطاب عام، ومخالطته للجالية الإسلامية وغيرها من جاليات الديانات الأخرى، قد مثّلت جميعها دافعاً كبيراً للكاتب في وضع هذا الكتاب، وفي اتخاذ موقفاً احتجاجياً صارماً في مبنى الكابيتول ضد سياسة بلاده في الشرق الأوسط فور عودته من مهمته في اليمن. يقول عن هذا الاحتجاج: “وطالبت الحكومة الأمريكية بإلحاح بوقف تقديم المساعدات كافة إلى اسرائيل حتى تكف عن انتهاك حقوق الإنسان الفلسطيني، وتوقف الهجمات العسكرية ضد لبنان”. لقد دفع الكاتب ثمن احتجاجاته العارمة التي امتدت إلى ثمان أعوام، معارضات قوية في مبنى الكابيتول، انتهت بسقوطه في حملة الانتخابات عن ولاية إيلينوى. ثم يكمل على نفس الوتيرة ليلقي الضوء على بعض الصور النمطية المأخوذة عن المسلمين، والتي تُعتبر “العائق الأكبر أمام الانسجام والتعاون بين الديانات والثقافات، فهي تربط الإسلام بالإرهاب والتعصب، واستعباد المرأة، وانعدام التسامح تجاه غير المسلمين، والعداء للديمقراطية، وعبادة إله غريب وانتقامي”. لكنه شخصياً يقرّ بعالمية الدين الإسلامي الذي يشمل جميع البشر على أسس راسخة من القيم. فيقول وهو لا يزال في المقدمة: “وتعلمت في مراحل لاحقة من مسيرتي أن الإسلام مثل المسيحية واليهودية متأصل في السلام والانسجام والمسئولية العائلية واحترام الأديان والتواضع والعدل لكل البشر، تحت رحمة إله واحد. إن الإسلام دين عالمي متعدد الثقافات، ومتعدد الأعراق، يدعو إلى الأخوة والمساواة بين الناس جميعاً، بغض النظر عن العرق أو الجنسية أو العقيدة الدينية”. ثم يتحدث عن انطباعاته في قول صاف: “إنني إذ أتذكر، أدرك أن عدن كانت أول محطة لي في استكشاف العالم الإسلامي. وفي المحطات التالية التي توقفت فيها، فتحت عيني على ثقافة مستندة إلى الشرف والكرامة وقيمة كل انسان، علاوة على التسامح وطلب العلم، وهي معايير عرفت فيما بعد أنها متأصلة عميقاً في الدين الإسلامي. إنها أهداف كانت ستلقى استحسان أجدادي المسيحيين”. ثم يستمر ليوضح أنه عل الرغم من تلك المبادئ الأساسية والمشتركة بين الأديان الابراهيمية “يواجه المسلمون