الكتاب
الألم النفسي والعضوي
المؤلف
دار النشر
دار الصحوة للنشر والتوزيع
الطبعة
(2) 2015
عدد الصفحات
207
النوع
ورقي
تاريخ القراءة
12/13/2016
التصنيف
الموضوع
إن هنالك أبعاداً وجدانية للآلام الجسدية
درجة التقييم

الألم النفسي والعضوي

هل يمكن للألم العضوي أن يُستثار فيتضاعف، أو يُهمل فيخبت؟ إن هذا التفاعل المتناقض ليس سوى انفعالاً وجدانياً مصدره (العقل) وحده، يصبّ في حقيقة (الألم) كمعنى، أو بالأحرى معنىً خاص يتشكّل بصورة أو بأخرى لدى كل إنسان على حدة، حسب الشخصية أو الموقف أو التوقيت أو الاستعداد …، وحسب عوامل أخرى في قائمة لا تنتهي! من خلال هذا المعنى، يعرض المؤلف رأيه العلمي في لغة عذبة مستخدماً أسلوب السهل الممتنع رغم مادة الكتاب العلمية، والتي تفرض على القارئ في نهاية المطاف قدر عالٍ من التصالح النفسي والسلام الداخلي. غير أن الكتاب لا يصلح للقارئ “الموسوس” الذي قد تلحق به علّة ما من حيث لا يحتسب، تعود لهواجسه وحسب، والتي من شأنها أن تحيل كل مرض عضوي لسبب نفسي، ظاهر أو خفي!.

أما المؤلف، فهو د. عادل صادق (1943 : 2004)، تعلّم وتخرج في كلية الطب عام 1966 نزولاً على رغبة والده، رغم ميله نحو الأدب والفن الموسيقى، ثم حصل على درجة الدكتوراة في الأمراض العصبية والنفسية عام 1973، وعمل أستاذاً للطب النفسي والأعصاب بكلية طب عين شمس. شغل مناصب أخرى منها رئيس تحرير مجلة الجديد في الطب النفسي، وأمين عام اتحاد الأطباء النفسيين العرب، وافتتح عام 2000 مستشفى يحمل اسمه لعلاج الإدمان والأمراض النفسية لا تزال تمتد شهرته على مستوى الشرق الأوسط. عُرف بالنبوغ منذ صغره وبدماثة الأخلاق وإخلاصه للعمل وسعيه الحثيث نحو رفع وعي المجتمع بالمرض النفسي وسبل علاجه، وذلك من خلال مؤلفاته وأبحاثه التي تجاوزت الثلاثين إصدار، والتي أهلّته عام 1990 للحصول على جائزة الدولة في تبسيط العلوم.

يعرض فهرس الكتاب سبعة فصول رئيسية يعني كل منها بموضوع رئيسي ما، هي:

  1. الفصل الأول: يعني بالألم.
  2. الفصل الثاني: يعني بالأمراض النفسية.
  3. الفصل الثالث: يعني بتعدد الشخصيات.
  4. الفصل الرابع: يعني بالأمراض النفسجسمية.
  5. الفصل الخامس: يعني بآلام الأنثى كامرأة وكأم وبآلام طفلها.
  6. الفصل السادس: يعني بالعلاج اللازم.
  7. الفصل السابع: يعني بمعنى الحياة.

إذاً، يعالج المؤلف من خلال كتابه القصير سبعة مواضيع رئيسية، حيث يبدأ في الفصل الأول -وبشيء من فلسفة- بالحديث إجمالاً عن الألم، كإحساس وكانفعال وكعقاب للذات وكوخز للضمير وكبديل للصراع وكتعبير عن العدوان وعن الحب أيضاً، لينتقل في الفصل الثاني للحديث تفصيلاً عن الأمراض النفسية وارتباطها بالألم، كالقلق والهستيريا والفصام والاكتئاب والتوهم المرضي، في حين يعرض في الفصل الثالث أنماط الشخصيات من منظور علاقتها بالألم، كالشخصية القهرية والشخصية الهستيرية والشخصية القلقة. أما الفصل الرابع فيوّضح فيه المؤلف ماهية الأمراض النفسجسمية متطرّقاً إلى الآلام المصاحبة لها، كالصداع والروماتيزم وآلام الوجه وآلام أسفل الظهر، بينما يخصّ الفصل الخامس للمرأة وللحديث عن آلامها كأنثى وكأم، وعن آلامها المرتبطة بطفلها تحديداً وقد أسماها بـ (المحيّرة). وقبل الختام، يُفرد المؤلف الفصل السادس لطرق العلاج، ومن ثم يختم حديثه في الفصل السابع عن معنى الحياة، وكيف أن الحياة بلا ألم إنما هي حياة بلا معنى .. أو بمفردة واحدة هي (الموت).

وها أنا أطرح بقلمي ما استلهمت من كنوز المؤلف المعرفية كما جاءت في كتابه الذي استنفد رصيد أنجمي الخماسي كاملاً، واقتبس من جواهرها في نص عشبي ما يبعث على الأمل (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) كما يلي:

المخ مركز الإحساس بالألم، وبدونه لا شعور للألم .. وكأنه سيد الأعضاء! على الرغم من أن المخ لو قُطع بسكين لما شعر الإنسان بشيء، “ومن العجيب أن نعرف بعد ذلك أن المخ هو الذي يدرك الألم الصادر عن أي مكان في الجسم”. ومن العجيب كذلك أن يتم إدراك الألم في عضو ما دونما أي استثارة لنهاياته العصبية، فقد يسمع إنسان ما صوت جرس دون وجود جرس حقيقي، كما يستشعر مريض ما ألماً في رجله رغم بترها. إذاً، إن للعقل دور حيوي عندما يتدخل ليجعل من الألم (عملية وجدانية) .. إما أن يستشعر الألم ويضخّمه، أو أن يستبدله بشيء من الرضا والمرح، وكل هذا يعتمد في الأساس على استعداد الإنسان وانفعالاته وتوقّعاته وتاريخه مع الألم. عليه، لا بد وأن يتعاطف الإنسان مع ألمه، فينحاز أو يميل، إذ أن حيادية المشاعر تعني التبلد .. تعني الموت، ولا يصاب بهذه الحيادية إلا المريض العقلي.

إن المسار الحقيقي للألم يبدأ من العقل وينتهي في الجسد .. من الوجدان إلى العضو، إما حقيقة أو وهماً .. وقد تكثر الأوهام وقد يتمسك بها المريض طالما أنها تحقق له منفعة ما، وقد نكون فعلاً نحتاج لآلامنا! من هذه الحقيقة يرى المؤلف أن الألم يرتبط وبقوة بالحب، فقد يحتاج إنسان ما لحظة موته إلى الحب، فيبثّ عقله ألماً إلى جسده فوراً، فينادي على من يحب ليحصل على آخر جرعة حب .. الألم هو النداء، وهو استعادة لخبرة حب أو لحظة حب أو موقف حب .. وقد يموت شريك عمره أو رفيقه العزيز، فتزوره آلاماً في نفس الأعضاء التي تألم منها شريكه، كنوع من التعبير عن الأسى! يستمر المؤلف وهو يكشف جانباً من الإنسان يحرص على إخفائه، فقد يكبر أحدهم ويتعلم وينضج ويوصف بالمتزن والعاقل، غير أنه في لحظة ضعف إنساني واحدة كخوف أو وحدة أو تعب أو تهديد، يفزع الطفل في داخله فيصرخ منادياً على من يحب: “كن بجانبي وابعث الدفء في وحدتي” .. ألم داخلي يمتزج بألم خارجي! أيهما الأصل وأيهما الصورة يا ترى؟ لكنه يبدو من ناحية أخرى ألماً ضرورياً، حيث يأتي الألم أحياناً ليحمي الإنسان بشكل ما .. إنه حقاً ضروري كالأكسجين! فعند موت إنسان عزيز لا بد وأن تكون معاناة الألم عند شريكه أقوى من معاناة الفقد، وإلا فقد عقله، فمن غير الأكسجين تموت خلاياه ومن غير الألم تموت نفسه. لكل منا عزيز يترقّى ارتباطه به ليصبح كرباط الجسد، ويصبح موته كفقد جزء من هذا الجسد. يقول د. صادق: “إنه شكل من أشكال التوحّد التي لا غنى للإنسان عنها في رحلة حياته .. وإلا مات الإنسان”.

يتوقع المؤلف أن حياة بعض المرضى ستضطرب لو أن عقاراً سحرياً شفاهم كلية من أمراضهم التي عانوا منها سنيناً طوالا، حيث إن هذا الألم كان في حقيقة أمره (دعامة) وعامل استقرار لهم، فلما زال، زال الأمان، وأصاب حياتهم بالارتباك! يستطيع الجسد تحمّل آلاما جمّة، لكن النفس لا تستطيع حمل صراعات الهزيمة والفشل والموت، فيأتي الجسد ليحيط بالنفس كالمظلة. يقول د. صادق: “الجسد مظلة تحيط بالنفس .. مظلة تتلقى أشعة الشمس الحارقة فتكتوي بها وتمنعها عن النفس”. وفي حديثه عن الاكتئاب، يعترف له أحد أساتذته بأن الاكتئاب يسبح في دمه، ويحيله ناراً يشعر بلسعها في جسده وفي ملابسه، تكاد أن تصيبه بالجنون. يقول د. صادق: “معظم الناس تنسى أنها ستموت”، ويستطرد ليقول: “المكتئبون يرحبون بالموت”. لذا، عادة يشير المريض العضوي إلى ألمه، لكن لا يستطيع المريض النفسي فعل ذلك! إن مرضه أشد فتراه يشير إلى السماء.

يشرح المؤلف حالة أم لم تجد ابنتها في نهاية يوم دراسي وهي تنتظرها كعادتها عند بوابة المدرسة، فصعدت الدماء إلى رأسها عندما نهشتها أوهاماً مخيفة كاختطاف ابنتها أو قتلها، ما أصابها بالصداع المزمن من وقتها، على الرغم من أنها وجدت ابنتها أمامها في لحظة أوهامها تلك! لا تزال تلك الأم تعتقد أنها مصابة بورم في المخ بسبب هذا الصداع المزمن. وفي حالة أخرى يصف المؤلف صاحبها قائلاً: “ينفجر رأسه بالصداع أو يشتعل بطنه بالأوجاع” .. إنه صاحب الشخصية القهرية، حيث أن القلق هو أهم حالة نفسية تصيب الإنسان بالصداع، وقد يتزامن بتزامن القلق في حياة الإنسان، وفي أسوأ الحالات يصيب حياته بالشلل .. فلا تفكير ولا تركيز ولا عمل. يقول د. صادق: “وفي حالة القلق المزمن يألف الإنسان الصداع بحكم العشرة وتمضي حياته والصداع في رأسه أو على رأسه”. وعلى الرغم من أن أصحاب الشخصية القلقة ترعبهم فكرة الموت، إلا أنهم يعيشون زمناً أطول عن أصحاب الشخصيات الأخرى، وذلك حسب آخر (مفارقات) التقارير العلمية. ومن ناحية علمية كذلك، لم يُعرف حتى الآن سبباً قاطعاً للصداع النصفي، ويُعتبر الأذكياء والطموحين والمثقفين أكثر عرضة للإصابة به، وعندما يصيب الصداع الرأس، تتأثر الأوعية الدموية والأغشية والعضلات ماعدا المخ! عجباً له، فهو كالسيد، يصدر عنه الألم لكنه لا يشعر به. واستكمالاً لأنماط أخرى من الشخصيات، فإن الشخصية الهستيرية تقيم مجزرة ضد دبوس لا يرى بالعين المجردة قد اقترب منها عن غير قصد وأحدث جرحاً بريئاً، كما أن الويل والثبور قد يطول كل من حضر الحادثة الشنعاء ولم يبدِ تعاطفاً. تتأثر هذه الشخصية بالإيحاء، كما أن الافتقار إلى التحليل الموضوعي هو أحد سماتها، وهي شخصية تستمر بالصراخ حتى بعد انقضاء الألم.

بعد كل هذا، يؤكد المؤلف أن عذاب الإنسان في حقيقته مركّب، فيبدأ بنقطة باهتة تنتهي إلى جبل شاهق، وهو يستمر يخلق لنفسه سلسة من عذاب تلو عذاب يلفها بيديه حول عنقه، في حين يتصارع مع ذاته ومع رغباته التي قد تتعارض مع الدين والعرف، فتُكبت تلقائياً في اللاشعور. أما عندما يرتبط الألم النفسي بألم المفاصل، فيتضاعف حتى يعوق الحركة الطبيعية ويعيق الحياة بأكملها، حيث يضيف الألم النفسي حملاً آخراً على المفاصل، ويزيد من حدّة آلامها. قد ينجم مرض الروماتيزم عن فورة غضب أو فقد عزيز أو خسارة صديق، فيؤثر هذا الانفعال على جهاز المناعة والذي يؤثر بدوره على المفاصل. ويحدث أن “يتيبس” أحدهم في مشاعره كما “تيبست” مفاصله، إذ يصبح أكثر حدّة وأكثر بعداً حتى عن المقربين منه. وفي صورة أخرى، قد تؤدي آلام أسفل الظهر إلى إصابة أحدهم بالعجز الجنسي، والعكس وارد أيضاً، فقد يؤدي العجز الجنسي في التسبب بالحرج الذي يصيب بالتالي أسفل الظهر بالألم، فيصبح هذا الألم شمّاعة عجزه وليس العكس. وفي حالات أخرى، قد تتفوق الزوجة علمياً وعملياً ومادياً واجتماعياً على زوجها، فيُقصم ظهره كحيلة لمداراة عجزه الجنسي الناشئ عن نفوره من زوجته، والذي هو في حقيقته نفور بسبب فشله أمامها.

إن لحظات الولادة أشبه بلحظات تتويج ملكة! الألم هناك في رحمها فقط، لكن عقلها ووجدانها يهتزان فرحاً. تبكي وقد يبكي وليدها لبكائها، لكنها تستعجل ولادته لا للخلاص من آلامها بل ليكتمل زهوها به. وهناك ثمة علاقة سادية-مازوخية .. المعتدي هو الرضيع والمعتدى عليها هي أمه!.

وعن الأمراض النفسجسمية ككل، تشير التقارير إلى أن 50% من المرضى الذين يعانون من آلام في البطن والصدر لا يعانون فعلياً من أي مرض عضوي، فهي آلام تعود لأسباب نفسية. وتسجّل التقارير أيضا 40% من الحالات التي تضطرب فيها وظائف الجهاز الهضمي لأسباب نفسية، دون العثور على أي مرض عضوي مباشر. غير أن للنفس أفاعيل أخرى، حيث ترتسم “كلمة الحب” على وجه المحب تلقائياً .. إنها أعصاب الوجه الخاصة بالعاطفة والتي تتغذى بالإحساس والوجدان. يقول الحبيب عندما قرأ كلمة “أحبك” على وجه حبيبته قبل أن تنطقها: “وحين امتلأ وجدانك حباً استرخت عضلات وجهك بالبهجة واتسعت عيناك بالسرور واجتمع الشوق مع الفرحة ليسيطرا على شفتيك فخرجت من بينهما الكلمات راقصة بفرح”. ويعقّب د. صادق قائلاً: “وما زال العلم عاجزاً عن تفسير ذلك النور الذي يملأ الوجه حين يشعر الإنسان بالحب والسلام والطمأنينة”.

يختم د. عادل صادق حديثه العذب عن الإنسان وهو يقطع طريقه بين الرجاء في الحياة وبين الموت المحتّم، فما الموت إلا (رحمة) في أحيان لا يُرتجى سواه، فيقول بيقين المؤمن: “وقد يجيء الموت في لحظة يتصاعد فيها الألم إلى أقصاه .. وفي ذلك رحمة، لأنه مع هذا الألم الشديد تهون الحياة ولا يشعر بالأسف لمغادرتها فقد كانت كلها حتى لحظاتها الأخيرة معه مصدراً لكل ألم”. وما الألم سوى (نعمة) يُعطي الإنسان -بعد أن يبرأ منه- دفقة جديدة للحياة وبمفهوم آخر عنها، فهي تستحق العيش مهما كان .. “إنه الرضى الذي يملأ النفس سروراً فيجعل للألم مذاقاً مقبولاً”.

… وددت لو اتسع وقتي وجادت محبرتي .. لأستمر!

 

تم نشر المراجعة في:

صحيفة المشرق .. جزء (1)جزء (2)

جريدة الشرق .. جزء (1)جزء (2)

ضفة ثالثة – العربي الجديد

 

= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =

من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (5) كما دوّنت ضمن قائمة من كتب قرأتهم في عام 2016، غير أن ذاكرتي لا تسعفني، ولا حتى مفكرتي القديمة بما تحويه من ملاحظات، ولا مسودات التدوين في حينها، من تعيين إجمالي عدد الكتب التي قرأتها في هذا العام بالتحديد! ملاحظة: أجد بخط يدي على هامش مفكرة العام عبارة: (35 كتاب) .. لا أعتقد أنها ملاحظة دقيقة.

لكنني لا زلت أذكر تماماً الأعوام الثلاث التي قضيتها في تحصيل دراساتي العليا في المملكة المتحدة، والأعوام التي تلتها وأنا منهمكة بجد في عملي المهني الذي لا يمتّ بصلة لهواية القراءة لا من قريب ولا من بعيد .. الدراسة التي استحوذت على حياتي حينها، والعمل الذي كان يستنفد القدر الأكبر من وقتي وطاقتي، بحيث لا يتبقى للقراءة في نهاية اليوم سوى القليل من الوقت والتركيز .. ولله الحمد دائماً وأبداً.

تسلسل الكتاب على المدونة: 16

 

تاريخ النشر: فبراير 5, 2021

عدد القراءات:1866 قراءة

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *