الكتاب
حلم رجل مضحك
المؤلف
الكتاب باللغة الأصلية
Сон смешного человека - By: Фёдор Михайлович Достоевский
المترجم/المحقق
د. نرمين جمعة
دار النشر
عصير الكتب للنشر والتوزيع
الطبعة
(1) 2019
عدد الصفحات
61
النوع
ورقي
تاريخ القراءة
12/08/2022
التصنيف
الموضوع
حلم يفسّر الواقع فلسفياً
درجة التقييم

حلم رجل مضحك

لم تكن أضغاث أحلام، إنما رؤيا فلسفية تُفسّر ماهيّة روح أزلية مصيرها -رغم نقاءها في خلقها الأصلي- التعاقب سرمدياً في حيوات تتبعها حيوات تعصف بها، وتترقى في تجارب روحانية حتى تتجلّى في حقيقة معدنها وتُسفر عمّا من الممكن أن تؤول إليه .. وفي حلم هذا الرجل المضحك، تُدرك الروح في نسختها الطينية كم هي الغرائز ثقيلة وكم هو من الأسلم مغالبتها لتعود إلى طبيعتها النقية قبل أن تخالطها .. الكدح الذي قد تدفع به الروح الثمن بموت هذه النسخة المادية، والانتقال إلى حياة أخرى قد تكون الأخف في قوانينها الفيزيائية والروحية!.

إنها رواية تتعرّض إلى الاعتقاد القائل بتناسخ الأرواح، فتفسّر رؤيا ما كواقع حقيقي لا كحلم في منام .. ما تجعل من الواقع المعاش يبدو وأنه هو حلم للروح وهي تحيا في بُعد آخر، في حين ما يتراءى من حلم هنا هو واقع هذه الروح في حياة أخرى! ها أنا ذا بدأت أقول قولاً مضحكاً .. هكذا قد يبدو! كالفيلسوف أو كالرجل الذي كان يبدو مضحكاً لقومه عندما كان يحدّثهم عن الحياة بلغة حكيمة وببصيرة لم يخبروها، فاتّخذوه سخرّيا!.

أما هذا الرجل فقد يأس! إذ قضى عمره وهو يعرض بصدق ما يؤمن به من أفكار وقيّم ونظرة مثالية للحياة على من حوله، ما كان يجعل منه مجرد (رجل مضحك) يتندّرون به ويسخرون منه، حتى بدى له في نهاية المطاف أنه كما يقولون! فاعتمل به الضجر .. من نفسه ومن الناس ومن الحياة بأسرها، فجاء قراره الصارم بالانتحار في ليلة ما وأعدّ المسدس .. غير أن طفلة صغيرة عابرة معدمة، ترتعد برداً ووجلاً، تحتضر والدتها حين هرعت للشارع تستجدي عطف الناس .. تُنقذه! فبعد عودته إلى شقته المتواضعة وقد نهرها في تلك الليلة الماطرة، لم يتمكّن من إطلاق النار على نفسه، حيث أخذ الذنب من شعوره مأخذاً .. الشعور الذي بدوره ولّد لديه الكثير من التساؤلات الوجودية: فلو كان عازماً على المضي بحق، فلمَ يتألم لأجلها؟ وطالما أنه لا يزال إنساناً ولم ينتقل للعدم بعد، فله أن يتألم ويثور ويخجل من آثامه، لكن إن أنهى حياته عقب ساعة، فهل سيعنيه أمر الطفلة وأمر كل من على وجه الأرض وقد أصبح عدم مطلق؟ وهل من المنطق في شيء وهو بعلمه المسبق عن فنائه المحتّم بعد لحظة ألّا يكون للأمر أي تأثير في استشعاره الشفقة والخزي والألم تجاه تصرّفه نحو الطفلة؟ يتراءى له بعد هذه الأسئلة الصاخبة أنه عاش في الماضي على سطح القمر وارتكب آثاماً لا يمكن تصور فُحشها، حتى انتقل إلى الأرض وهو يحمل في نفسه كل تلك المشاعر المثقلة بالخزي وكل الصور البائسة اليائسة، فهل سيشعر حينها باللامبالاة تجاه ما اقترف في السابق وقد كان انتقاله لكوكب الأرض نهائياً لا رجعة فيه إلى القمر مرة أخرى؟ .. يقول بعد توارد هذه السلسلة الفكرية في ذهنه العاصف: “لقد أنقذتْ تلك الطفلة حياتي .. فهذه الأسئلة أبعدت المسدس”. وبعد جلسة العصف الذهني، يستسلم للنوم، ويرى نفسه قد وجّه المسدس إلى قلبه لا إلى صدغه كما كان مخططاً له في يقظته، ومع تهاوي الأشياء من حوله، يُطلق النار!. يرى ذهول من حوله دون أن يروا ذهوله منهم وقد قضى، ثم يرى نفسه مدفون في قبر تتساقط قطرات الماء الضخمة ببطء فوق غطاء التابوت، فتصيب عينه وتصيبه بالجنون، فيصرخ صرخة متيبّسة لا صوت فيها .. وفي برهة يسود الصمت، ثم يُفتح القبر ويتبدد الغطاء وكأن كائن مجهول يحيطه بقبضته ويردّ عليه بصره ويحلّق به في الفضاء .. يسأله عن نجم ما اقتربا منه وهما يطيران في السماء، فيجيبه أنه النجم الذي كان يتأمله ليلة انتحاره .. يسبر معه الفضاء المعتم ويُبصر الشمس ويقول عن رفيقه الفضائي: “أحسست بغتة أنه لا يستهين بي، ولا يسخر مما أفعل، ولا يُشفق عليّ في الوقت ذاته، وإن لمسارنا هذا هدف يروم إليه، سري، مبهم، لا يعني أحد غيري” .. ويجد نفسه كمن هو فوق عالم ما ضمن الأكوان المتعددة، تبدو فيه مخلوقاته البشرية مجبولة على أصلها الفطري يعمّهم الخير .. مشرقة وجوههم بالحكمة وترسل أعينهم وميضاً منيراً ويصدرون أصواتاً تشدو ببهجة الأطفال .. صخبهم ضحك ومزاح ومرح وفرح .. لا يشتعلون حماسة تجاه شيء بعينه ولا يهمهم فهم الحياة فهي لديهم تنعم بالكمال، وقد “توصلوا لسر الحياة دون علم”، فاكتشفوا لغة الأشجار وحدّثوها وحدّثتهم، وقاسمتهم الحيوانات الحياة بسلام، وتواصلوا روحانياً مع النجوم السماوية .. وهم لا يتكالبون على إشباع الغرائز الحسية ولا يجري بينهم ما يجري بين الأرضيين من كذب وكره وغل وحسد ولذة ومرض وقتل ومطامع وصراعات، حتى يُصبح مقدمه عليهم وما سيؤول إليه مصيرهم جرّاء غوايته بمثابة “ارتكاب الإثم الأول” .. فيقول: “لقد تبينت كل شيء من النظرة الأولى بوجوههم! هذه هي الأرض قبل أن تدنسها الخطيئة، ويعيش البشر عليها من دون خطيئة. يعيشون بهذا الفردوس الذي ردد البشر فيما بينهم أن أجدادنا قد عاشوا فيها قبل أن يجترفوا الآثام، فقط ثمة اختلاف واحد وهو أن هذه الأرض ليست سوى جنة في كل أطرافها وجوانبها .. وبعد أن يتخّذ الشر موقعه في نفوسهم يتقاتلون به فيما بينهم، تتوالى عليهم أفكار تنشد قيّم العدالة والأخوة والإنسانية والسعادة وتستحثّهم على سن القوانين لصونها، في محاولات تبدو لهم مثالية، وما علموا أنهم كانوا يحيون بتلك القّيم يوماً ما كطبع لا تطبّع .. كغريزة فطرية لا كعادة مكتسبة! يقول الرجل وقد شهد على ما صاروا إليه: وصاروا يتوقون للألم، فزعموا أن بلوغ الحقيقة لا يكن إلا بالألم! وظهر العلم وقتها عندهم، وحين صاروا أشراراً راحوا يتكلمون عن الأخوة والإنسانية واستوعبوا هذه المفاهيم. وحين صاروا آثمين ابتكروا فكرة العدالة وسنوا قوانين تحميها، ولكي تُطبق القوانين أقاموا المقصلة، ولم يتذكروا إلا بعضاً مما فقدوه، ولم يصدّقوا أنهم كانوا يوما أنقياء هانئين، بل استهزأوا بإمكانية تحقيق نموذج هناءهم الماضي وأطلقوا عليه حلماً، فما كانوا قادرين على تخيّله في صورة أو هيئة ملموسة“.

ومن الرواية (Сон смешного человека – By: Фёдор Михайлович Достоевский) التي أصابت ثلاث نجمات من رصيد أنجمي الخماسي، أقتبس في نفس النص السريالي السابق (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) ما راود خاطر الرجل بعد انبعاثه، حين طاف بالنجوم في جوف الفضاء وعاين الشمس التي وجدها نسخة طبق الأصل من شمس الأرض .. الأرض التي غلبه نحوها شعور غامر بالحب، وقد وُلد بها ورحل عنها مخلّفاً وراءه طفلة خذلها .. هل يجوز حدوث تكرار في الكون بهذه الصورة؟ وهل تُراه أحد قوانين الطبيعة؟ وإن كانت تلك هي الأرض، فهل تماثل أرضنا بدقة، وهل تشبهها في بؤسها وفقرها، وهل هي مثلها عالية القدر، محبوبة للأبد، قادرة على تحفيز أبنائها، وإن كان أكثرهم إجحافًا، ليحبونها؟“.

ختاماً أقول: إن هذه الرواية الوجيزة قد فتحت تلك النافذة التي تطلّ على أعماق روحي .. تلك الأعماق التي لطالما استشفّت في ومضة وأخرى، ما وُجد فعلاً .. عندما كان بالكاد قيد الوجود!.

 

= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =

من الذاكرة: جاء تسلسل الرواية (52) في قائمة خططت لها أن تضم (70) كتاب لهذا العام 2022، وهي خامس ما اقرأ في شهر ديسمبر حيث بات تحدي القراءة على قدم وساق .. وقد حصلت عليها من متجر جملون الإلكتروني للكتب العربية في يوليو من عام 2020، ضمن (50) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من تلك الشحنة.

وللروائي الروسي على مكتبتي إضافة إلى هذه: ذكريات من منزل الأموات / الجريمة والعقاب / في قبوي.

من فعاليات الشهر: لا شيء سوى مصارعة الوقت من أجل قراءة المزيد وتعويض ما فات خلال العام .. وقد أجّلت عمل الأمس إلى اليوم والذي أصبح فائتاً كذلك.

تسلسل الرواية على المدونة: 383

 

تاريخ النشر: ديسمبر 8, 2022

عدد القراءات:1021 قراءة

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *