المترجم في العمق

 

 المترجم في العمق

—————————————–

   1 ديسمبر 2022

مع أولى قطرات الغيث في أروقة مجتمع رديف المتّقد

والشكر موصول للمؤسس الفاضل والأعضاء الأعزاء

 همى الغيث

Hma-Algaith.Com

 

 

لا يخفى على إنسان الألفية الثالثة ما للترجمة، كنشاط حيوي مارسته البشرية منذ قرون بعيدة، من دور رائد في صناعة المجتمع الحضاري، علمياً واجتماعياً وثقافياً واقتصادياً وسياسياً وغيرها من أوجه النهضة الحديثة، غير أن المترجم -رغم دوره الفاعل- لا يظهر ضمن هذا الخضم سوى كجندي مجهول أبخسه القدر حقه، أو كشمعة احترقت لتُنير للغير المسير.

تراودني تلك المشاعر من الغُبن كلما قرأت كتاباً مترجماً -لا سيما وإن ماثلت جودة محتواه احترافية ترجمته- يحتل عنوانه نصيب الأسد فوق الغلاف الأول، متبوع باسم مؤلفه الذي لا يقل في البهرجة عن عنوانه، في حين تُذيّل حافته باسم المترجم وعلى استحياء، إن لم يُقذف على ظهره تكرّماً، فضلاً عن الحضور المغمور الذي يلفّه على شبكة المعلومات العالمية!.

تتبع هذه الخاطرة التي تعتمل في داخلي سلسلة من التساؤلات حول مدى روح الشغف الضاربة في أعماق المترجم، وأصل الحبور المصاحب له وهو يعمل في الظل، والمحرّك لنقله قول من لسان إلى لسان، والحافزية التي تُبقيه على قيد الترجمة! ليس الصدد بهذه التساؤلات هو تحديد صفات المترجم المعتمد كإتقان اللغة وسعة الاطلاع وأمانة النقل والخبرة العملية، أو التنظير في الأهداف العامة لمهنة الترجمة ككل، كالمساهمة الفعّالة في شبكة التواصل العالمي ودفع عجلة الاقتصاد وتعزيز السياحة المحلية وتغطية عجز التكنولوجيا المفتقرة للترجمة الدقيقة ….، وغيرها من مظاهر مثالية لا تعدو عن كونها حشو نظري مستهلك، فضلاً عن الدافع المادي الذي لا يُعد عامل تحفيزي في براعة المترجم على الإطلاق .. إنما تأتي هذه التساؤلات لتسبر غور المترجم وفي العمق عن شغف يمدّه بطاقة إبداعية.

فليكن أولاً (الفضول المعرفي)! إن النهم نحو تناول كل ما يستجد على البسيطة بالشك والتحري والبحث، فضلاً عن أنه سجية قد لا يولد بها جميع البشر، لهو الدينامو الذي يحرّك طاقة الفضول لدى المترجم إن توفرت لديه .. وهو إذ يستكشف خارطة ثقافية لا تشبه بيئته، يُصبح الجديد الذي تعلّمه كالكنز الذي يثري حصيلته المعرفية، وكالسر الذي يبوح به، وهذا ما يقود إلى (كونية الانتماء) ثانياً. إذ قد يحظى المترجم بمساحة ذهنية منفتحة تنعتق عن سجن التعصّب وتتجاوز الهويّات وتعبر الحدود الجغرافية، بحيث يُصبح الإنسان لديه ولا أحد سواه جوهر المعرفة الأول في الكون، وما يحدّه من حرية ووعي وخُلق وقيم ووجود وعالم فسيح .. الروح الكونية التي تُبلور الإنسانية في كيان واحد، فتقود بدورها إلى (التبادل الثقافي) ثالثاً. هنا، يضع المترجم بصمته على الطريق المؤدية للتواصل بين البشر على اختلاف ثقافاتهم. وفي سبيل استبدال التنافر الواقع الذي يعود منشأه للجهل بالآخر كعامل مؤثر، يسلّط المترجم الضوء على المشترك العام وعلى خصوصية البيئة وعلى فهم التنوع الذي يعمل بأجمعه على بناء نُظم معرفية جديدة بين الشعوب.

قد يكون للمترجم علاوة على ما سلف من سيمياء عامة، رسالة خاصة لا تقلّ عنها في النُبل، كأن يمازج بين ثقافتين تعايشتا تاريخياً وطُبع كل منها في الحاضر بصبغة تُشبه صبغة الآخر، فيكون المترجم بهذا رسولاً .. أو كأن يتصدّى بما أوتي من معرفة عن ثقافة وأخرى، للحملات الدعائية المغرضة التي تُعرف عالمياً بالـ (بروباغندا) تستهدف فيها أحدهما الأخرى، لا سيما في صراع القوي مع الضعيف، فيكون المترجم بهذا مناضلاً .. كذلك، كأن يتبنى ظاهرة أخلاقية مسكوت عنها في مجتمعات تكتسي بالمحافظة ويحيط بها تابوهات من عقائد وأعراف، فينقل لها تجارب مجتمعات مغايرة نزعت ذلك الكساء الرثّ وحطّمت أغلال تلك التابوهات الصدئة، وتصدت على الملأ للظاهرة، فسنّت القوانين ووضعت الأنظمة وفرضت الحلول .. فيكون المترجم بهذا مصلحاً.

بهذا، قد يكون أدنى حق مكفول لمترجم أي كتاب هو تخصيص مساحة للتعريف به شخصياً، إما على غلاف الكتاب الأخير أو في خاتمته .. وذلك كأضعف الإيمان، إلا أن حقّه الكامل يتمثّل في تخصيص صفحات له من أجل كتابة مقدمة تتعلق بمحتوى الكتاب الذي عني بترجمته، ومجهوده فيه، والأسباب التي دعته لاختياره أو للموافقة على ترجمته. كذلك، لا بد من توفير فرص للتواصل مع المترجم مباشرة لا عن طريق دار النشر، فلا ينبغي له أن يكون أجيراً ولا لمهنته أن تكون مجرد (أكل عيش) .. وتبعاً لدوره الوسيط الفاعل في تناقل وتبادل الثقافات العالمية، لا بد وأن يكون حاضراً على منصات التواصل الاجتماعي كعضو مؤثر في المجتمع يُحتذى به، وكنموذج مضاد لما تموج به بعض مواقع تلك المنصات من محتويات هابطة وبضائع كاسدة لصنّاعها الخائبين.

على مستوى شخصي، يبدو لي المترجم مشيج من أمزجة! فتارة هو مطبوع على الكرم فيُنفق مما أوتي من علم على من لا علم لديه .. أو هو ربما لا يكتم سراً فتراه يُحدّث بما علم كيفما جاء حسناً أو سيئاً .. أو أنه سبّاق يطمح للريادة في نقل كل ما هو جديد .. ماذا لو كان مجرد موظف؟ وماذا لو كان محب للمعشر مهذاراً؟ فليكن .. ففي كل الأحوال، أراه قد صاحب الكتاب، يعلوه وهو منغمس فيه .. سمت المفكّرين.

وفي الختام أقول: تأتي هذه التدوينة الأولى التي خصصتها لـ (إبداع المترجم) كُرمى للسيد/ يونس بن عمارة، على فرصة التعارف الكريم وإتاحة المجال للتواصل البنّاء .. مع خالص الشكر.

همى الغيث

 

…………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………

سوف يكون الاشتراك في مجتمع رديف تجربة ثرية، بين جودة المواد وتنوع الخدمات وأعضاء فاعلين وقائد يتبنى كل طموح

الرابط: اشتراكات مجتمع رديف

 …………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………

 

عدد القراءات:109 قراءة