… ووراء كل امرأة ناجحة ♥ نفســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــها …
♥ ♥ ♥
يبقى يوم تخرجي الأول هو الأعظم .. يتبعه الثاني .. فالثالث
سلاح العلم هو الأمضى .. وما دونه قصور من رمال .. تتهالك .. مبنية فوق رمال!.
♥ ♥ ♥
عظمة الرجل من عظمة المرأة .. وعظمة المرأة من عظمة نفسها
♥
المرأة إذا ذبل عقلها ومات .. ذبل عقل الأمة بكاملها وماتت
♥
المرأة هي نصف المجتمع .. وهي التي تلد وتربي النصف الآخر
♥
ما من رجل عظيم يصادفني في الحياة .. إلا وأجزم في الحال أن والدته أكثر عظمة منه
ماذا تحمل مفكرتي عن شهر مارس 2023
… ؟ …
قراءاتي: لا بد من تكثيف القراءة التي سأتوقف عنها الشهر القادم والذي يوافق شهر رمضان المبارك
مدونتي: سأنتهي في هذا الشهر من العمل على نشر المتبقي من المواد عليها
مقالاتي: لا زلت أعمل على إمكانية نشر مراجعات الكتب في صحيفة عربية ثالثة
اهتماماتي: سألتحق ببرنامج قصير عن النساء الملهمات
استجمامي: هل سأتمكن من السفر كما خططت؟ لا أعتقد أن الوقت يسمح
تأملاتي: كم وددت العودة لذلك الركن الهادئ الذي ينقلني إلى حياة ساحرة خلف الحجب
………………………………………………………………………….
إذا أردت قولاً فاسأل رجل .. وإذا أردت فعلاً فاسأل امرأة
مارجريت تاتشر
أصدقائي الجدد من Virgin Megastore
يناير 2023
.. عندما يفعل قانون الجذب أفاعيله ..
ويحمل كتب لا بد منها إلى مكتبتي
في أواخر شهر يناير، وعندما كنت أقود سيارتي عائدة إلى المنزل بعد أن قضيت أحد الحوائج سريعاً على غير المتوقع، وجدت نفسي فجأة أقوم بتحويل مسار قيادتي -وقد وصلت إلى الحي وأصبحت على مشارف المنزل- إلى مركز التسوق التجاري، حيث خطر لي قضاء غرض ما لم يكن مهماً حينها! وبمجرد أن وطئت قدماي المركز، أجد نفسي أسلو عن ذلك الغرض وأتجه تلقائياً نحو محل (فيرجن) وتحديداً إلى ركن الكتب، حيث وقعت عيناي على هذه المجموعة من الكتب، فالتقطتها من فوري ومنها توجهت إلى الصندوق .. هكذا بكل بساطة .. وكأنه قانون الجذب!
تضع هذه المجموعة وأكثر في قوانين الكون اللامتناهية، الأسترالية (روندا بايرن – Rhonda Byrne) وهي كاتبة ومنتجة أعمال تلفزيونية، وقد حققت ثروة هائلة من مبيعات سلسلة الكتب التي قامت بتأليفها في مجال علم الطاقة:
الأول: السر .. The Secret
تقوم فكرته على قانون الجذب الذي يحكم الكون وهو يستقطب الخبرات والأحداث والحالات التي تتفق مع فرد ما في أفكاره وأفعاله ومشاعره، فما كان إيجابياً يخلق نتائج إيجابية والعكس بالعكس!
أذكر أنني قرأته وقت إصداره بعد استعارته، واليوم أقتنيه واقرؤه من جديد!
وكاقتباس منه:
“See the things that you want as already yours”
الثاني: السحر .. The Magic
تقوم فكرته على قانون الامتنان الذي يمكّن من تحسين الكثير في مجالات الحياة، بما فيها حل المشكلات والتعامل مع المواقف السلبية، بحيث يصبح ممارسة الامتنان جزء أساسي من معاش الحياة اليومية، وهو يعكس حقيقة شكر النعم.
وكاقتباس منه:
“Your gratitude is magnetic, and the more gratitude you have, the more abundance you magnetize. It is Universal law”
الثالث: القوة .. The Power
تقوم فكرته على قانون الحب كطاقة كونية فاعلة في تحسين كل ما يلزم تحسينه، فمشاعر السعادة والإثارة والعاطفة وتحقيق النجاح وتواليه هو في أصله نتاج للحب .. وأن الأفكار الإيجابية هي عمّا يحب الفرد ويريد بينما السلبية منها هي عمّا لا يحب ولا يريد!
وكاقتباس منه:
“You have to feel love to harness its power”
LAW OF ATTRACTION..LAW OF ATTRACTION..LAW OF ATTRACTION
«وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر»
A little body thyself thou deem .. while the great universe in thee dwells
♥♥♥♥♥♥♥♥♥♥♥♥♥♥♥♥♥♥♥♥♥♥♥♥♥♥♥♥♥♥♥♥♥♥♥♥♥♥♥♥♥
قراءة في كتاب
…………………………
أنشر هذه المقالات في شهر فبراير / شباط 2023
همى الغيث
كتاب يضم بين دفتيه الصغيرتين مقالات رشيقة تلمس خفتها روح القارئ بإبداعية مضمونها، وهي تستهدفه بذكاء كمتعطش للمعرفة، يستقي من مناهل الكتّاب وأقلامهم المتدفقة .. كشغف لا ينتهي. وكما تقول الأخصائية النفسية كاي جاميسون في تلميح عن ملامح ذلك القارئ الشغوف: “أنا أعتقد أن الفضول والتساؤل والشغف هي صفات العقول المبدعة والمعلمين العظماء”. إنها مقالات تدور في مجملها حول توأم (القراءة والكتابة)، وما ينطوي حولهما من عادات وأسرار وأكاذيب وصعوبات ونصائح وطرائف أيضاً، كعوارض جانبية .. في طرح مختلف نوعاً ما قد لم يحظَ بالاهتمام الكافي من ذي قبل!.
تستهل تلك المقالات برسم ملامح عشاق القراءة، لتعرج على القراءة كفن يخضع لمعايير محددة، ومن ثم تأخذ في تعداد فوائدها التي لا تنتهي، وهي تسرد بعض من حيل استئنافها بعد فترة انقطاع. تأتي مقالات أخرى لتضع قواعد خاصة للكتابة، بينما تعرض أخرى لنصائح أدبية وأخرى نفسية وأخرى مزعجة على لسان عدد من الكتّاب، بالإضافة إلى شرح تقنية الكتابة في غضون خمسة عشرة دقيقة فقط، لتخلص إلى عدد من الإشاعات الواردة حولها والتي قد تنطلي على من يكتب وعلى من ينوي أن يكتب، على حد سواء. وكجانب طريف من تلك المقالات، قد يجد القارئ نفسه، من قريب أو من بعيد، يقبع بين سطورها، بل وقد يقف مدهوشاً وجهاً لوجه عند بعضها وكأنها كُتبت عنه، ليتساءل: كيف عرفوا عني ذلك؟ وعلى الرغم من ركاكة الترجمة في بعض أجزاء الكتاب والتي ظهرت حرفية لا تحمل المعنى المباشر، فقد جاء الكتاب في مجمله مثير لعاطفة القارئ من خلال استخدامه لأسلوب أدبي لا يخلو من إبداع، ومحفّز لشحذ همة كل طموح في احتراف مهنة الكتابة، وهو كذلك ظريف الخيال في استعارة بعض النماذج والأمثلة لتوضيح فكرته وتعزيز نصائحه.
وعن مراجعة هذه الكتاب الذي حمل عنوانه عنوان مقالة (أشياء لتتذكرها إذا وقعت في حب كاتبة) من بين أربع وعشرين مقالة، فتعتمد على الطبعة الأولى الصادرة منه عام 2019 عن دار الخان للنشر والتوزيع، والذي عني بترجمته الكاتبة والمترجمة الفلسطينية (أماليا داود)، وهي تشتمل على بعض الاقتباسات بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
تكشف مقالة (مدمنو الكتب .. عشق لا ينتهي) سيماء أولئك المدمنين من خلال أفعالهم المشتركة، بصرف النظر عن الخلفية الثقافية التي يتباينون في انتمائهم لها، بحيث تأخذ صفة الصورة النمطية لهم، “فنحن فضوليون ونقدّر حياة المؤلفين، وليس غريباً أن نقضي معظم وقتنا في المكتبات، فهذه الصفات لا نخجل منها”، من مرافقة الكتاب لهم أينما حلوا وذهبوا، إلى هلع الانتقال السكني وعملية شحن الكتب المترتبة عليها، انتهاءً بالأنانية البريئة في رفض فكرة إعارة كتبهم حتى لأصدقائهم رفضاً قاطعاً واستبدالها بشراء نسخة إضافية كحل مريح وإن تكبّدت تكلفة إضافية .. ولا يمكن تجاهل دفاعهم المستميت عن الكتاب الورقي الحميم ضد الإلكتروني الفاتر، ففي حماسة يقولون: “نحن ندافع عن الكتاب الورقي ولنا رأينا الثابت بخصوص هذا الشأن، فلا شيء يوازي تقليب صفحات كتاب، لكن أحياناً نتنازل لصالح كتاب تعبنا في الحصول عليه”. بينما يتساءل أحدهم في حيرة: “في السفر لا بد أن تكون الأمتعة خفيفة! ماذا لو قررنا حمل بعض كتبنا المفضلة معنا؟”. أما مقالة (نصائح عن النصائح الأدبية)، فتسرد جملة من النصائح ما تلبث أن تنصح بكسرها متى لزم الأمر! فالنقد -على سبيل المثال- يؤتي أكله كتقييم موضوعي، غير أنه يستحق التجاهل إذا مسّ مبادئ الكاتب أو تم توجيهه بشكل متعمّد من أجل إرضاء العامة .. بينما تأتي مقالة (الكتابة من أجل لقمة العيش: متعة أم عذاب؟) لتصنّف المهنة على أنها (غير ممتعة) على لسان الروائي (تشودري)، حيث عامل التشويق ينتفي لديه وهو قد علم بأحداث الرواية مسبقاً ككاتب يكتبها، غير أن تصنيف هذه المهنة يصبح (ممتعاً) عند الكاتب (كانزرو) وذلك للشعور المصاحب بالرضا في عملية “غزل الكلمات” حسب تعبيره.
وبما أن الكتاب يعلوه عبارة (مقالات إبداعية)، فنجد أحد كتّاب تلك المقالات يتشعب في هذه السمة الإبداعية التي تحيط بعمل الكتابة، فيقرّ: “إنّ الكتابة مسعى إبداعي مليء بالتحدّيات، وقد يجلب لك الكثير من النجاح والرضا في كثير من المهن. لدى الكتّاب موهبة على التواصل مع الآخرين. جميع الصناعات تحتاج إلى كتّاب في كثير من الجوانب. عندما تشعر بالشكّ تذكّر فقط أن كل ما قد قرأته في حياتك قد كتبه أحدٌ ما، وكان عمله كتابة ذلك. الاحتمالات لا نهائية”. وماذا عن تلك العاطفة التي تتملّك القارئ وعن مدى انعكاساتها لا على مستوى الحصيلة المعرفية وحسب؟ تجيب إحدى تلك المقالات الإبداعية عن التأثير السلوكي وتقول: “تجعلك القراءة أكثر تعاطفاً: إذا كنتَ تقرأ فمن المرجح أنك تتعاطف أكثر مع صراعات الآخرين، حيث أكدت الدراسات أن القارئ يتماهى مع الشخصيات وتزداد عنده ترجمة الأقوال إلى الأفعال، ومن ثمّ يزداد التعاطف، ويحوّل الذكاء العاطفي تلك العلاقات من فورها إلى علاقات حقيقية”. أما الكاتب المحترف، فيمزج عصارة خبرته الذاتية بخبراته في الحياة حتى يُسفر عن رؤى لا تثبت على مدى محدد بل تتغاير مع استغراقه في معمل تجاربه الإبداعي. يقول أحد كتّاب تلك المقالات: ”حياة الكاتب مختلفة، تشبه إلى حد كبير عالم في مختبره، يجرِّبُ الخلطات ويحاول مزجها برؤيته الخاصة. وأثناء تلك المسيرة، يجرّب الكاتب أفكاره ويعيد تشكيلها والحكم عليها، ويبلورها باستمرار حسب نتائج التجارب، وتلك العملية تجعل الكاتب غارقاً في متعة التجريب”.
وكمسك ختام للكتاب، تأتي مقالة (أيتها المرأة المبدعة لا تتوقفي) إبداعية بجرعة معززة في تقدير الذات، بقلم الباحثة الأمريكية د. هايدي جرانت هالفورسون، وهي ناشطة في مهارات القيادة والتحفيز إلى جانب تخصصها الأكاديمي في علم النفس الاجتماعي، وقد استمر اختيارها في السنوات الأخيرة كواحدة ضمن خمسين مفكّر إداري الأكثر تأثيراً حول العالم، وهي تشغل منصب المديرة المساعدة لمركز علوم التحفيز بجامعة كولومبيا، وقد أصدرت عدد من المؤلفات صُنّفت ضمن الأكثر مبيعاً عالمياً. ففي حديثها عن المرأة المبدعة، تعتقد د. هايدي أنها غالباً ما تتعرض لإغراء “فكرة الاستسلام” حيث تنسحب من الحياة العملية لكثرة ما تواجه من ضغوط وانتقادات، تدفعها كباحثة للتساؤل عن تبعات هذا الانسحاب الخنوع! فتقول: “إن تخلي المرأة عن إبداعها يسبب جوعاً فكرياً، ويسبب أزمة هوية بين طموحها والحياة الروتينية. في حين معظم النساء غير مستعدات للاعتراف بذلك، وتمر السنوات لتجد المرأة نفسها بلا هوية خاصة بها، وتفقد الإحساس بالذات”. ولأنها امرأة تحفيزية، تبدأ بطرح الحلول العملية، فتقول: “الآن في العصر الرقمي، يمكن أن تبدع المرأة في العديد من الأعمال التي لا تؤثر في حياتها أو اهتمامها بأسرتها، وفي الوقت نفسه تكسبها هُويّتها الخاصة، وتحقق طموحها. فالعمل ليس فقط لكسب الرزق بقدر ما هو مصدر القوة الأساسية للحياة”. وبعد حديث مطوّل حول أساليب التنشئة الاجتماعية التي تحيل كل إنجاز إلى الصفات الوراثية إذا كان أنثوياً، وإلى الاجتهاد والعمل الدؤوب إذا كان ذكورياً، وقد استشهدت د. هايدي بدراسة أحد الباحثين على طلاب الصف الخامس من الجنسين، تقوم بإتمام مهام التحفيز التي تبنّتها تجاه كل امرأة، فتؤكد قائلة: “مهما كانت قدراتك، ومستوى ذكائك، وإبداعك، ومستوى ضبط النفس، والسحر أو الحماسة، الدراسات أكدت أن هذه الأمور طيّعة. عندما نتكلّم عن إتقان أي مهارة فخبرتك وجهدك والمثابرة هي أمور في غاية الأهمية. لذلك هذا وقت مناسب لطرد الاعتقادات الخاطئة حول مقدراتك، وتبني حقيقة أن المقدّرات تتحسن، واستعادة الثقة التي فقدتها منذ زمن طويل لمواجهة أي تحد”. فتنتهي من حيث بدأت بتحفيز نسوي قائلة: “أيتها المرأة المبدعة لا تتوقفي”.
وللختام بمسك، اقتبس من بين الحكم المتناثرة بين دفتي الكتاب، هذه التي تجعل من الكتب ثروة لا ينفد عطائها: “أنا أنظر إلى الكتب على إنها استثمار في التعليم للمستقبل بدلاً من لحظة عابرة تُنسى بسرعة”. وفي كلمة، هو كتاب مرح يستحق التصفح ولا يستغرق الوقت الطويل، وقد يثري حصيلة القارئ المعلوماتية بأخرى جديدة، فضلاً عن فوائده اللطيفة.
كتاب/ حديث العصافير: مقالات حبيسة الأدراج تنفست الصعداء
المؤلف/ أحمد البراك
دار النشر/ دار دريم بوك
الطبعة/ الأولى – 2017
…
مقالات في أروقة الأدب وأحوال القلوب ودروب الحياة
في هذا الكتاب القصير الذي ضمّنه الكاتب مجموعة مقالات تبعثرت في أدراج مكتبه المقفل حتى حين، يجده القارئ وقد تنقّل بين أروقة الأدب العربي وهو يسرح مع نسائم الحب المحلّقة بأصحابها، ويطرق في مسيره العذب هذا أبواب من الواقع المرّ لم يكن من مرّه بد! تتوقف تلك المقالات بين نبضات الكاتب، ليجود فيها من بعض خواطره، قد يجدها القارئ -وبشيء من العجب- تُشبه خواطره. يقول في ثنايا الكتاب: “لا تسألوا عقل الكاتب عن جفاف أفكاره، فما تقرؤونه ليست حروفاً ذات مدة صلاحية! هي أجزاء من قلبه قررت الذوبان، ولا زالت تسيل قطرة قطرة”.
يحمل الكتاب عنوان رهيف لمقالة ضمن مقالاته .. فبعد معسول الكلام عن العشق وأهله وأحوالهم، يخلص الكاتب إلى المغزى، فيحثّ الكلام على أن يكون كـ (حديث العصافير) .. فهي تتحدث طوال الوقت، لكن لكل حرف تنطقه معنى، وللحديث هدف، ولبدايته ونهايته حدود معلومة. وقد صدق الكاتب فيما اعتنق فوضع كتابه، وجاء اختيار العنوان -من ضمن المقالات المعنونة فيه- موفقاً، وهو يُهديه إلى المنكسرة قلوبهم في الأرض .. أولئك الذين آثروا الصمت وقد كُسرت أحلامهم! وكمتيمة بالعصفور وحديثه الغرّيد، وبما أن المقالة بدأت بوَلَه المحبين وخُتمت بحديث العصافير، ولئن الشيء بالشيء يُذكر، استحضر حكاية في الموروث يذكرها البيهقي عن سليمان بن داوود عليه السلام عن عصفور يرفرف حول عصفورة: “… فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول؟ قالوا: وما يقول يا نبي الله؟ قال: يخطبها لنفسه ويقول: تزوجيني أسكنك أي قصور دمشق شئت. قال سليمان: وأنه عرف أن قصور دمشق مبنية بالصخر لا يقدر أن يسكنها، لكن كل خاطب كذاب”.
يقدّم الكاتب نفسه في مقدمته ليتحدث مع القارئ “صديق الهواية المشتركة”، حيث يعتقد أن كل قارئ لا بد وأن يحمل في داخله “أديب صغير” .. وليكبر، عليه أن يتمرّس على الانفتاح في المخاطبة والحوار، ويغوص صامتاً في أعماقه، ليستنبط مما يقرأ حديث آخر. وعن الكاتب .. وكما يتداخل الليل والنهار ليُسفر عن شفق، ويتداخل يسار المخ المنطقي بالأيمن الإبداعي فتصدح الموسيقى، كذلك، امتهن الكاتب الكويتي الرياضيات وهوى الأدب، فجاد بأحاديث يرويها في كتابه الأول هذا. لذا، تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الأولى الصادرة منه عام 2017 عن دار دريم بوك، وهي تحتوي على بعض الاقتباسات بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
في موضوع (أنانية البشر)، يطلق الآدمي لشطحاته العنان في تصوّر نعيمه وحده في الجنة، بين الأنهار والفواكه والطيور والقصور والنمارق والكواعب والولدان، بينما زيارة الأخلاء والتسامر مع الأصحاب وإقامة محافل شكر النعم …، لا نصيب لها في تلك الشطحات! أهي أنانية متأصلة كما يرى الكاتب؟ أم أن كل من أولئك قد علم مسبقاً بما سيشترك به والآخرين من نعيم فلا يجد داعٍ لذكره؟ أم أنه اكتفى بمخالطتهم في الدنيا، فلا مكان لهم عنده في الآخرة؟. وفي مقالة (تجزئة القدوة) التي تليها، يرى الكاتب أن (تجديد) القدوة أمر صحي، فكوكبنا يحمل سبعة مليارات إنسي، قد يجد أحدنا قدوته بين أبسطهم، وهو يستطيع أيضاً التنقل بينهم كلما تفاضلوا. وكما بدأ الكاتب موضوعه بالسؤال عن القدوة، والذي كثيراً ما يُطرح والذي قد يتردد المرء في الإجابة عنه إلا بعد حين، تأتي الإجابة اللافورية لتنم عن عدم وجود قدوة حقيقية -كما أعتقد- كما أن القدوة لا يجب أن يكون تمثالاً من ذهب، فيتحطم في ناظر من اتخذه قدوة مع أول مثلبة يجدها فيه.
ينعى الكاتب نفسه والقوم وهو يتساءل في مقالة (كيف سقطت الأندلس؟)، إلا أنه يمتنع عن الاستزادة في نبش التاريخ وفتق الجروح! فهموم اليوم تكفي للطم الجيوب وسمل العيون .. وهو في مقالة (حضارات) وبقدر ما يثير من إعجاب بحضارات على كوكب نسكنه، بقدر ما يثير من الشجن على حضارة عربية-إسلامية، شعت لتنطفئ .. ولعلها تعود!. وهنا، يتطرق الكاتب إلى حوار دار بينه وبين جمع من العرب في جلسة خاصة، تباهى فيها فرعون مصري على بابلي حد النخاع على شامي أموي على بربري أفريقي على آخر حضرمي أصّل للعرب أجمعين، وقد استعانوا به ليكون حكماً منصفاً في الحديث عن تلك الحضارات الراقية، التي عملت على تأسيس قواعد حضارية ضخمة شيدت فوقها أمجاد الأمم القائمة حالياً، وقد اعتبر نفسه مزيجاً من تلك الحضارات التي تشرّبها منذ الصغر، فقال: “ليس مهماً أن تكون من بلد سادت حضارته الأفق! فالحضارة العثمانية في تركيا والتي امتدت إلى العراق طيلة أربعة قرون كانت في وقتها تمثّل أمل الشعوب الطامحة إلى مستقبل أفضل، ولكن ضعفت شوكتها، وكثرة الرشاوي والفساد أدى إلى انهيار تلك الحضارة الرائعة! ولن أنكر أن بلاد الشام كانت في فترة ما قبلة المسلمين إبان العصر الأموي، وكانت فتوحات المسلمين حينها تنذر بأن الإسلام سيقف على قمة هرم الشعوب لوقت طويل”. وعلى ما يبدو، لم يرق حكم الكاتب للقوم كما أوضح في خاتمة مقاله، فتولوا عنه مدبرين يديرون أحاديثهم بعيداً عنه، ولسان كل واحد منهم يغني على ليلاه قائلاً: “يصطفلوا / بصرهم / ما يشوفون شر / بكيفهم عيني / في ستين داهية / لا فزيت”.
في ومضة (علمني أفريقي)، تنطفأ عين القارئة عندما تقع على حكمة خسارة العمر في امرأة عبوس تزوجها ذاك الأفريقي المغدور ليصاب قلبه في مقتل، كمداً أبدياً وحزنا .. غير أن الكاتب يعود ويصيب كبد الحقيقة عندما وصم قبيح الأفعال بـ (الرجولة المقنعة)، وخصوصاً في ممارساتها ضد المرأة وهي تمثّل نصف المجتمع! فالحرام يختلط بالحلال، وتعدد القلوب يقابلها تعدد الأكاذيب، والمودة والرحمة استُبدلت بتنفيس عن شهوات مكبوتة وحسب .. غير أن تقوى الله يبقى دائماً وأبداً الحل الأمثل. يخلص الكاتب -الذي تعلّم الرياضيات- في مقالة (أهم دقيقة) إلى حقيقة أن (واحد جمع واحد) ليست بالضرورة تنتهي بـ (اثنان) .. نعم وبكل تأكيد! فهناك غلطة بألف، وكلمة عن جوامع الكلم، وامرأة عن عشرة نسوة. لكن الكاتب لا يكتفي على ما يبدو، فيعترف على لسان معشر الرجال في موضوع (الكويت-إيطاليا-الكويت) قائلاً: “أننا لا نبالي كثيرا بدموع أنثى تعشقنا” وقد اعتبرها مزيّة، لكنهم يخشون من قرار نهائي عليهم اتخاذه مرغمين، يكونون فيه هم الخاسرون ولا تنفعهم حينها المكابرة! فيقول بصيغة الـ (أنا): “ولكني أعود محملاً بكميات لا بأس بها من الحنين، سأرميه تحت أقدامها، وأعتذر عن الرحيل، وأقدم لها باقة من حب ستقبّلها وتقبلها ونعود لوضعنا الطبيعي، مركوم مع العمل المتعب، وهي التي ستتولى مسألة إراحتي”. هكذا على مذهب “وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا” .. إذ يشرّق أحدهم ويغرّب ليعود تحت أقدامها في نهاية المطاف، طالباً العفو والغفران.
وفي متفرّقات، يومض قلب الكاتب في ومضة (جرأة) ليفرّق فيها بين قول الحق وبين وقاحة المقال، إذ يقول: “الجرأة لا تعني أن تكون وقحاً، بل أن تكون منصفاً، وأن تقولها بصوت عال” .. وفي ومضة (معلمتي الوردة) التي بدت مكتفية بذاتها ومتصالحة مع الطبيعة، يقول: “يعجبني في الوردة كثير من الصفات .. فهي صامتة، والصمت أبلغ من الكلام أحياناً .. شامخة، لا تخفض هامتها لأي كان .. جميلة، تعجب كل من رآها .. ملونة، تسرق الأنظار وتبهر العقول .. مليكة الغنج، تتمايل مع نسائم الهواء بدلال .. راقية، لا تهتم بمن حولها لتكون ذات جاذبية .. ألا يكفي أن النحل يصنع العسل من رحيقها؟” .. وعن الغربة التي لم يجدها فقط في البعد عن الأوطان، بل في سُكنى الروح، يقول في ومضة (ذاكرتنا المرتحلة): “الغربة .. اكتشاف صوت صمتك! عندما تستمع إلى نفسك كثيراً وتبدأ بالتيقن أنك لن تجد أحداً يسمعك إلّاك”.
إن من استعظم شامخاً شأن عقله في زنة الأمور بإحكام وعمد إلى وطء نبضات قلبه بقدميه، ظاناً أنه في هذا الجمود ثابت على صراط مستقيم، هو في حقيقته خاسراً للحب خسراناً مبينا! بهذا المعنى يفتتح الكاتب مقالة (تبارك)، فيقول في قول حكيم لا يعبّر سوى عن الإنسان: “المتتبع لنبضه، والمتحكم بعقله، والمطمئن على نفسه، أولئك الذين لم يجربوا الحب قط (وأولئك هم الخاسرون) .. ونحن الذين خلقنا ضعفاء مجبولين على فطرة الحب، فتتوه في الشوق نبضاتنا، ونفقد في لحظات الوصل الدافئ عقولنا، ونشك في أنفسنا كثيراً، ونسقط في هوة الهوى! أراك في زاوية جنوني وألحق ظلالك، فلا النفس الأمارة بالهوى تهدأ، ولا العين اليتيمة تبكي ثكلى أحلامها التي ارتبطت بك، ورفيقك صامد بين سماء لا نور بها وأرض لا مستقر لها”.
وأختم بومضة (فرح) التي أوصى الكاتب فيها بحُسن استقبال ذلك البريق الخافت من السعادة الذي قد يفاجئ أحدنا في صباحه، فهو البريق الذي سيتسع مداه ويصبح شلال النور الذي يغمر بقية اليوم. يقول: “عندما تجد في صباحك بعضاً من السعادة، تعلّق في ستارتها جيداً ولا تفلت أطرافها، فهي سبيلك للفرح بقية اليوم”.
أخيراً أقول: إنه كتاب يرقّ معه الحديث .. فتستمر العصافير بأحاديثها، ولنستمر نحن بالإنصات لها .. والتبصر.
كتاب يعبق بذكريات وأطياف ومشاعر دافئة، بثّها الكاتب وهو يسترجع من ذاكرته ملامح مدينة بغداد في ستينيات القرن الماضي، حينما كان يومها طفلاً يلهو بين طرقاتها، ويستشعر بساطة الحي وألفة الجيران ودفء البيوت ولفح الأجواء وعراقة التاريخ، وهو يتطرّق إلى تفاصيل الحياة في المدينة العتيقة التي كانت آسرة بالمباني والعمارات والأنصبة التي صممها مهندسون أجانب إلى جانب مهندسين عراقيين آنذاك .. وهي المدينة التي جمعت التناقض على الناصيتين! فبينما تمسّكت هنا بالقيم المحافظة وفضائل الأخلاق، وحافظت على تأدية طقوس العبادات وإقامة شعائر الدين في المساجد والحسينيات، لاحت من هناك مباني السينما ودور الكتب والمقاهي الشعبية التي كانت تحتفي بحوارات المثقفين فيما بينهم، وترصد كذلك تسكّع من لا عمل لهم، في الوقت الذي اصطفت فيه على الناحية الأخرى بارات الخمور ومراقص السهرات وبيوت الدعارة، لا سيما في الطرق الجانبية أو الخلفية للمدينة. لا يغفل الكاتب عن عرض جانب من الصراع الذي شهدته المدينة في تحولّها من الماضي إلى الحاضر والذي حمل بطبيعة الحال قيّماً مستجّدة تختلف عن تلك التي شكّلت نموذجاً حراً عُرفت به المدينة، والتي ما لبثت حتى استسلمت لجديد الحاضر وانزوى عنها ما قد مضى من عراقة!
يؤرخ لهذا التراث العريق الأديب والمترجم العراقي جمال حيدر، والذي تنقل عنه شبكة المعلومات مولده في مدينة بغداد، والتي غادرها في سبعينيات القرن الماضي إثر ما تعرض له حزب اليسار الشيوعي في العراق من صراعات سياسية آنذاك. يستقر حالياً في مدينة لندن بعد تنقّله في عدة مدن، وهو حاصل على درجة الماجستير في العلوم السياسية، ويتوزع إنتاجه بين النقد وأدب الرواية وأدب الرحلة، بالإضافة إلى أعماله الأخرى في الترجمة. أما غلاف الكتاب، فقد ازدان بصورة تعبيرية للفنان التشكيلي العراقي د. خالد القصاب، والذي هو -للمفارقة- طبيب حاصل على زمالة الجراحة من إحدى معاهد نيويورك، وعلى درجة الأستاذية في كلية الطب بجامعة بغداد، بالإضافة إلى عضويته كمؤسس لجمعية الفنانين التشكيليين العراقيين.
يرسم الكاتب ملامح مدينته العريقة في ستة فصول تنتهي بمعرض للصور، والتي أقتطف بدوري من ملامحها ما أبثّه في هذه المراجعة، والتي تعتمد على الطبعة الأولى للكتاب الصادرة عام 2002 عن المركز الثقافي العربي، وهي تحتوي على بعض الاقتباسات بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
إثر الاحتلال البريطاني الذي جاء ذكره في (الفصل الأول: أحياء)، تتقسّم مدينة بغداد إلى ما يقرب المائة محلّة، وقد كانت مقسّمة من ذي قبل إلى ألف مما كان يعرف بـ (العكد)، حيث تنوعت أسماءها بأسماء الشخصيات البارزة فيها آنذاك، أو العوائل الأولى التي استوطنتها، أو أضرحة الأولياء ومراقدهم. فمن الأحياء التي انحصرت في جانب الرصافة، بين الأعظمية والكرادة: (باب الآغا، الحيدرخانة، صبابيغ الآل، الصابونجية، سوق حنون، فضوة عرب، أبو سيفين، خان لاوند). وبعد الحديث عن (الحيدرخانة) وجامعه الذي كان يمثّل برلماناً شعبياً، و (الصرافية) المرتبط في الذاكرة بالجسر الحديدي، و (باب الشيخ) الذي يستيقظ على نداءات الباعة وصخب السوق، و (مرقد الشيخ عبدالقادر الكيلاني) ومزارات السياح إليه وتطفّل الباعة عليهم، و (سوق الشواكة) ولسع روائح التوابل المختلطة بالريحان، و (خان السمك) المحاصر بأعين الأسماك البرّاقة، و (خان اللحم) المقدّرة لحومه مالياً بما تملكه النساء في محافظهن الجلدية الصغيرة، يقول الكاتب في نبرة أسى: “ومنذ منتصف الستينات وقبله بقليل، امتد العمران الحديث ليقضم أطراف المدينة وبساتينها. طال التشويه ذاكرة الأحياء البغدادية وتقاليدها، وانتشرت ظاهرة تشييد العمارات والشقق السكنية، فانبعثت أحياء جديدة انتفت فيها ملامح الحياة البغدادية، إذ أن ثمة اكتساحاً ديمغرافياً بلا هوية ساهم في خروج المدينة عن ذاتها، فولدت المدينة الحديثة، بيت إثر بيت، وشارع إثر شارع، حتى قامت مدينة مغايرة على تخوم المدينة القديمة وماضيها”.
أما (الفصل الثاني: أسواق)، فيؤكد بأن تاريخ مدينة بغداد هو في الأصل تاريخ أسواقها، حيث كانت موقعاً لأسواق تقام شهرياً قبل أن يخطط لبنائها الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور. ولكل تجارة فيها سوق متكامل، فهناك سوق للفاكهة وسوق للأقمشة وسوق للقطن وسوق للأغنام وسوق للعطارة وسوق للصيارفة، و “على امتداد سوق البزازين تتكرر نسخة سوق شارع النهر، ولكن بصورة أقل بهرجة. إنها سوق الأحذية المجاورة للمدرسة المستنصرية .. أحذية نسائية بكعوب عالية معلقة في واجهات زجاجية بدائية. ألوان تجذب الانتباه وأسعار مناسبة لا تقسو على جيوب ذوي الدخل المحدود، الخاوية أساساً”. غير أن الحقيقة الماثلة تشهد على أن ما من “حي في بغداد من دون سوق طويلة تصل بين أطراف الازقة”، بل إن أسواق بغداد نفسها “شبيهة بالمتاهة، تبدأ مع كل نهاية، وتمتد لتحول أحياء بأكملها إلى أسواق، تتفرع منها الدروب والحارات”. ففي كل صباح، تتوافد عربات الخضار والفاكهة التي يحوطها الزبائن وهم ينتقون الأكثر نضجاً منها، بينما يستريح الشيوخ على البسط الملونة والمفروشة فوق (دكّات) المحال المتراصة، وحيث تعرض القرويات بضاعتهن الطازجة من أكوام (الكيمر) والزبدة والتمور، يظهرن مزهوات برنين خلاخيلهن الفضية رغم تلفعهّن بالسواد .. وكل ذلك “وسط تجاذب الكائنات الغارقة في ضجيج المكان بحثاً عن البضاعة الطازجة والأقل ثمناً، مستدعية طقوس المساومة المألوفة التي اعتادتها السوق”.
ومع الحديث عن شوارع بغداد في (الفصل الثالث: شوارع وميادين)، لا بد وأن يحتل الصدارة شارع الرشيد! “الرشيد .. شارع ملتو ذو أسماء متعددة، أول من يغفو بأنينه المكتوم على وسادة المساء، وأول من ينفض عنه بقايا النوم كل صباح. ومع انبلاج وهجه، خطف شارع الرشيد الأضواء عن أحياء بغداد القديمة، ليغدو مركز المدينة الحديث بمتاجره ومقاهيه باعتباره مسرحاً متحركاً لأحداث عدة”. فينقل الكاتب عن الرحالة أمين الريحاني وصفه للشارع أثناء العقد الثالث من القرن الماضي، بقوله: “أنه لشبيه بشارع في قرية أوروبية، والبلدة والمحلات الواقعة شرقاً منه، وإن كانت لا تتجاوز بمجملها المائة سنة، إلا أنها جد قديمة بما في ظاهرها، ولا يخلو بعض داخلها من ضيق الجادات واعوجاجها والتهدم فيها”. وفي الشارع، يقع محل (أحذية صادق محقق) الراقية، والتي تكاد قلوب زبائنه تقف وهم يحملقون في يافطة أسعارها المعروضة والباهظة بشكل مبالغ فيه. وهناك أيضاً شارع المتنبي العريق في تاريخه وشهرته في تجارة بيع الكتب النادرة، والعمارة الأكثر علوّاً في بغداد ذات السبعة طوابق التي تنتصب في شارع البنوك، وشربت الزبيب في سوق الهرج الذي يرافقه عادة طبق الجبن الأبيض.
أما (الفصل الرابع: المقاهي)، فيسكب حديثاً ذو نكهة مختلفة. فكما تعكس المقاهي عادة جانباً مهماً في ثقافة أي بلد، فقد “تركت مقاهي بغداد بصماتها الماثلة على الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية وتطوراتها، بعدما غدت ملتقى الأدباء والمفكرين والسياسيين، واحتلت كل منها مجالاً خاصاً بها”. لم يقتصر الأمر على البعد الحضاري، بل كانت المقاهي في حد ذاتها تُضفي من جمال التصميم ما يبرز الهوية ويستقطب العامة، إذ أن “مقاهي بغداد عادة ما تشعرك بالانتماء الى العامة: سجادات مزركشة وغلايات مطلية بلون الذهب، مرايا ضخمة، مراوح سقفية تدور بتواصل، ولوحات قديمة تكاد تخرج من إطارها، في حين تزدان واجهة بعض المقاهي الشعبية بالآلات الموسيقية النحاسية التي تومض في عيون المارة وهي في انتظار المناسبة الخاصة بها”. وكما تنوعت أسواق بغداد، تنوعت المقاهي باختلاف الأذواق والأمزجة والاهتمامات، فـ (مقهى أم كلثوم) كان يستقطب بمدخله الضيق عشاق كوكب الشرق، وهي تصدح بأغاني تهتز لها الرؤوس طرباً، بين كسير حب فاشل، وحالم في حب جديد، ومتطفلين بينهما. أما (مقهى الشابندر) والذي يُنسب إلى أسرة الشابندر، فقد كان ملتقى مرموق للشخصيات البارزة من السياسيين والمثقفين، والذي شهد تأسيس أول اتحاد للأدباء العراقيين، غير أن (مقهى البلابل) الواقع في محلة البارودية، فقد كان عذباً بما يكفي وهو يستقطب روّاده من هواة الطيور، ويحتوي حديثهم حول أصنافها وأقفاصها وطرق صناعتها، والذي استمر في خدمته حتى مطلع الخمسينات من القرن الماضي.
ثم ينساب الحديث أكثر عذوبة في (الفصل الخامس: دجلة). إن الماء صانع الأحلام والمدن العظيمة، وهو مكمن الأسرار وراوي حكايات من عاش بقربه .. لذا، تجود قريحة الكاتب وهو يحدّث في سحر النهر، قائلاً: “ليس من أحلام دون ماء، وليس من مدن عظيمة دون أنهار تسري في جوف تاريخها. وبغداد مدينة تغفو على جريان دجلة الوئيد، وتحيا مواسمها مع دورانه حولها. يجري النهر منذ عهود طويلة نحو نهايته الأزلية بهدوء ساهماً يحدق في الأشياء المتناثرة حول شواطئه، مكتشفاً مكامنها السرية وحاملاً حكاياتها، ويتغلغل ببراءة في علاقات ناسها”. إن هذا النهر يثير دهشة الطفل المترقّب وسط حياة متقلّبة، في وسطه الذي يحتضن القوارب الصغيرة، وفي موجه الذي يُطفئ ما أشعله الهدير بين ضفتيه .. إنه هكذا “يدهش هدوء النهر وجريانه الانسيابي ذلك الطفل المحاصر بالتبدلات والتقلبات والوعود. تتهادى القوارب الصغيرة الملونة والمتجولة بين ضفتي دجلة بروح تائهة، وتنفذ إلى روحه .. توقد شموع الخضر ثانية في عينيه بعد ان تطفئها الموجات الصغيرة العابثة”. وليس النهر في مكنون سره وسحره وحده، بل هناك على ضفتيه تحتفي الحياة بعمارة وحضارة ومدنية، حيث “تطل على ضفتي النهر بيوت تختفي خلف شرفات خرافية! أفاريز وأعمدة ونقوش تصنع تلك الشناشيل المطلة على واجهة النهر. والشناشيل مفردة فارسية تعني المقصورة، كون الشناشيل في بنائها الاساسي تمثلت بمقصورات ثم حورت إلى شرفة بمنزل مطلة تسافر بالعين خارج حدود المنزل”. ولأهمية النهر، بُعد يرتبط وجدانياً في علاقته بالمدينة وساكنيها، فقد “كانت لعمارة النهر والأبنية المقامة على ضفاف دجلة أهمية خاصة تبرز من خلال اهتمام المعماري بانفتاح المبنى على جبهة النهر أولاً، وانفتاح المدينة ذاتها على النهر، لما يوفره هذا الانفتاح من عوامل اجتماعية ومناخية ترتبط بعلاقة المدينة والناس بالنهر”.
ويختم (الفصل السادس: طقوس) حديث الكاتب الساهر. ففي نهار (رمضان) يموج الشارع بحركة الذاهبين والآيبين نحو إقامة الصلوات في الجوامع، حتى إذا ما اقترب موعد الإفطار قام البيت على قدم وساق في تجهيز المائدة بالأطباق الشعبية من “الحساء والتمر والفجل والشربت والزلابية والبقلاوة والمحلبي”، بينما يتجمّع الرجال بعد الإفطار إما في الجوامع أو التكايا أو المقاهي حتى يحين الليل، وهو يردد صدى إيقاع الطبّال في الأزقة لإيقاظ النائمين والاستعداد ليوم رمضاني جديد. وبعد أهزوجة الأطفال (المحية) في الأزقة وهم يطرقون الأبواب وينشدون “ماجينة يا ماجينة” طلباً لحفنة حلويات يخبئونها في أكياسهم المصنوعة من القماش، يهلّ (العيد)، حيث “يبدأ فجر العيد بالتكبير الصادح من المساجد القريبة: الله أكبر الله أكبر ولله الحمد. حشد من الأصوات تهلل وراء المايكرفون، نغمات احتفالية تأتي بعد آذان الفجر، جلبة خفيفة للمصلين وهم في طريقهم إلى المساجد للصلاة، نساء متشحات بالسواد ينطلقن نحو المقابر، شواهد بيض على مرمى البصر وحشائش مصفرة تغطي حواف القبور، قارئو القرآن يتقافزون بين الزائرين بحثاً عن رزق، وعجائز يبكين ماضيهن! كم من الأموات استقبلت بغداد؟”. وفي (عاشوراء) تنصب مجالس العزاء وتُتلى ترانيم الحزن، وهو “حافل بكل تفاصيل الفاجعة التي ألمت بالحسين وصحبه في واقعة الطف”. وفي (مدارس) بغداد العتيقة، تتبعثر الذكرى بين الطبشور الأبيض وبائعي الشطائر عند بوابة المدرسة وإرهاق اليوم الدراسي الأول، و “أساتذة قساة بوقار مصطنع ترافقهم عصيهم الخاصة، وآخرون أقل رهبة”. وفي (دورة السنة) تُحمل صينية الشموع للاحتفال بعيد نوروز مطلع العام الجديد حسب التقويم الفارسي، أو كطقس موروث عن العباسيين، أو كما “يقرنه البعض باحتفالات البابليين بقدوم الربيع في مطلع الثلث الثاني من آذار”. أما (الكسلات) فتشهد احتفالاً صاخباً هارباً من رتابة الحياة بين رقص وأهازيج، حيث يمضي البغادة “نحو أمكنة احتفظت على مدى طويل بسحر غامض ملفع بالألفة”. ثم تأتي طقوس (الختان) التي تُعد بمثابة مناسبة سعيدة، تزغرد لها النساء، وتُدق لإتمامها الطبول، ويتهافت فيها الأطفال لجمع الحلويات المنثورة فوق رأس من حان وقت طهوره، بينما هو يقطر دماً ويبكي حرقة .. “طقس أخاذ ملفع بالألم”.
وأخيراً، يأتي (معرض الصور) كالألبوم القديم، الذي ما أن تُقلّب صوره تُقلّب الذاكرة لاستعادة ماضي أجمل ما يُقال فيه أنه رسم طريق الحاضر والمستقبل الموعود. فيبدو (شارع المصارف) من التنظيم ما يعكس أهمية من يرتاده، و (شارع أبو نؤاس) متلألأ في بانوراما ليلية كليالي السحر التي قضاها الشاعر الماجن، و (نصب الجندي المجهول) مهيباً زاده الليل هيبة، و (بائعة) تكتسح ببضاعتها زقاق في بغداد على حساب بائعين آخرين يجلسان على الطرف، و (فندق بغداد) من الجمال وكأنه يرتدي حلّة أوروبية، و (كنيسة اللاتين) يكسوها إجلال وهي في جانب الرصافة، و (ساحة السباع) تحاكي بهو السباع في حمراء غرناطة، و (نصب الأم) في حديقة الأمة يجسد عظمة الأمومة وإبداع ناحته، و (الجسر المعلق) في بغداد تتعلق فيه الأمنيات الملقاة أسفاً في النهر، و جانب من (المدرسة المستنصرية) والإبداع المعماري الأخاذ في منظره، و (واجهة علوية) من منزل بغدادي، تزيّنها ابتسامة وجه بريء يطل منها على المستقبل.
قد تتسع التصنيفات التي تلائم مادة الكتاب، بين: التاريخ، الحضارة، أدب الرحلة، السير الذاتية .. ورغم كثرة الصور البلاغية التي وردت فيه وعملت على تشتيت الذهن قليلاً، إلا أنها أضفت بشكل عام عذوبة مختلفة في استحضار الماضي الذي لا بد وأن يستمطر من ديوان الحنين كلماته وأبياته وشاعريته.
وكمسك للختام أقول: لقد تجولتُ في الكتاب بشوق وكأن المدينة الساحرة قد توغلت في روحي فتلبّستْ روحي شكل المدينة! وجدتني وكأنني قد ولجتُ العقول وارتقيتُ عتبات الأبواب وفتحتُ بكفيّ ثغوراً أخرى في طرقاتها .. راقبتُها في غفوتها ورافقتُها في صحوها، وطربتُ لزهوها وتألمتُ لهمّها، وتنشّقتُ الأصالة في نهرها وقرأتُ التاريخ في معمارها .. وعشقتُ الناس والأسماء والمحال والأسواق والمقاهي والأغاني والأهازيج والأصوات .. وما فككتُ بعد طلاسم ما أسرني من سحرها.
ولمدينة السلام أرقى التحية والسلام .. مع خالص الود.
ومن على رف (الأدب) في مكتبتي، أنقل طرفاً مما قرأت ومما كتبت:
في كتاب/ اخرج في موعد مع فتاة تحب الكتابة:
قرأت:
“هنالك العديد من الأشخاص الموتى. إنه لمكان مزدحم. سترى بيتهوفن وشكسبير وهتلر، آه إنها عائلة بأكملها. ولكن، لحسن الحظ، لست بحاجة للذهاب إلى الجنة لتتحدث مع هؤلاء. العديد منهم تركوا لنا أعمالاً رائعة على الورق. كلمات مدهشة، موسيقى جميلة، ترن ويتردد صداها للأبد”.
وكتبت:
ولأنني أعشق القراءة -والتي قد تقودني يوماً ما إلى الكتابة- شمرّت عن ذراعي لقراءة كتاب معنون بوصف لفتاة تشبهني!. وقد خاب ظني!!.. فهو كتاب في مجمله عبارة عن مقالات متفرقة، كتبها عدد من الأدباء والمفكرين العالميين في مواضيع شتى، كالحب والكتابة والمعاناة، إلى جانب من سيرهم الذاتية. وفي إحدى المقالات مجهولة الكاتب، يتحدث صاحبها بسطحية عن فتاة كان يواعدها (قذرة المنظر، ملطخة بالحبر والرصاص، وتفوح منها رائحة القهوة) .. تهوى الكتابة! و قد احتلت (يا وعدي) عنوان الكتاب!. قد تكون هذه (حركة) ترويجية في استمالة القرّاء وزيادة نسبة المبيعات، لما يحمله العنوان من طاقة جذب خاصة!
? ? ?
في كتاب/ السياسة والحيلة عند العرب: رقائق الحلل في دقائق الحيل:
راق لي الحديث عن العقل وفضله في الباب الأول على لسان عدد من الحكماء! ففي حين يعتقد أحدهم بتوءمة العقل والحياء، يرى سقراط أن العقل يضيء الليل بينما يُظلم النهار مع الجهل. أما سوماخش فقد أصاب حين استعان بعلم الاقتصاد ورأى كل شيء يبخس ثمنه إذا كثر، ما عدا العقل. ويؤكد أردشير هذا المعنى حين اعتقد أن الحرمان من العقل هو حرمان من كل شيء. غير أن هرمس لم يخطأ عندما ميّز الرجل بعقله لا بوضعه وبحكمته لا بمظهره.
? ? ?
في كتاب/ الآتي من الزمان أسوأ: تأملات ومقالات:
قرأت:
“إحقاقاً للحق، لا توجد دماء تمت المتاجرة بها، أو خيانتها، أو سحقها أكثر من دماء القتلى الذين يتم التذرع بمجدهم وبذكراهم، بنبرة تهديد لفرض صمت على القضية التي قتلوا من أجلها. وبناء عليه يكون إقرار الإفلات من العقاب لصالح من ألقوا بهم إلى الموت”.
وكتبت:
وفجأة، يصبح لدماء القتلى قدسية لا تمُسّ، تجهض أي محاولة للثأر أو الانتصار لحق “الراقدين هناك للأبد”، إذ يوصم رد الاعتبار بالغباء وفي إدانة الظلم كذلك.
? ? ?
في كتاب/ حديث الصباح:
قرأت:
“العباءة السوداء ليس بالضرورة أن تحتها امرأة فاضلة، واللحية الطويلة تغدو زي عمل أحياناً. هناك عصاة يحبون الله ورسوله أكثر من دعاة كثر تعرفونهم، ولكنهم لم يجدوا من يأخذ بأيديهم إلى الله، ولكن الدعاة فُتحت لهم المنابر وشاشات التلفزة“.
وكتبت:
لا عجب إذاً ألا يظهر النفاق في مكة حيث كان الإيمان اختياراً يجابه به المؤمن مجتمعاً بأكمله، كبلال الذي عُذّب على الملأ، في حين أن المصلحة السياسية كانت محل اعتبار عند أهل المدينة، كابن سلول الذي كان يصلي الفجر في المسجد.