BOOK0724
الكتاب
الزهر الأنيق
المؤلف
المترجم/المحقق
د. فرج الحوار
دار النشر
الدار المتوسطة للنشر
الطبعة
(1) 2021
عدد الصفحات
320
النوع
ورقي
تاريخ القراءة
10/16/2025
التصنيف
الموضوع
حين يحيض الذكر لغته

الزهر الأنيق

هنا شيء يستقذر منه العهر في ذاته ويتقزز تقززاً عظيما!

إنه أحد كتب التراث العربي في الإيروتيكا، يعود للقرن التاسع الهجري، وقد كتبه مؤلفه المجهول على طريقة (الماجريات) كما جرى وحدث من وقائع وأخبار، وذلك نقلاً عن مخطوطته الأصلية التي ليست بحوزة العرب، بل تقبع في المكتبة الوطنية الفرنسية بباريس، حيث يأتي عنوانه الفرعي صارخاً: (في البوس والتعنيق، والهيج والشهيق، ومخالفة الزوج ومطاوعة العشيق).

لم أتمكن من إتمام قراءته، حيث توقفت عند منتصفه وأتيت على ما تبقى منه مسحاً، لا لجرأة مادته -فلا مانع إن كانت علمية فكرية ثقافية- بل للفحش الذي تلبّسه .. فحش للفحش نفسه لا لأي غرض آخر! لقد وددت لو انقلب الفجور على نفسه مع استمرار القراءة، لكنني وجدته آخذاً في الزيادة مع جري (الماجريات)، بل وظل يغوص في أوحال المكر الذكوري!

إن ذلك مما يصول ويجول في المخيال الذكوري العربي لا سيما التراثي منه، وإن الذكر العربي لما أصابه من شبق مستعر طال حتى تفاسير القرآن الكريم في وصف ماجن فاحش للحور العين، قد أعمل إسقاطاته النفسية على المرأة بما فطرها الله من عفة، غيرة وحسداً، من أي ملة كانت أو دين أو عرق أو ثقافة، فكيف الحال بالمرأة المسلمة وقد جرت (الماجريات) الخمس والعشرون الذي جاء بهن الكتاب عليها!؟

لهذا وأمثاله أقول: أحسن الله عزائك في نسائك وأولهم أمك! ألسن ضمن النسوة العربيات الشبقات الخائنات بالضرورة؟ أم أن ازدواجية الذكر العربي ستستعرّ الآن -لا شبقاً بل حميةً- وتستثني شرفهن دوناً عن بقية النسوة؟

ألا تباً وسحقاً.

لن أدع الكتاب يمرّ مرور الكرام وقد أتيت على مادته، حيث يأتي في (تقديم الكتاب) الذي خطّه (د. فرج الحوار) هذا الرأي السديد: والكتاب، بالنظر إلى مضمونه، لا يشذ عن الأدبيات الشائعة في زمانه، في إطار الثقافة العربية الإسلامية وفي غيرها من ثقافات الأمم في العصر الوسيط، التي تتضمن ترسانة ضخمة من الآثار والأخبار والمواعظ والحكم والأمثال والقصص المثلية والحكايات الهزلية، وكلها تكرس دونية المرأة، وتقضى بناء على ذلك على ضرورة ازدرائها والتحرّز من شرورها بالتضييق عليها في سلوكها وحركاتها وسكناتها. والسبب في ذلك أن الكتاب، وما أشبهه من كتب المتقدمين والمتأخرين يصدر عن ذهنية قضيبية معادية للمرأة، لا تدين المرأة المسلمة وحدها، بل تتعدى ذلك إلى إدانة المرأة اليهودية والمسيحية الشرقيتين، وجنس النساء بصورة عامة باعتباره يمثل آفة كونية وخطراً داهماً يتهددان جنس الرجال والمؤسسة الزوجية، والمنظومة الأخلاقية التي تنهض عليها.
والفكرة التي تترسب في ذهن قارئ هذا الكتاب هي أن المرأة كائن شبقي محكوم بنوازعه الجنسية المشطّة، فهو لذلك لا يستنكف من اقتراف كلّ التجاوزات والانتهاكات والفضائح. والكتاب يحلّ الرّجل عامة، والزوج بصورة خاصة، محل الضحية المميزة لهذا الكائن الشيطاني المجبول على الشر. والحقيقة أن هذه الصورة النمطية التي تشيطن المرأة وتحملها وحدها وزر المخالفات والموبقات التي لا يخلو منها مجتمع إنساني مهما كانت درجة استقامته وانضباطه، هي نفسها التي نعثر عليها في المأثورات الدينية الإسلامية، وفي مختلف المجاميع الأدبية والوعظية، وهي نفسها التي تعشش اليوم في ذهنية المسلم المعاصر، وفي عقله الباطن، وتفسر إلى حد بعيد الإعتداءات الفاحشة التي تتعرض لها المرأة بتأثير من الشحن الإسلاموي المطرد في مختلف المجتمعات العربية الإسلامية الواقعة تحت هيمنة هذا الفكر الكلياني السلطوي”.

لذا أقول تعقيباً:

إن عنوان الكتاب في حد ذاته أشبه بقنبلة أدبية مغبرة انفجرت من ركام التاريخ، تفوح منها رائحة ورق عتيق ممزوج بلا حياء بجرأة متبجحة! أما النص، فيمشي على حافة حادة بين الأدب والفحش، بين الوصف والوصية، بين الجسد بوصفه موضوعاً للذة والجسد بوصفه مرآة للسلطة الاجتماعية. لقد كتبه مؤلف مجهول، ولكن من الواضح أنه كان فقيهًا مطلعاً على الأدب واللغة، وإلا لما امتلك هذا الأسلوب الذي يختبئ فيه التهتك تحت عمامة البلاغة!

وبصرف النظر عن التهتك المشار إليه، قد يثير وجود المخطوطة الأصلية في المكتبة الوطنية الفرنسية سؤال جدلي حول انتهاء هذا الجزء الحميم من التراث العربي بين أيدي الأوروبيين! هل لأن العرب اعتادوا كبت أجسادهم بأقفال دينية وعُرفية فنفوا آدابهم الحسية، في حين تلقّفه أولئك ودأبوا على دراسته بوصفه وثيقة ثقافية؟ أم لأن العرب ببساطة خجلوا من مرآتهم حين عكست وجهاً يكرهون رؤيته؟

قد يتبلبل القارئ الجريء فكرياً وهو يقرأ هذا الكتاب! هل سيستمر في قراءته بعين المؤرخ الذي التي تتبع أثر الجسد في الثقافة العربية؟ أم بعين الناقد التي تراقب كيف يُستعمل الإغراء في خدمة البنية السلطوية الذكورية فيها؟ أم بعين المندهش التي تكتشف أن العيب لا يكمن في أم النص، بل في المجتمع الذي كتم أنفاسه؟ عني، فقد تشكّل لدي انطباعاً سيئاً عنه مع بداياته، حيث تجلّى هدفه واضحاً في إثبات حقيقة يؤمن بها قوم العرب، ألا وهي (خبث المرأة)، لا سيما في مكرها وتحايلها على الرجل، أو بالأحرى الزوج الذي يبدو دائماً في هيئة الحمل البريء، بينما هي تستعر شبقاً على الدوام وتسخّر عصارة حمضها النووي الماكر في إطفاء حرائقه مع من كان وبأي كان .. هكذا، فهي شبقة للشبق نفسه وماكرة للمكر نفسه، والذي عليه يأتي هذا الكتاب ليرسّخ حقيقة طبيعتها الخبيثة كما في مخيلة التراث العربية، والتي لا أعتقد أنها نُبذت في الوقت الحاضر، إذ لا تزال هذه النظرة الذكورية الموبوءة مصوّبة بحدة نحو المرأة!

على هذا، يُصبح جوهر العطب في هذا النوع من الكتب، لا في ألفاظه الخارجة عن كل حد، بل في نظام الخطاب الذي يخدمه .. خطابٌ يسخّر اللذة لتكريس الهيمنة، لا لتحريرها. وكنموذج حي، يُصبح هذا الكتاب – رغم طرافة مظهره ومجونه السافر- ليس نصاً عن الجنس بقدر ما هو نصّ عن السلطة! إنه يستخدم الجسد كمرآة للعقل الذكوري العربي في إحدى أكثر تجلياته مكراً، حيث يُخنَّث الرجل من حيث لا يدري، وهو يُخضع جسد المرأة لعينه ويجعله موضوعاً للرصد والتقويم، غير أنه في ذات الوقت يكشف هاجس الخوف الذي يسكنه منها، فالمرأة في هذه المخيلة ليست مجرّد كائنٍ خبيث، بل كائن يهدّد نظام السيطرة ذاته، ولذا لا يكفّ عن شيطنتها أو نسب كل مكر لها، كأنها إبليس بملامح حريرية.

من ناحية أخرى، يكاد نص الكتاب أن يجزم بأنه لا يصف المرأة في فراغ، بل يعيد إنتاج نموذجٍ مألوف في الأدب العربي الوسيط، حيث تُختزل المرأة إلى جسدٍ يُراد ترويضه، وذكاء ينبغي التحكّم فيه، وشهوة يجب فضحها لتبرير القمع الأخلاقي والاجتماعي! فما يفعله هذا النص ببساطة هو إضفاء شرعية ثقافية على الشهوة الذكورية تحت ستار (التحذير من النساء). إنه كذلك! نص يفضح نفسه دون أن يدري، لأنه يعري البنية النفسية التي أنتجته، ألا وهي: رجل يخاف المرأة فيكتب عنها ليُطفئ خوفه منها، لكنه لا يفعل سوى أن يزيدها سطوة في المخيال، إذ يجعلها المركز السري لكل حركة من حركاته.

يقود ما مضى من تحليل وتقريع إلى سؤال متفحّص لجوهر القضية: هل بالإمكان تصنيف هذا الكتاب -رغم قبحه المعلن- وثيقة أنثروبولوجية تكشف عن كيفية تعامل العقل العربي مع المرأة كرمز للغواية والخطر؟ أم أنه مجرد ترهّة أدبية مسمومة لا تستحق حتى التأويل؟ يستحق هذا السؤال رصد مادة الكتاب بروح مستكشفة لا مستسلمة، لذا قد لا يكون من بأس في قراءته حتى النهاية، لا بغرض التلذذ بفحشه، بل لرصد العقلية، والخيال، والأساليب البلاغية والتصورات الاجتماعية التي يحويه … بعد ذلك، يصبح بإمكان القارئ الغوص فيه بأسلوب (التشريح الفكري)، أي أن يحلل ما فيه: من انحياز، من تمثيل للذكورة والمرأة، من تصورات موروثة، ومن أوهام ثقافية تراكمت عبر القرون. رغم هذا، لا بد من تنويه: إن أثقل على القارئ فحشه أو وجده لم يعد يأتِ بفائدة تعليمية، فعليه ركنه كسجل تاريخي غريب وغامض، فوق رفّ التجارب الإنسانية الموبوءة. بكلمة واحدة: فليقرأ وليرصد وليحلل ثم يقرر مصيره، وبهذا، يبقى الكتاب أداة لا للترويح عن الشهوة، بل للوعي والفهم. عني، لم يحتمل ذوقي الرفيع هذا الانحدار اللفظي، ولم ترضَ روحي الصوفية أن تُلطَّخ بماء المجون المسكوب في صفحاته!

الحق، أن مثل هذا الكتاب ليس من الأدب في شيء، بل من الفضيحة الممنهجة، حيث كتبته ذهنية متورّطة في تصور شهواني للعالم، وتوهّمت أنها تُحلّل الطبيعة البشرية بينما كانت في الحقيقة تُبرّر خيبتها الأخلاقية. أمثاله أشبه بمكبّ نفايات لغوي، لا يُقرأ للفكر، بل يُفحَص كظاهرة اجتماعية نفسية عن مرآة لخيالات مكبوتة في زمن غارق في الخوف من الجسد ومن المرأة.

لا يزال فضولي النقدي يمنعني من السكوت! كم كان رخيصاً استعمال السجع والإيقاع في النص لتجميل القبح .. ذلك التناقض بين الأسلوب البديع والمضمون الفاحش هو بالذات ما يجعل مثل هذه النصوص تُدرَّس في تاريخ الأدب لا بوصفها أدباً، بل وثيقة على وعيٍ مريضٍ بالجمال. سأقولها بلا تردّد: لو كان النص إنساناً، لقلت إنه يضع الكحل على عيون الشهوة ليدّعي الأدب.

وقبل أن أسترسل في هجائه، لا بد من الإحاطة بأكثر مادته استفزازاً: هل الأسلوب؟ أم النظرة للمرأة؟ أم التلاعب بالتبرير الأخلاقي؟ إن ذلك يثير كل قلم سليط، ويشعل غضباً عارماً .. لا غضب كانفعال، بل كوعي ناري متّقد، يشبه ما قالته الأديبة والنسوية الإنجليزية فرجينيا وولف يوم أعلنت أن: (القلم الذكوري يكتب المرأة كما لو كانت مرآة تعكس صورته مكبّرة)! إن كل رد ببلاغته ولذعته، لا يُعتبر مجرد تعليق على كتاب، بل بيان أدبي أخلاقي ضد قرون من التواطؤ الذكوري في اللغة والرمز والتأويل. إن وصم الكتاب بـ “فحش للفحش نفسه لا لأي غرض آخر” يضرب في الصميم، لأن عملية الفضح الأدبي لم تأتِ ضد الإيروتيكا بحد ذاتها، بل ضد الفراغ القيمي الذي يتقنّع بالشهوة ويزعم أنه فن .. كما أن (العزاء في نسوة المؤلف المجهول) هو سهم بلاغي خارق يردّ الحجة بالحجة، ويكشف عن تلك الازدواجية القميئة التي تعفي نساءه من الوصم لتصبّ اللعنة على سائر النساء! ذلك هو بحق النفاق المتجذّر في الخطاب العربي التراثي: تمجيد الأم واحتقار الأنثى في آن واحد.

كم أشعر -قبل أن أضمّد هذا الجرح الأدبي- بأن ما سبق يستحق أن يكون نواة مقال نقديّ شرس بعنوان (حين يتقيأ الذكر لغته: قراءة في فحش المخيال التراثي) .. أو (الإيروتيكا حين تفقد معناها وتتحوّل إلى مرآة للعجز الذكوري). ورغم أنني أرى بأن مثل هذه النصوص يجب أن تُدرّس، لا لتُقرأ بشهوة بل لكشف الذهنية التي كتبتها، غير أنني أخشى -مع التكرار- من خطر التطبيع مع الفحش. وإن كان لا محالة، فلتكن (ندوة النار الهادئة) التي يقرأ فيها القارئ، لا ليستلذ، بل ليفضح النص وليفضح مؤلفه، لا انتقاماً بل لإعادة توازن، فمن لم يُعرِّ الفحش بلغة العقل سيبقى أسيره بلغة الجسد .. وليحرص على نزع لغته من مخالب الغريزة الفاسدة، وردّها إلى فضاء السؤال والأخلاق .. بكلمة واحدة: فليمارس النقد كفعل مقاومة لا كترف ثقافي.

ختاماً أقول: ولأنني أحرص على لقب (القارئة الموسوعية)، فأنا أضمّن تصنيف (الجندرية والجنسانية) ضمن خياراتي من الكتب، ورغم شدة حرصي على انتقاء مادته، بين علمية وفكرية وثقافية، عادة ما أتوجس خيفة عمّا قد يعرضه من جرأة أو إسفاف ….. وهكذا حصل للأسف مع كتاب الأزهار الفاحشة أو الأنيقة! أرجو أن يكون هذا توجساً نبيلاً يفرّق بين حدود الذوق والمعرفة معاً، ويدرك أن الجسد في الفكر الإنساني ليس باباً للشهوة فقط، بل مرآة لثقافة كاملة، وأن الانزلاق إلى فحش اللغة هو سقوط في وهدة الذهنية التي أراد النص أن يفضحها فاستسلم لها.

إن قراءة (الجندر والجنسانية) بوعي، لا تجعل من القارئ مجرد متلقي، بل شاهد على كيفية تمثيل السلطة في الجسد والخطاب، وما حدث مع (الزهر الأنيق) ليس تقززاً من الجسد، بقدر ما هو نفور من اللغة التي خانت جسدها وتورّطت في رغبات مريضة بدلاً من تلقي المعرفة الإنسانية. لذا، ليس للقارئ الناضج -حين يفتح كتاباً من هذا التصنيف- أن يبحث عن المتعة، بل عن كشف الآلية التي بها تُعاد صياغة المرأة كرمز للشهوة أو كموضوع للرغبة، لا كذات حرة فاعلة، وهذا ما يجعل القراءة، حتى في أحلك النصوص، عملاً من أعمال المقاومة الفكرية.

في كلمة أخيرة: ليست الجرأة في أن يكتب الكاتب عن الجسد، بل في أن يُنقذ الجسد من الابتذال.

ملاحظة: ومن مضحكات الكتاب ومبكياته، أن مؤلفه المجهول بدأ بموروث الحديث النبوي والصحابة، وانتهى بحمده تعالى والصلاة على رسوله والترضي عن صحابته، بعد أن فرغ -في شهر رمضان المعظّم- من تبيان حيل النساء والعياذ بالله منها .. مع طائفة من الحمد والتهليل والتسبيح والاستغفار والحوقلة والتوكل والتضرع وذكر الشهادتين!

 

= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =

نقلاً عن المفكرة: جاء تسلسل الكتاب (124) في قائمة طويلة جداً خصصتها لعام 2025، وقد حصلت عليه من معرض عام 2023 للكتاب ضمن (400) كتاب .. وهو رابع ما قرأت في أكتوبر ضمن (15) كتاب!

من فعاليات الشهر: كعادة كل عام، تتراكم الأعمال في خواتيمه، وأصبح وسطها، في سباق مع الزمن لاستدراك ما مضى من تقصير في خطة القراءة!

ومن الكتب التي قرأتها في هذا الشهر: الثقة: العيش بعفوية والإقبال على الحياة / لغز اختفاء أجاثا كريستي / عقل المرأة / من الجنس إلى الألوهة: الأديان وأسرارها

تسلسل الكتاب على المدونة: 724

تاريخ النشر: أكتوبر 19, 2025

عدد القراءات:111 قراءة

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *