BOOK0725
الكتاب
ماسنيون في بغداد
المؤلف
دار النشر
دار الرافدين للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة
(4) 2017
عدد الصفحات
338
النوع
ورقي
تاريخ القراءة
10/17/2025
التصنيف
الموضوع
خيوط الحلاج بين مستشرق ولغوي
درجة التقييم

ماسنيون في بغداد

كتاب في أدب المراسلات يحتضن روح البحث والمعرفة!

إنه صاخب في مقدمته التي أثقلها إطراء عظيم الشأن لبطله الأول المستشرق الفرنسي، وعبق الحلاج الذي أمدّه بطاقة صوفية أشبه بتناسخ أرواح لا تتشابه، لا مكاناً ولا زماناً ولا عرقاً ولا لغة .. وما كان من حاله مع رائد اللغة العربية العراقي، وقد تبادلا الرسائل بينهما، ووردت في الكتاب كما جاءت!

من ناحية أخرى .. أو بالأحرى من منظور صوفي أبعد بكثير، أجده أمر جميل أن يكون القارئ برفقة ماسنيون الفرنسي وصاحبه العراقي، لاسيما وهما ينتميان لتلك الأرواح التي تمشي في التاريخ كأنها تسير في طريق واحد نحو المعنى، حيث الفكر والعاطفة بينهما يشبه الحوار بين النار والماء .. بالأحرى، بين (لويس ماسنيون)، المستشرق الصوفي الذي أحبّ الحلاج حتى التماهي، والذي يم يرَ الشرق موضوع دراسة بأكثر ما هو مرآة للروح .. وبين (الأب أنستاس الكرملي)، الراهب العراقي المتعصّب للعربية حد الهيام، وعالم اللغة الذي جعل من بغداد محراباً للكلمة. لم تكن تلك المراسلات بينهما مجرد تبادل ثقافي بين صديقين، بل حوار بين عقل غربي يبحث عن الله في الشرق، وروح شرقية تمارس العلم كعبادة .. وكأن رسائلهما كانت صلوات مكتوبة بالحبر.

أما القارئ، فقد يستوقفه مع تلك الرسائل ملامح عدة، على سبيل المثال، ملمح التجلّي الإنساني لماسنيون وهو يخاطب صديقه الكرملي، كذلك ملمح الحضارة التي تجلى في بغداد كمركز الكون الثقافي آنذاك. وعني -وقد شعرت بأنني أصبحت قارئة الأفقين- فقد بدى لي ماسنيون (كوني في إنسانيته)، وهذه عبارة أجدها تلخص نصف قرن من انغماسه في الشرق، كما لو أنه وُلد في الروح قبل أن يُولد في الجسد .. إنسانية تتجاوز حدود الانتماء، ونظرة تجعل من الشرق ليست أرضاً بل معنى! أما بغداد في تلك الرسائل، فليست مدينة وحسب، بل كائن متكلّم، بنَفَس وعقل وذاكرة .. ليست بغداد الحجارة بل بغداد الحبر .. بغداد التي كانت تُقاس فيها قيمة الإنسان بعدد الكتب التي قرأها لا بعدد الدنانير التي يملكها.

للقارئ ألا يقرأ هذه المراسلات كمراسلات شخصية بل كمحاولة لتشييد جسر لغوي وروحي بين حضارتين، حيث تتأرجح نبرة ماسنيون -المثقف الفرنسي المتصوّف- بين التأمل الصوفي والحنين إلى الشرق، وهو يلتقط في بغداد شيئاً من القداسة التي تفتقدها أوروبا .. بينما يقف الأب أنستانس الكرملي على الضفة الأخرى، لغويّ، نحويّ، عقلانيّ، مدافع عن العربية، في حين تفتعل في داخله حرارة روحية لا تخفى. وكمقارنة بين لغتيهما، يبدو الكرملي أكثر منطقية، بينما ماسنيون أكثر وجدانية.

أما من ناحية البعد الصوفي، فإن ماسنيون لم يكن مجرّد مستشرق! كان متصوّفاً متوغلاً في مفهوم الحضرة الإلهية التي استقاها من الحلاج، وكأنه حين كان يكتب من بغداد، كان كالذي يسمع في نهر دجلة أنين الأسرار! يبدو لي أن الأمكنة قد تحمل معانٍ رمزية، وحيث ماسنيون تحدث عن الشرق بوصفه قلباً لا جغرافيا.

وفي الحديث عن الحلاج -وقد قرأت كتاب ماسنيون الذي جاء بعنوان (كتاب أخبار الحلاج)- فقد وجدت هذه الرسائل كالتي استبدلت نار الشهود بنور بغداد، أو تلك التي تمشي في رسائلها الأرواح لا الكلمات .. وكأن بين سطورها خيوط خفيّة من الحلاج نفسه، وكأن القدر أراد لهما أن يتحدثا عبر القرون.

يظهر هذا الكتاب -وإن بدا صغير الحجم أو محدود الانتشار- فهو في جوهره نافذة كونية على الشرق وهو يتجلى في مرايا الغرب، وعلى بغداد وهي تتوسّط العالم كما لو كانت القلب الثقافي للمدى الإنساني كله. قد يلاحظ القارئ المراقب أثناء قراءته ذلك الخيط الخفي بين قداسة المكان وبحث الإنسان عن المطلق، فماسنيون في بغداد لم يكن مستشرقاً يبحث عن الشرق، بل كان كالناسك الذي يبحث عن الله بين الكلمات العربية، الأمر الذي قد يثير الفضول نحو إعداد خريطة فكرية توضّح تحوّلات ماسنيون وأثر الكرملي في تشكيل رؤيته.

لا أعلم بعد كل ما سبق إن كنت قد التقطت مبكراً، ما لا يراه إلا من يقرأ بالبصيرة! أرجو هذا.

 

= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =

نقلاً عن المفكرة: جاء تسلسل الكتاب (125) في قائمة طويلة جداً خصصتها لعام 2025، والذي أنهيت قراءته من الجلدة للجلدة في جلسة واحدة، وقد حصلت عليه من معرض العام الماضي للكتاب ضمن (250) كتاب .. وهو خامس ما قرأت في أكتوبر ضمن (15) كتاب!

ملاحظة: يزخر الكتاب بالهوامش التي بالكاد لم تخلُ منها أي صفحة، وقد عرضت تفاصيل كثيرة عن أعلام التاريخ في الأدب والتصوف والعلم والفلسفة، مع زخم من إصداراتهم التي أثرت الإنسانية! لقد وجدتها غنية وأثْرت معلوماتي!

من فعاليات الشهر: كعادة كل عام، تتراكم الأعمال في خواتيمه، وأصبح وسطها، في سباق مع الزمن لاستدراك ما مضى من تقصير في خطة القراءة!

ومن الكتب التي قرأتها في هذا الشهر: عقل المرأة / من الجنس إلى الألوهة: الأديان وأسرارها / علم التقبيل: ما تخبرنا به شفاهنا / الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948 – 1968 / نقيض المسيح / مع النبي

تسلسل الكتاب على المدونة: 725

تاريخ النشر: أكتوبر 19, 2025

عدد القراءات:142 قراءة

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *