الكتاب
بيت خالتي
المؤلف
دار النشر
عصير الكتب
الطبعة
(1) 2020
عدد الصفحات
396
النوع
ورقي
تاريخ القراءة
09/19/2025
التصنيف
الموضوع
ذاكرة معلّقة على قضبان الصمت
درجة التقييم

بيت خالتي

منذ أن قُدّر للإنسان أن يخطو بقدميه فوق ظهر هذه البسيطة، وهو يحمل في سريرته بذرتين متناقضتين تنتظران أيهما ستُروى: بذرة حياة يغذيها الخير، وبذرة شر يرعاها وحش قد ينهض في أي لحظة ليبطش بتلك الحياة! غير أن الخطر لا يكمن في تربص الوحش ذاته، بل في حدود بطشه حين ينفلت من كل قيد .. وهناك، في ظلمات السجون التي يشيّدها غربان الطغاة، يسفر الشر عن نفسه عارياً بلا رادع ولا رحمة، حتى يغدو الواقع أكثر فظاعة عما ابتكرته مخيلة أساطير غابرة، تروي أهوال الجحيم.

(بيت خالتي) ليس كتاباً يروي أهوال ذلك الواقع وحسب، بل شهادة على أن للشر نصيبه في صفة الإطلاق، وأن الإنسان حين يُسحق، يواجه هذا المطلق بذاكرة لا تموت، وأمل يولد من رماد الحقد، وبأن الخوف ليس من الوحش الكامن في الإنسان متى استيقظ، بل في حدود بطشه الذي يبدو ألا يحده حد، بل إن من فنون بطشه ما لا يخطر على قلب إبليس!

إن الذهول الذي يعتري القارئ بعد كل مطالعة في أدب السجون، هو بالضبط ما يجعل منه أدباً يُقرأ وحسب للصدمة التي تلحق بتعرية الوحش المتجسد في هيئة بشر خائن لإنسانيته! بل إنها بحق لدهشة كبرى تحيط بقدرة هذا النوع من الأدب على إضفاء شعور خانق يحشر قارئه في زنزانة كما الضحية، رغم علمه المسبق بما ينقله التاريخ الإنساني من بطش ومذابح ومجازر، قد يجد أشباهها فيما يقرأ بين يديه! ليس أعجب من هذا، إصرار النفس الإنسانية على البقاء رغم كل موت محتّم يتربص بها في كل لحظة، إصرار ينبع من غريزة البقاء التي جبلت عليها الروح الحية التي لا تموت، فضلاً عما يتجسد من معانٍ مفعمة بالأمل رغم الألم، في معادلة لا تتكافأ: ألم يضغط على الإنسان ليُنهكه وأمل يتسلّل من شقوق الألم ليُنعشه!

كم هي عجيبة تلك الغريزة التي تبدو كحبل سرّي يعقد بين الجسد والروح حتى في أعتى الظروف، وهنا تكمن المفارقة بين جلاد يظن أنه يقتل، وروح تتجاوز القضبان وتتصلّب فوق سطوة السياط. لا عجب إذاً أن يُصنّف أدب السجون، مهما كان قاسياً، كأدب حياة لا أدب موت.

يقدم (بيت خالتي) مادته كعمل سردي يستند إلى شهادات حيّة من معتقلين سابقين، يظهر من بينها شخصيات شابة: طلاب، مثقفون، ناشطون سياسيون، وحتى أبرياء بلا سبب واضح! بعض الشهادات تأتي بأسماء صريحة، وبعضها يُخفى خلف أسماء مستعارة لحماية أصحابها أو ذويهم، حيث يتنقّل المؤلف بين تجارب اعتقال كل واحد منهم على حدة، من لحظة المداهمة وملابساتها، مروراً بالتحقيق تحت وطأة التعذيب في الفروع الأمنية وفي أقبية المخابرات، انتهاءً بزنازين السجون الدامية أو المجهول الأبدي!

وهنالك معتقلين من دمشق وحمص وحماة ودير الزور، وغيرها من المدن السورية التي يبدو معها الكتاب كسجل يعرض خريطة وطن كامل زج بأبنائه في سجونه كمفقودين، خرجوا منها حين قُدّر لهم كمولودين جدد. وبينما لا ترسم المناطق المذكورة مجرد جغرافيا بل خلفيات للذاكرة، مثل (حماة) كمدينة المجزرة ورمز لذاكرة جماعية منسية، و (حمص) كمدينة ثائرة اكتظت بالمعتقلين، و (دمشق) كمركز رئيسي تُدار منه ماكينة القمع، يحمل عنوان الكتاب (بيت خالتي) مفتاحاً رمزياً لباب حين يُقفل لا يُرجى لداخله من عودة، بحيث يصبح البيت هنا استعارة عن الغياب القسري الذي يفرضه نظام الأسد على ضحاياه، ويتحاشى ذوي أولئك الضحايا ذكر ما كان من أمرهم مع النظام صراحة!

والكتاب لا كمجرد وثيقة إنسانية وحسب، بل كسيرة جماعية لضحايا نظام مستبد تتقاطع أصواتهم في نص واحد لتشكّل لوحة سريالية عن سوريا المسحوقة، فهو من ناحية أخرى لا يكتفي بفضح آلة القمع من الداخل، بل يمدّ خيوط السرد إلى تجارب أبطال محددين متتبعاً مصائرهم بين سوريا وألمانيا، وهم يحاولون بدأ حياة جديدة، بينما تطاردهم أشباح الماضي في صراعهم ورغباتهم وأحلامهم وأسئلتهم حول العدالة المرجوة. هؤلاء الأبطال ليسوا مجرد أسماء، بل يمثلون مسارات إنسانية مختلفة! فبينهم: أنس .. يزن .. كنان .. معاذ .. جوري أو نور: الصوت الأنثوي الأبرز في تلك السريالية، والتي تحمل مأساة المعتقلة السورية الحرة مضاعفة في مكاييل القهر: قهر السجان الذي لا يرعى للشرف أية حرمة، وقهر المجتمع الذي يصوّب نظرته حارقة صوب الشرف بشبهة ومن غير شبهة! إن نور تجسّد بحق إرادة الحياة رغم مقاتلها، ووجودها وحسب يفتح الباب على البعد الإنساني الأكثر إيلاماً من بين كل تلك الشهادات الدموية!

ختاماً أقول كما بدأت: ليس الخوف إذاً من الشر حين يولد، بل من انعدام حدوده حين يتحرر من كل وازع! فهنا يكشف نظام الأسد من خلال غياهب زنازينه عن وجه سافر للشر مطلق، يتجاوز ما قد شطحت به من قبل كل أسطورة .. غير أن في مواجهة هذا الجحيم، يخرج صوت السجين معلناً: النسيان خيانة، والذكرى مهما أثقلت بالحقد، يتولد عنها أمل يتمسك بوعود العدل، ويتصدى لمحاولات الظلم في طمس آثاره! وإن من قلب الدمار المطلق، يتمسك الإنسان بآخر سلاح يملكه: الذكرى .. وهو الذي في آنٍ واحد شهادة على البطش السافر وإعلان عن الأمل المرتقب.

 

= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =

نقلاً عن المفكرة: جاء تسلسل الكتاب (105) في قائمة طويلة جداً خصصتها لعام 2025، والذي حصلت عليه من معرض للكتاب العام الماضي ضمن (250) كتاب كانوا حصيلة مشترياتي آنذاك .. وهو خامس ما قرأت في سبتمبر ضمن (20) كتاب!

من فعاليات الشهر: لا شيء مميز سوى مضاعفة الحماس نحو المزيد من القراءة واستدراك ما تبقى من العام.

ومن الكتب التي قرأتها في هذا الشهر: عرق متوهم: تاريخ موجز لكراهية اليهود / البدائع والطرائف / أسرار في حياتك وحياة الآخرين / هكذا تكلم نيتشه / مدينة الكلمات

تسلسل الكتاب على المدونة: 705

تاريخ النشر: سبتمبر 20, 2025

عدد القراءات:43 قراءة

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *