كتاب بمثابة بحث شامل-مختصر في أثر الجمهورية الأفلاطونية على الفكر الإسلامي، متمثلاً في فلاسفته ومفكريه وفقهائه كذلك. فبينما يتتبع أحدهم الطوباوية، يأتي الآخر بنظرة أكثر واقعية، غير أنه في كلا الاتجاهين يحرص الجميع على التمسك بروح الدين الإسلامي، لا سيما في رد أصول الدين إلى الوحي الإلهي ونبذ ما خالفه في فلسفة أفلاطون.
يضع الكتاب أ. د. طه جزاع، وهو أستاذ محاضر في علوم الفلسفة، وكاتب أعمدة صحفية في الجرائد والمجلات والمواقع الإلكترونية، وقد شغل منصب (رئيس التحرير) لعدد منها، كما أن له عدد من الإصدارات الفكرية، حيث فاز بالجائزة الأولى لمسابقة (ناجي جواد الساعاتي) في دورتها التاسعة عن عام 2018، وذلك عن كتابه الأخير في أدب الرحلات (فوق الغيوم .. تحت الغيوم).
يتناول د. جزاع البحث من خلال أربعة فصول رئيسية أذكرها تالياً، تندرج تحتها عدد من المباحث التي تتفرّع بدورها إلى عدد من المواضيع ذات الصلة، بالإضافة إلى صفحات المقدمة والهوامش والمراجع، وقد حظي الكتاب بثلاثة أنجم من رصيد أنجمي الخماسي.
- الفصل الأول: سمات فلسفة أفلاطون السياسية
- الفصل الثاني: الدلالات والمفاهيم السياسية الأفلاطونية عند فلاسفة المشرق الإسلامي
- الفصل الثالث: الدلالات والمفاهيم السياسية الأفلاطونية عند فلاسفة المغرب الإسلامي
- الفصل الرابع: حضور أفلاطون في الفقه السياسي الإسلامي
قد يتفق الجميع على الصعوبة التي ينطوي عليها علم الفلسفة إجمالاً، غير أن قدرة الكاتب على غربلة فكر كل من أدلى بدلوه في الفلسفة الأفلاطونية، في العمق أو على السطح، لهو دليل على تمكّن فكري مختلف للكاتب، فضلاً عن موسوعية الاطلاع، بالإضافة إلى مهارة العرض المبسّط. كنتيجة، يدعو الكتاب القارئ النهم للاستزادة من خلال البحث ذاتياً.
يستهل الكاتب بمقولة الوزير الأسبق للخارجية الفرنسية عن السياسة، التي لا ينبغي لها أن تتعارض مع الأخلاق، إذ يقول: “إن الشرف الحقيقي للسياسة هو أن تطابق جهد المستطاع علم الأخلاق”. لا يختلف جهد الكاتب في البحث عن موجبات إقامة المدينة الفاضلة في العصر الراهن كما هو الحال في جميع الأزمنة، غير أنه يعزز بحثه بعرض السلسلة التاريخية التي امتدت من أفلاطون حتى ابن خلدون في ربط العدالة بالمدينة، ضمن سياق المقارنة بين الفلسفتين الإغريقية والإسلامية، أو كما يعبّر عنه الكاتب بـ “دراسة التيار أو المدرسة الأفلاطونية الأخلاقية-السياسية في الفكر والفلسفة العربية الإسلامية”، في الوقت الذي يعمد فيه إلى التفرقة بين الأخلاق والسياسة، معتمداً على أفلاطون ذاته الذي اعتبر السياسة باب من أبواب العلوم الصعبة، لا يتقنها إلا قلّة مختارة.
في هذا السياق يؤكد الكاتب على أصالة الفكر العربي والإسلامي ومرونته في آن واحد، حيث الانفتاح على الثقافات الأخرى، وقدرته على الأخذ بما يتفق وثقافته وطرح ما يجافيها .. في إطار من تجديد وتحديث وابتكار لا يزال محافظاً على طابعها الحضاري الفريد. يبدو هذا جلياً في استعاضة المسلمين سياسة أرسطو بسياسة أفلاطون الأقرب إلى روح الشرائع السماوية، فالسياسة لديهم لم تكن تنفصل عن الدين كما الأخلاق. وتجدر الإشارة هنا إلى أن أفلاطون -كمؤسس أول لعلم السياسة- لم يفصلها عن الأخلاق رغم اعتباره كل منهما علماً قائماً بحد ذاته، على عكس نظيره مكيافيلي الذي لم يتحرّج من تبرير الوسيلة بالغاية!.
يتقاطع التاريخ عند أفلاطون وفقهاء المسلمين، فحينما رفض الأول الأوضاع السياسية القائمة في زمانه، وسعى إلى تأسيس جمهوريته على أسس من مثالية سامية نادى بها، تطلّع أولئك إلى اتخاذ عصر الرسول وعصر خلفائه كمرجع مثالي نحو تحقيق خلافة إسلامية قائمة عل أصول سياسية مثلى.
من أروقة اليوتوبيا، أعرض ما علق في ذهني بعد القراءة، وباقتباس في نص رخامي يستمد من أعمدة المعابد اليونانية عبقها (مع كامل الاحترام لحقوق النشر)، كما يلي:
ملاحظة: عادة، يعتمد أسلوبي في التدوين على التعبير بـقلمي عن محتوى الكتاب ككل بعد قراءته، مع القليل من الاقتباسات بما يخدم عرض محتواه بشكل جيد. رغم هذا، أستثني الكتب التي تجمع بين موضوعية الرأي وبديع الأسلوب في قالب واحد، بحيث يصبح نقل النص كما ورد هو الخيار الأمثل، بدلاً من التعبير عنه وفق أسلوب آخر. لذا، تدفعني بعض الكتب لاقتباسات أكثر مما اعتدت عليه، وهذا قلّما يحدث في مراجعاتي! جاء هذا الكتاب ضمن هذا الاستثناء، لذا وجب التنويه.
ملاحظة أخرى: ترد بعض التعليقات في نص أزرق .. لا تعبّر سوى عن رأيي الشخصي.
أولاً: أفلاطون:
- تنبع الأفلاطونية من ألفها إلى يائها من ثنائية (السياسة والأخلاق). وكعادة العلماء، يبدأ أفلاطون من حيث انتهى سقراط الذي حملت فلسفته الأخلاق كأساس لديانة لا يُدرك جوهرها سوى فيلسوف عليم. عليه، لم يكتشف أفلاطون السياسة فحسب أثناء تنقيبه في إرث سقراط الأخلاقي، بل اكتشف الفكر الإنساني الذي به نهضت الحضارة الأوروبية وطوّرت ما يُعرف الآن بـ (المنطق العلمي).
- للنفس الإنسانية تقسيمات لدى أفلاطون، حسب ما يتعلق منها بالجسد وما يتعلق بها كنفس. فلها ثلاث قوى: القوى العاقلة، القوى الغضبية، القوى الشهوية. ترتكز الأولى في العقل، والثانية في الصدر، والثالثة في البطن، ويصبح الإنسان بالتالي مفكراً بالأولى، وشجاعاً أو جباناً بالثانية، وممتلئاً أو جائعاً بالثالثة، “أما العدالة فهي الموازنة بين هذه القوى الثلاث”، من خلال فضائل ثلاث، تختص (الحكمة) بالأولى، و (الشجاعة) بالثانية، و (العفة) بالثالثة، “ولا تتحقق العدالة ما لم تسيطر القوة الذهنية على القوتين الأخريين”.
- إذاً، تأتي العدالة كهدف أسمى لدى أفلاطون في تأسيس مدينته التي لا بد وأن تأتي بالسعادة لجميع أفرادها كمسعى أول وأخير، بيد أن هذه المدينة ترتكز “على الفضائل السقراطية الأربع: الحكمة والعفة والشجاعة والعدالة”. فبينما تختص الحكمة بالحكّام الفلاسفة، وتتمثل العفة في الانسجام بين الحاكم والرعية، والشجاعة في قلوب الجند، ينتهي الأمر بتحقيق العدالة وهو الهدف الأقصى.
- يعرّف أفلاطون الجدل بأنه “فن المناقشة الهادفة للوصول إلى الحقيقة”. وبينما تتعدد مناهج الجدل بين صيرورة ودفاعية وسفسطية، يتخذ هو المنهج الصاعد النازل، وهو “الطريق العلمي السليم الذي يتبعه طالب المعرفة للوصول إلى الحقيقة .. الحقيقة التي تكمن في التدرج صعوداً من أولى مراحل المعرفة وصولاً إلى معرفة مثال الخير في المعرفة العقلية”. على هذا، يقسّم أفلاطون المعرفة إلى أربعة مراتب، هي: الحسية، الظنية، الاستدلالية، العقلية. فالمعرفة الحسية موضوعها الظواهر المحسوسة، والمعرفة الظنية موضوعها الفن والصور والطبيعة، والمعرفة الاستدلالية موضوعها لا المحسوسات ولا المثل، بل طبيعة تتوسطهما، والمعرفة العقلية موضوعها “الوجود الخالد الأبدي غير المتغير”. وفي حين يعرض قصور كل معرفة من المعارف الثلاث، يسلّم بأن (العقلية) منها هي الصادقة يقيناً “وصدقها قائم على موضوعها، وموضوعها هو الوجود الحقيقي الكائن من طبعه على حال واحدة في ذاته، والذي لا يتغير، بل يبقى دائماً هو هو، وتستمد منه الموجودات كافة التي تقع في رتبة أدنى منه وجودها”. وكأن لسان حاله يقول: هو الله.
- وفي تبيان مراتب المعرفة تلك، وإقرار أن (المعرفة العقلية) هي الحق، ينتقل أفلاطون إلى السياسة ليضع الفيلسوف في مقام الصفوة لتولي الحكم، إذ أنه الوحيد القادر على إدراك الكمال والأبدي الثابت، على عكس من هم دونه، التائهين في بيداء الصور المتعددة والمتغيرة، والمنبهرين بما تجود عليهم المعرفة الحسية من صور والظنية من إشارات. فلإدراك طبائع الأشياء “يسوق الفيلسوف كل عرق نابض في جسمه لإدراك الوجود الحقيقي”، والذي حين يدركها تتفجّر بداخله ينابيع الحكمة ويدرك معنى الحياة. فلا أصلح منه إذاً في تولي مقاليد الحكم.
- لم يكن هدف أولئك السوفسطائيين في اعتلائهم المسرح وتأليب الجماهير الغفيرة .. نساء مستضعفات يتبعن الرجال، وعبيد يحتمون بالأحرار الهاتفين .. سوى التملق، مستخدمين براعتهم الخطابية. ينأى أفلاطون بنفسه كمعتنق أوحد لـ “فن السياسة الحقيقي” وممارس له، إذ لم يسع قط إلى تسلية الناس بالقول .. نصب عينيه “الخير لا اللذة”.
- من أجل خلق حكّام عدول “يسيرون نحو الكمال بنزعة فلسفية وحماسة عظيمة وتنفيذ سريع”، فإن إعدادهم الجسدي يتحقق بالرياضة، والعقلي يُغذّى بالموسيقى. كما أنه لا بد من نبذ كل ما هو أسطوري خرافي متمثلاً في قصص مروية أو شعر أو تراث مشوّه عن الآلهة والأبطال يسيء لهم وللإنسانية، “لأن الطفل لا يميز بين الحقيقة والمجاز فيطبع في عقله ما سمعه في هذه السن، ويرّسخ في نفسه حتى يتعذر نزعه، وغالباً يتعذر”. ويستكمل متجاوزاً المثالية بقليل قائلاً: “ويجب أن يكون الحكّام أحراراً من حب المال والتملك الخاص وتكوين الأسرة، وأن يعيشوا عيشة فيها شظف وتقتير، ومن دون ذلك فإنهم سينقلبون ذئاباً بدل كونهم حرّاساً للدولة”.
- كانت مناهج التربية الأفلاطونية بمثابة سابقة، حين يتم تولية الاهتمام بالفرد قبل ولادته، من خلال “تقرير أن واجب المرأة التي تنتظر الأمومة هو قيامها بكل التمرينات التي يحتاج إليها الطفل في رحمها لكي تحقق له الخير”. لتحقيق هذا الهدف، يطالب أفلاطون بفرض نوع من الإشراف بحيث لا يُترك الأمر إلى ما أسماه بـ (نزوات ربّات البيوت)، “ذلك أن جسم الطفل وعقله يكونان في المراحل الأولى أكثر استعداداً ومرونة للتشكيل، حتى أن التعامل معهما تعاملاً خاطئاً يؤدي إلى أكبر الضرر”.
- لذا، كان التعليم هو حجر الأساس في مدينة أفلاطون الذي اعتبر أي عمل من غيره بلا قيمة. يقول الكاتب: “لقد خصّ أفلاطون التعليم بحيّز كبير من اهتمامه إلى الحد الذي دفع ببعضهم إلى عد التعليم موضوع (الجمهورية) الأساس، ولا غرابة في ذلك طالما أن أفلاطون قد عدّ الدولة منظمة تعليمية، إذا صلح تعليم مواطنيها استطاعوا بيسر أن يتبينوا أصل الصعاب التي تعترضهم، أما إذا أهمل التعليم فإن أي عمل آخر تؤديه يكون غير ذي شأن”.
- في حين يحرص أفلاطون على أداء كل طبقة من طبقات المجتمع ما يحقق مصالحها وإن تعارضت مع مصالح الطبقة الأخرى، ينادي بتماسك وحدة المجتمع، الأمر الذي يعرض صورة من التناقض في المفهوم الطبقي للمجتمع عند أفلاطون. لكن “يغدو المجتمع الأفلاطوني مجتمعاً طبقياً في الشكل والترتيب الهرمي الاجتماعي، وهو في الوقت نفسه مجتمع لا طبقي في الجوهر والمضمون”.
- تسوء حالة أفلاطون النفسية كما صورّها بنفسه، وذلك لما شهدت عيناه من فساد سياسي وقانوني وأخلاقي عاصره طويلاً على أرض أثينا التي توالى عليها ما توالى من أنظمة فاسدة. يعزو هذا الفساد إلى تولية الحكم لغير أهله، فما شأن التاجر بالحكم سوى جمع الثروة، وما شأن العسكري سوى السيطرة! يأسى أكثر فيقول: “إن ذلك علم وفن لا يجيده إلا من خصص عمره وأعد نفسه إعداداً طويلاً لهذه المهمة. أما طريق الخلاص فلا يكون إلا بإعادة أرستقراطيي العقل الذين اجتازوا مراحل التربية الخاصة على الحكم، ولا يكون إلا بتسليم مقاليد السلطة إلى الفلاسفة، أو يتفلسف الحكام”. لقد تدهورت حالته تلك إلى الحد الذي دفعه أن يخاطب الأثينيين مستحضراً أستاذه سقراط وقد أجبر على تجرّع السم كعقاب، قائلاً: “أرجو أن لا يؤلمكم الحق أن أنبأتكم به، فالحق أنه يستحيل على من يرافقكم إلى الحرب، أو أي اجتماع آخر، ويقاوم فساد الأخلاق، وأخطاء الدولة، أن ينجو بحياته”. إن هذا قول يُشبهني .. وما أشبه الليلة بالبارحة!. لا عجب إذاً أن يكون الثمن غالياً.
ثانياً: الفلاسفة المسلمون:
- بينما ينفي بعض الباحثين عن ابن سينا أي رؤية سياسية اختص بها، يرى آخرون أنه جاء برؤية سياسية فقهية أكثر منها رؤية سياسية فلسفية، كما يتطلب الأمر. ففي حين يُشرك الفرد بالحاكم في سياسة تدبير معاشه، يفرّق في كيفيتها ونوعيتها، حيث إن السياسة لدى ابن سينا هي في “العلم العملي المختص بتدبير أخلاق الخلق وحياتهم وعلاقاتهم أفراد وجماعات، فكانت عنايته بها تعبيراً عن اهتمامه بالإنسان وسعادته الدنيوية والأخروية لأنه جعل الحكمة العملية السياسية طريقاً وأداة للمعرفة التي تخدم الإنسان في ذاته وفي اجتماعاته المنزلية والجماعية”. غير أن ابن سينا يعتبر أقرب فلاسفة الإسلام لنموذج المدينة الفاضلة النبوية، وأكثرهم بعداً عن النموذج الإغريقي.
- يخصص الفارابي في كتابه (آراء أهل المدينة الفاضلة) فصلاً يتطرق فيه إلى الصفات الواجب توافرها فيمن سيتولى رئاستها، وهي مهمة كبيرة. يرى أن هذه المهمة ليست سياسية فقط، بل تتفرع وظائفها لتشمل الدين والتربية والأخلاق والاجتماع والاقتصاد والفلسفة، “فهو رئيس وفيلسوف، فضلاً عن أنه المثال الذي يحتذي به الأفراد ولا تتم سعادتهم إلا بالتشبه به، وهو الرئيس الذي لا يرأسه إنسان آخر أصلاً، وهو الإمام والرئيس الأول للمدينة الفاضلة، وهو رئيس الأمة الفاضلة ورئيس المعمورة من الأرض كلها”. بعد هذا القول، لا عجب أن يخلف الأمة أصنام وطواغيت وجبابرة وسفّاحين، قد انبرى حاخاماتهم ينبشون موروث الكتب لاستخراج ما “يشرعن” حكمهم الدموي .. مع عدم التشكيك في صدق نوايا أبو نصر!.
- لذا، ومع الحصيلة الدينية والفلسفية عند الفارابي، يصبح رئيس المدينة الفاضلة لديه نبي وفيلسوف معاً. فبينما يكون شخص الفيلسوف فيه قادراً على استيعاب كل المعقولات التي تفيض عليه من العقل المطلق الفعّال باستخدام قوته الإدراكية التامة، فإن شخص النبي فيه يجعله يتعامل مع تلك المعقولات تلقائياً دون الرجوع إلى العقل، فإنما يستقي العلم مباشرة من المطلق بفعل خاص يرى فيه الجزئيات مع الكليات، وما كان وما يكون وما سيكون “وهكذا تتجمع في هذا الشخص الرئيس أهم خاصيتين ينبغي توافرهما فيه، هي الفلسفة والنبوة”. وبأي حال، فإن الطرطوشي وابن حزم وابن الأزرق وابن خلدون وغيرهم يجمعون على حكم سلطان واحد، إذ “استحالة صلاح البلد الواحد بنصب سلطانين”. وكما يقول علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه: “أمران جليلان لا يصلح أحدهما إلا بالتفرد ولا يصلح الآخر إلا بالمشاركة، وهما الملك والرأي. فكما لا يستقيم الملك بالمشاركة، لا يستقيم الرأي بالتفرد”.
- يتعرض الفارابي للمدن المضادة للمدينة الفاضلة التي تأخذ أربعة أشكال رئيسية: المدينة الجاهلة: وهي التي لم يخطر ببال أهلها السعادة قط. المدينة الفاسقة: وهي التي تتفق مع آراء المدينة الفاضلة وتعمل خلافها. المدينة المتبدلة: وهي التي اعتنقت آراء المدينة الفاضلة أولاً ثم بدّلتها تالياً. المدينة الضالة: وهي التي اتخذت مبادئ زائفة لا تقود إلى السعادة في شيء.
- أما إخوان الصفا (وخلان الوفا) الذين اجتهدوا في التوفيق بين العقيدة الإسلامية والحقائق الفلسفية، لاسيما الإلهية الأفلاطونية التي كانت أقرب إلى روح الإسلام، والتي حفزّت لديهم قيم الاستنباط والتأثر كما يدعو إليها الدين، فقد صنفوا علم السياسة ضمن العلوم الإلهية، وقرروا أن “الدولة لن تكون سعيدة ما لم يرسمها رسامون ينسخون عن أصل إلهي”، فقاموا بناء عليه تقسيم علم السياسة إلى خمس أنواع رئيسية: نبوية، ملوكية، عامة، خاصة، ذاتية.
- يتفق متصوفة الإسلام مع فلاسفته. فهذا ابن طفيل يجعل من الانحطاط الأخلاقي مضافاً إلى تفسخ العقيدة الدينية على جزيرة سلامان سبباً في فشل حي بن يقظان تغيير واقعها وتحويلها لمدينة فاضلة، الأمر الذي دعاه ورفيقه أبسال بلزوم جزيرتهما حيث السعادة الحقيقية متمثلة في حياة العزلة. لم يكن فشلاً حقيقياً بقدر ما هو تسليم بعدم واقعية المدينة الفاضلة وصعوبة تحقيقها في العالم المادي.
- يتفق ابن رشد مع أفلاطون في جبلة النفس البشرية التي انقسمت إلى معادن (نفيسة) ينبثق عنها الحكام، وأخرى (رخيصة) متفاوتة ينتج عنها الطبقات الأخرى في مجتمع المدينة، وهو بهذا يجدد أسطورة “الأرض-الأم” التي تناولها أفلاطون في تصنيف البشر بين “ذهب وفضة ونحاس”. يذهب ابن رشد إلى تحديد تسعة خصال طبيعية لا بد وأن تتوفر في الحاكم ذو المعدن الذهبي، هي: حب العلم النظري، قوة الذاكرة، إنكار الذات، عزة النفس، الصدق، الشجاعة، العزيمة، البلاغة، الفطنة. بالإضافة إلى خصلتين مكتسبتين، هي: عدم التميز عن العامة بمال أو جاه، والإقبال على العلوم المختلفة. يُعرف عن ابن رشد موقفه الناصر للمرأة، فيرد عنه القول أن: “من النساء من يصلحن للرئاسة، فالنساء لا يختلفن عن الرجال من حيث الفطرة أو الغرض الإنساني”، فيصلح عنده للرئاسة من يتمتع بتلك الخصال بغض النظر عن جنسه. رحم الله قاضي قرطبة .. لا عجب أن يزندق التكفيريون فكره!
- ومما يحمد لابن رشد كذلك، شروحاته المستفيضة لجمهورية أفلاطون التي لم يكتف بشرحها لأمة العرب بعد ترجمتها، بل كان انموذجاً في تطبيق ما وافق من مبادئها على الوضعين السياسي والاجتماعي السائدين آنذاك في الأندلس وبلاد المغرب. “إن هذه القضية تكشف عن حقيقة مهمة في تفكير فيلسوف قرطبة فهو في السياسة أفلاطوني النزعة مثلما هو أرسطي النزعة في الطبيعيات والجوانب الفلسفية الأخرى”.
ثالثاً: مآخذ:
لا تخلو الأفلاطونية من مآخذ أجمع على بعضها جمهور المفكرين، وما استتبعها من فلسفات إسلامية، أسرد منها ما يلي:
- يرفع أفلاطون من قدر المرأة، فهي لديه مساوية للرجل “لذلك يجب تهذيب النساء وتدريبهن كالرجال تماماً. والمساواة هنا مساواة في العقل والقوى البدنية وفي الحقوق والواجبات والعمل”. عليه، يُصبح الفرق لدى أفلاطون بين الرجل والمرأة هو فرق بالدرجة: قوة وضعفاً. يقرر بعد هذا الإقرار بأن “النساء اللاتي يبدين ميلاً إلى الفلسفة وإلى الحرب ينبغي أن يصبحن الحكام أو المساعدين ويصرن أزواجاً لهم”. غير أنه من هذا المنطلق، تصبح المرأة مشاع للحكام لا يجوز لأحد منهم الاستحواذ عليها بمفرده! ينطبق هذا على أبنائهم “فلا يعرف والد ولده ولا ولد والده. وبهذه الوسيلة وحدها يمكن للحكام ومساعديهم أن يتحرروا من كل ميل للملكية”. يشرف القضاة على هذا النوع من العلاقات بين الجنسين، ويتولى موظفون مختصون حمل الأطفال المميزين إلى مراضع حكومية مستقلة. يتوقع افلاطون ما سيواجه من معارضة عارمة، فيبرر توجهه اللاواقعي بـ “استيلاد الأفضل، وتحسين النوع الإنساني على غرار تحسين نسل الحيوانات الأصيلة”. بعيداً عن منهج اختلاط الأنساب المستهجن إنسانياً، يوجد فوق عالم مواز لعالمنا كائنات صحراوية لا تحرّم على المرأة فحسب الولاية العامة لحجة نزف شهري وشهادة نص نص، بل لإنها (العورة) مجسّدة، فلا تنطق!.. ولو كان أفلاطون حاضراً بين ظهرانيهم، لكانت الفُتية: (قطع رقبة)!.
- على الرغم من الفروقات الفردية وتفاوت الاستعدادات الطبيعية بين البشر التي تؤهل كل فرد لما يُسّر له، يحرّم الحكام على البشر ذلك التأهيل الفطري، لاسيما أولئك الذين ينسبون لطينتهم الفضل على من سواهم، الأمر الذي يبيح لهم من الوسائل الشرعية واللاشرعية ما يطغون به على الخلائق، تحت غطاء مقدّس!. عليه يتيح أفلاطون “للحكام الأرستقراطيين اللجوء إلى كل الوسائل بما فيها الكذب لإقناع الناس بأن الآلهة وضعت في جبلة بعضهم ذهباً وأهلتهم ليكونوا حكاماً، ووضعت في جبلة آخرين فضة ليكونوا جنوداً ويحرسون المدينة وينفذوا أوامر الحكام، وخصت القسم الأكبر من الناس بمعدن الحديد والنحاس ليؤدوا مختلف الأعمال اللازمة لتامين حاجات المأكل والملبس والمسكن”. كم يشبه هذا وضع قائم، يقوم فيه وعّاظ السلاطين بعمليات غسل أدمغة وتخدير شعوب كاملة بأفيون دين ما أنزل الله به من سلطان! يعاب على أفلاطون تمسّكه بالأسطورة الفينيقية التي ضمنّها جمهوريته، والتي تعتقد بالإله الذي خلق الناس من معادن ليتمايزوا، فوضع في طينة البعض ذهبا، هم الحكام .. الطبقة الأكثر احتراماً، ووضع في الأخريات معادن فضة ونحاس وحديد. وهذا هو أصل التفاوت بين الناس .. كما كان يزعم!
- يستكمل إخوان الصفا هذه الطبقية بين أفراد المجتمع .. فقراء، أغنياء، ملوك، تجار، صنّاع .. إلا أنهم يذهبون أبعد من ذلك في إقرارها فور الولادة أو حتى في فترة ما قبل الولادة، يعزونها لحكمة إلهية تعمل على تكامل البشر وتعاونهم فيما بينهم، فالإنسان لديهم “لا يستطيع ان يقوم بجميع الأعمال. وبهذا الاختلاف تتبنى كل طبقة عملاً معيناً، ثم التعاون فيما بينهم على إصلاح المجتمع وتحقيق السعادة له”. وكأن من ولد لأبوين فقيرين يرث الفقر كعيب خلقي يحمله لآخر يوم في حياته!. ليست تلك الحكمة الإلهية المزعومة سوى شكل من أشكال (التجهيل المقدّس) الذي لا يزال يُمارس على الشعوب المتخلفة!.
- ثم يأتي ابن باجة على جمهورية أفلاطون التي تدعو لبناء (نموذج انسان مثالي جسدياً) من خلال برامج غذائية تحافظ عليه وتقيه الأمراض، ليجعل من مهنة الطب غير ذات شأن!. “فمن خواص المدينة الكاملة أن لا يكون فيها طبيب”. وهكذا هو رجل (السوبرمان) على أرض المدينة الميتافيزيقية!.
- يتخذ أفلاطون موقفاً عنصرياً ضد العبيد، يجعل منهم مادة لانتقاد لاذع يوجهه لأهالي أثينا الذين ساووا بينهم وبين أسيادهم الذين اشتروهم بمالهم. “ومع أنه يستثني العبيد من الحيوانات الداجنة فإنه يتوصل إلى أن هؤلاء لا شأن لهم بالعلم السياسي” … (تفضّلت عليهم يا أفلاطون). بل يسنّ في (القوانين) ما يحطّ من قيمتهم الإنسانية في حال القتل، سواء كان العبد منهم قاتلاً أو مقتولاً. وفوق نفس العالم الموازي الآنف الذكر، يتقافز شيخ سلطان يُفتي بإباحة استرقاق أسرى الحروب، بحجة أن الأسير منهم رفض عبادة الله، فأصبح استعباده حق وعقاب!. أي دين يتبعون؟؟ كم يظهر هذا الدعي قابعاً في دكانه يبيع ترّهات يغلّفها بكساء مقدّس والمريدين من حوله يسمعون ولا يعون!.
قبل الختام، تتضارب أقوال المفكرين العرب في حقيقة أفلاطون -كغيره من فلاسفة الإغريق- ما إذا كان نبياً جاء بعقيدة التوحيد؟! كالفارابي الذي غرق في بحره إلى حد تصور رئيس المدينة الفاضلة “بأنه أفلاطون في ثوب النبي محمد”، لا سيما أن الآية القرآنية الكريمة (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) تنص على احتمالية هذه الفرضية! فهل كان أفلاطون من أولئك الرسل الذين لم يأت القرآن على ذكرهم؟
ينقل الكاتب في معرض حديثه عن طبيعة (المعرفة العقلية) لدى أفلاطون بعض من نصوصه التي لا تنم عن شيء سوى عقيدة توحيدية خالصة! منها:
“المعرفة العقلية أن يستطيع الفيلسوف الارتقاء إلى الأشياء في ذاتها وأن يراها في جوهرها”
و “هي معرفة الوجود المطلق وكيف هو”
و “وهو الوجود الثابت الخالد الواحد”
و “حالة النفس فيها تكون تأملاً لتلك الموضوعات العقلية الثابتة الإلهية بحيث يصير الفكر هو نفسه إلهياً منظماً على نسق الموضوعات التي يتأملها”
وأخيراً .. وفي لغة صوفية “فالنفس حينما تتجه إلى ما يتغير ويخضع للكون والفساد ويتصف بالغموض، فإنها تضطرب وتنتقل بلا توقف من شيء إلى آخر بين المتعددات ويبدو وكأنها غير قادرة على التفكير، أما حينما تثبت أنظارها على ما ينيره ضوء الحقيقة والوجود، فإنها عند ذلك تفهم وتعرف”.
ولا أكثر طيباً في مسك الختام من قوله ﷺ: “بالعدل قامت السماوات والأرض”
بعد قوله عز وجل: “وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ”
لقد كان كرماً مضاعفاً من المؤلف الفاضل أن يقوم بنشر مراجعة الكتاب على جريدة المشرق العراقية، ضمن الرابطين:
جزء 1 : 5 يوليو 2021 – صفحة 10
جزء 2 : 6 يوليو 2021 – صفحة 10
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
من الذاكرة: جاء تسلسل الكتاب (5) في قائمة ضمت (57) كتاب قرأتهم عام 2021 تتضمن أربعة كتب لم أتم قراءتها وثلاثة كتب أعدت قراءتهم من جديد، على الرغم من أن العدد الذي جعلته في موضع تحدٍ للعام كان أكثر بكثير، لكن لم تسمح ظروف الحياة لمجابهته! وهو أول كتاب اقرأه في شهر يونيو من بين ستة كتب.
من الجميل أن يكون الكتاب صديقاً، والأجمل أن يكون سبباً في عقد صداقة، وأجملهما أن يُزفّ كـ (هدية) .. كل تلك المعاني العذبة تولّدت بين كاتبة هذه الأسطر وبين كاتب اليوتوبيا الذي أخصّه بجزيل الشكر.
تسلسل الكتاب على المدونة: 56
التعليقات