الكتاب
ذاكرة يد: حكاية من تابوت الأمن
المؤلف
دار النشر
دار سطور للنشر والتوزيع
الطبعة
(1) 2022
عدد الصفحات
368
النوع
ورقي
تاريخ القراءة
04/09/2024
التصنيف
الموضوع
أسطورة من أساطير التعذيب في السجون العربية
درجة التقييم

ذاكرة يد: حكاية من تابوت الأمن

كسائر أساطير التعذيب المتلبّسة -كتلبّس الجنّ- سجون العالم العربي، والممتدة بامتداد حدوده الشائكة من الخليج الثائر إلى المحيط الهادر، تأتي هذه الأسطورة بقدر من صنوف مروّعة ما قد لا يخطر على قلب إبليس بما هو عليه في الأصل من عظيم الشيطنة!

فعندما تضيق رحاب بلاد بأهلها وتضيق جرّاءها أخلاق الرجال، خلافاً لاعتقاد الشاعر عمرو بن الأهتم .. وعندما يتجسد الشيطان نفسه في هيئة إله حاكم بأمره وبيده فـ “تطرّ” كل فرد من محكوميه “أربع وصل” .. وعندما تنجو الأجساد من تابوت الموت باستثناء أيمانها التي يشاء لها القدر أن تحيا بعد موتها، لتشهد كل منها على ما عناه المؤلف بـ (ذاكرة يد) .. حينها لا يبقى مجال للشك في أن الجحيم المعني عربي بامتياز، وبحيث لا يتبقّى من حرج في صب اللعنات يمنة ويسرة، أضعافاً مضاعفة!

مع أواخر عام 1994 ينشغل الإعلام العراقي الموالي للرئيس الهالك وابنه البكر المقبور، بقضه وقضيضه، لفضح مؤامرة مزعومة أبطالها حفنة من تجّار عراقيين استهدفوا الدولار الأمريكي مع سبق الإصرار والترصد، وتسببوا في صعود سعره فلكياً داخل السوق المحلي، في حين كان العراق وأهله يترنحون وسط إعصار حصار اقتصادي جائر .. المؤامرة التي ما كان لها أن تُحبط رغم أعين أعوان الرئيس الساهرة! وبعد عملية حلحلة وخلخلة لمئات تم اعتقالهم، تولّاها بعض من أصحاب النفوذ، تم إدانة أحد عشر (متآمراً) تقلّصوا فيما بعد إلى تسعة بفعل الدائرة المتنفذة حول الرئيس شخصياً .. كان جلّهم من ذوي الطبقة الكادحة التي تستجدي الرزق من أطراف (بُسط) مهترئة تُفرش على قارعة الطرق، وأُصدر في حقهم عقوبة واحدة لا تُستثنى “تنتمي للثأر المشهدي أكثر من كونها قانوناً .. كانت العقوبة قطع اليد اليمنى من الرسغ ووسم الجبين بعلامة (×)” .. وقد نفذّها عصبة من القصابين بين جدران سجون دموية، كان يحمل كل منهم -للمفارقة- رتبة (طبيب)!

ثم لا يزال القدر يصرّ على أن يأتي بكل ما هو عجيب لأمة كان على جسدها أن يتداعى بالسهر والحمى لمصاب عضو من أعضاءها! إذ لم يجد أولئك المغدورون “أخوية الكفوف المبتورة” بعد مرور أعوام ثقال وسقوط النظام، من يلتفت إلى محنتهم بل ويتبناها عالمياً ويتكفّل بإصلاح ما أعطبه السفّاح في أجسادهم، سوى رجل لا يربطه بهم لا دين ولا عرق ولا وطن ولا نسب .. دون رابط الإنسانية! كان مخرجاً سينمائياً أمريكياً يُدعى (دان نورث).

وعلى الرغم من تحفّظ الراوي ابتداءً على تبني هذه القضية لشبهة جني المال الذي ينأى عنه أخلاقياً، إلا أن القلق قد ساوره بشكل أكبر فيما يتعلق بتلك الفسحة المتفرّدة من الخيال والمطلوبة لإثراء أي عمل أدبي، إذ كان أبطال القضية أحياء يرزقون ما قد يؤثر في توجيه تلك المخيلة! وقد صرّح في أول فصل (حكاية الحكاية) قائلاً: “لأن الحدث، أي حدث ليس تسلسلاً خيطياً متفرّداّ، بل حصيلة تشابك من تسلسلات خيطية كثيرة. وما الرواية سوى نسيج من خيوط متشابكة على عظام الواقع .. هي نقل وهي خيال، كما هي توثيق واستشراف”. خلافاً لذلك الهاجس، فقد سطّر الراوي بقلمه إبداعاً ممتنعاً جمع فيه بين فجور النفس البشرية في هدر الكرامة الإنسانية حد الموت، وبين فسحة الأمل التي لا بد أن يأذن بها القدر وإن طال أمد البطش!

وبينما يعتلي غلاف الكتاب لوحة مائية، فقد صوّرت حقيقة جو السجن الخانق الذي خففت قمصان السجناء من وطأته، وذلك من خلال عملية تدوير للهواء ابتكروها! فقد كانوا يتناوبون على الوقوف أربعاً متقابلين ممسكين بأطراف قطعة قماش أسموها اصطلاحاً (بطانية)، يحركونها صعوداً ونزولاً من أجل إحداث تيار هوائي وسط اللهيب! ومن الكتاب وقد حصد رصيد أنجمي الخماسي ولم يُبق، والذي أرفق في ملحقاته صوراً حية للأخوية وما جرى من أحداث .. أدوّن ما أثقل روحي غمّاً، وباقتباس في نص حالك (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) إضافة إلى ما سبق من اقتباسات:

  • مع استهلال الحديث المتخيّل الأحادي الطرف على لسان البطل الرئيسي (صلاح حسن زناد)، نحو رئيسه الهالك، والذي كان من قبل هو المتحدث الدائم وأفراد شعبه هم الصامتون، يراه ضاحكاً وهو ما لبث يشكوه محنته، ويسمعه يقول لا مبالياً: “يا هذا أنا أضعت بلداً ولم ينتبني ما ينتابك من حزن .. أنت تكاد تبكي على مجرد كف صغيرة! ما قيمة فقدان كف إزاء فقدان بلد؟ يا لهذه المفارقة العجيبة بين كف وبلد”.
  • وبينما يجتمع المخرج بالأبطال “العينة البيولوجية المجلوبة من بغداد إلى هيوستن” في كافتيريا فندق ماريوت، يفاجئهم -وعيناه الخضراوان تستشفان ردود أفعالهم- بعثوره على عنوان للفيلم الذي تولى إخراجه عن قضيتهم، وهو (Remember Saddam). هنا، يعود صلاح ليحدّث الرئيس الذي لم يعد يتحدث، قائلاً في نبرة كوميدية سوداء: “سيدي الرئيس.. ما أن سمعت باسمك حتى شعرت نغزة في صدري، ووجدتني أردد لنفسي: أهذا يُنسى؟! هو أصلاً ساكن فينا، مستوطن عنيد. كان مبثوثاً في كل تفاصيل حياتنا .. تذكروا صداماً؟! وهل كنا نعرف سواك .. هل مر يوم من أعمارنا دون أن نراك أو نسمعك؟! نفتح التلفاز نجدك فيه، نفتح الراديو نسمعك، نخرج إلى الشوارع نراك تؤثث جداريات الشوارع وواجهات المباني والفرق الحزبية ودوائر الدولة، نصعد وسائط النقل تتوزع صورك فراغاتها، نعود إلى بيوتنا نجدك متسيّداً واجهات الحيطان في غرف الاستقبال والنوم. المكان الوحيد الذي لم يجرؤ أحد على وضعك فيه هو (المرحاض)! كنت بالنسبة لنا كائناً كلي الحضور. أينما ألتفت أجدك. أهذا يُنسى؟!“.

….. استكمل، مع اللازمة التي فرّقها الراوي على طول الكتاب: “ما علينا”

  • يجد صلاح أنه هو ورفاقه -كإحدى العيّنات الحية لشطحات الخيال المنفلت للرئيس الهالك- ليسوا وحدهم المعنيين بهذا العنوان، بل إنه موجّه لكل من سيشاهد الفيلم، وهو أمر جيد كدعوة لعدم النسيان .. أو بالأحرى أن هذه الدعوة هي في الأصل تخصّ قضيتهم! وفي هذه اللحظة يتفتق قلب صلاح عن خاطرة يسري بها في لوعة لرئيسه الهالك الصامت، فيقول: سيدي الرئيس .. قيل إن الشخص الذي تلتقيه مرة وتفكر به خلال أربع وعشرين ساعة بعد غيابه، أعلم أنه ترك فيك شيئاً منه. حكمة جميلة وحتى رومانسية قد تصلح لعموم علاقات الصداقة. لكنها لا تصلح بأي حال لحكايتنا معك. أنت لم تكتف بترك أشياء كثيرة فينا، بل أخذت مني ومن زملائي أشياء تخصنا، أشياء لا يمكن استرجاعها. سنقضي أعمارنا كلها ونحن نفتقد ما أخذته منا“.
  • يعرّف المخرج الأمريكي بأبطال قضيته من خلال صحيفة (واشنطن بوست)، فيبدو “على نياته” وهو يحمّل سمة الحياة في ذلك البلد المرعب بمداهمات الاعتقال والتعذيب والقتل والإعدام والمقابر الجماعية، فضلاً عن استخدام الأسلحة الكيميائية وضرب القوانين والمواثيق والمعاهدات الدولية بعرض الحائط. غير أن (علاء شبّر) يقول في كل لقاء صحفي ما يُفحم، كأحد أعضاء (الأخوية)، وكشاهد من أهلها. ينقل عنه رفيقه صلاح قوله في إحدى اللقاءات، وهو يستنكر استيعاب الأمريكان لبّ قوله: لقد عشنا على مدى أربع وثلاثين سنة -بالمناسبة هي تقريباً عمري كله- بالقرب من مفرمة عملاقة بشفرات باشطة .. المفرمة تدور في صالة مظلمة مكتظة بالبشر .. دورانها عشوائي لا أحد يحزر المنطق الذي يضبطها .. وبالتالي لا أحد من الضحايا يدري متى تكون رقبته أو يده أو ساقه أو إذنه أو لسانه هو الذي سيقطع .. أنت مع المفرمة لا تملك سوى أن تنتظر. الانتظار هو المنطق الوحيد السائد في الصالة المظلمة. منطق الحظ .. هكذا كانت حياتنا مع مفرمة اللاقانون“.

ختاماً أقول: إن الكتاب يحمل من عور النفس البشرية ما يملأ الجوف قيحاً .. ولست ممن يُحسن قصّ القصص، غير أنها دعوة للقراءة وللتبصّر في شئون خلق الله .. وسؤاله العافية، وللضحايا الرحمة، وللطغاة القصاص العادل.

 

= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =

نقلاً عن المفكرة: جاء تسلسل الكتاب (31) ضمن قائمة لا تنتهي من الكتب التي خصصتها لعام 2024، والذي أرجو أن يكون استثنائياً بحق في جودة الكتب التي سأحظى بقراءتها خلاله، وهو في الترتيب (1) ضمن قراءات شهر ابريل الذي قرأت فيه (13) كتاب .. وقد حصلت عليه من معرض للكتاب بإحدى المدن العربية عام 2023 ضمن (400) كتاب تقريباً كانوا حصيلة مشترياتي من ذلك المعرض، وقد جاء كترشيح من البائع في دار النشر عندما سألته عن إصدارات في أدب السجون.

على الهامش: يتطرّق صلاح إلى كتاب (جمهورية الخوف) الذي استعاره خلسة من صديقه المثقف سامر -وقد موّه غلافه مستخدماً غلاف قصة (الساحرة) لأجاثا كريستي- وهو الكتاب الذي كان كفيلاً ليجعله (يتعفن في سراديب الأمن) حسب تعبيره، لو عُثر عليه في قبضته آنذاك! ولأن الكتاب ومؤلفه (كنعان مكية) العراقي اللاجئ -وقارئه كما اتضح- مغضوب عليهم أجمعين في جمهورية الخوف، فقد حمل الكتاب اسم مؤلف وهمي! أعادني هذا الكتاب لذاكرتي البعيدة التي جعلتني أقفز في التو نحو مكتبة العائلة العريقة التي أصبحت في حوزتي الآن، فقد كان طيف هذا الكتاب ذو الغلاف الأحمر وهو يعلوه وجه الرئيس العراقي الذي يعلوه بدوره حمرة مخيفة، قد تراءى لي .. حين كنت أنظر إليه وأنا صغيرة من فوق الأرفف نظرة ترقّب! وللمفارقة، وجدت الكتاب ممهور باسم (سمير الخليل و أحمد رائف) وهو من إصدار (الزهراء للإعلام العربي) ويعود في طبعته الأولى لعام 1991، حيث الورق الضارب للصفرة! سيكون على قائمة القراءة للشهر القادم. وكمفارقة أخرى، فقد وجدت في مكتبتي للمؤلف الحقيقي كتاباً بعنوان (في القسوة)، حصلت عليه العام الماضي من (منشورات الجمل). لم لا؟ سيكون كذلك ضمن قراءاتي القادمة.

وعلى رف (أدب السجون) في مكتبتي، عدد متزايد من الإصدارات .. أذكر منها: (السجينة) – تأليف: مليكة أوفقير / (أيام من حياتي) – تأليف: زينب الغزالي / (موسوعة العذاب) – تأليف: عبود الشالجي / (تاريخ التعذيب) – تأليف: بيرنهاردت ج. هروود / (ناج من المقصلة) – تأليف: محمد برو / (العقاب) – تأليف: الطاهر بن جلون / (حديث الجنود) – تأليف: أيمن العتوم / (ميشيل فوكو وقضايا السجون) – تأليف: محمد ازويتة / (كتابات من السجن) – تأليف: بوبي ساندز / (خسوف بدر الدين) – تأليف: باسم خندقي / (ثلاث خطوات إلى المشنقة) – تأليف: جان دوست/ (الفتاة الأخيرة) – تأليف: نادية مراد / (موت الأبد السوري) – تأليف: محمد أبي سمرا / (أسرار الصندوق الأسود) – تأليف: غسان شربل / (القوقعة: يوميات متلصص) – تأليف: مصطفى خليفة / (لست وحدك: ذاكرة حرية تتدفق) – تأليف: علي جرادات / (قافلة الإعدام: مذكرات سجين في طهران) – تأليف: بهروز قمري / (الساعة الخامسة والعشرون) – تأليف: قسطنطين جيورجيو

من فعاليات الشهر: يقابله في العام الهجري 1445 ما تبقى من شهر رمضان المبارك وعيد الفطر في العاشر منه .. وفي هذا الشهر عادة انقطع عن القراءة، غير أنني تمكّنت في هذا العام من استقطاع وقتاً يسيراً للقراءة، وكان مثمراً.

تسلسل الكتاب على المدونة: 481

تاريخ النشر: مايو 2, 2024

عدد القراءات:512 قراءة

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *